الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعر وفلسفة التكوين

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 3 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٦٥ -الشعر كفلسفة
بارمينيدس كان من أوائل الفلاسفة الذين أدركوا أهمية الإنعتاق من براثن الواقع ومن سلطة الإدراك، ولكنه لم يتخلص نهائيا من سحر الخيال، فحاول أن يبني معبدا فلسفيا مكونا من لبنات خيالية من الشعر الهومري. بطل الملحمة اليونانية الجديدة، وليس البطل الجديد للملحمة اليونانية الهومرية كما قد يعتقد البعض، هو هذه "الكينونة" المجردة والتي لا يمكن تمييزها عن العدم بأي حال من الأحوال. وربما هذا ما دفع نيتشة إلى إعتبار هذه الشخصية الأسطورية الغريبة للمؤسس بارمينيدس تلبس قناعا مغايرا للصورة السائدة في تاريخ الفلسفة، حيث يعتبرها نيتشة بأنها مؤسسة التجريد الذي يشل حركة الكينونة ذاتها في مفهوم يحتقر الحياة. ويعتبر بارمينيدس نفسه بأنه "فيلسوف بلا رائحة ولاعطر، بلا لون، بلا روح، بلا شكل ويتميز بإفتقاره التام للدم، والتدين، والدفء الأخلاقي! » - ولادة التراجيديا في عصر المأساة اليونانية Naissance de la Tragédie à l’époque de la tragédie grecque. ربما هذا العنف الذي لا مبرر له تجاه بارمينيدس يعبر عن رغبة نيتشة السرية في أن يكون هو كاتب هذا النص الذي لا يستطيع أي فيلسوف أو مفكر أن يتجاهله. لا شك أن بارمينيدس، رغم لجوءه للشكل الشعري في نصه، فإنه لم يكن شاعرا مثل هوميروس، وإنما فيلسوفا ومفكرا يحاول أن يستحظر القضايا الفلسفية المعاصرة له ويضيف للقاموس الفلسفي إصطلاحات ومفاهيم جديدة. فمنذ بداية رحلته الغريبة، وجد بارمينيدس نفسه مضطرا بأن ينسلخ عما يعرفه من علوم سابقة ومعارف مشبوهة وغير موثوق في صحتها، وعليه أن يتخلص من ملابسه التقليدية والدينية ويدخل معبد "الليثيا - الحقيقة" عاريا وكمولود جديد، ويترك ما يسميه بالـ "دوكسا" عند عتبة البوابة، وعليه أن يتسلح ويتحصن باللوغوس ليميز في كل لحظة وفي جميع المواقف بين الإحتمالين الوحيدين الممكن إختيار أحدهما. عليه في كل لحظة أن يفعّل عقله وحريته ليميز وليختار بين الكينونة والعدم، بين الرسوخ والسكون والثبات وبين الحركة والسيلان المستمر والصيرورةالدائمة. إن هذه القصيدة، ليست فقط تأكيدا أو تأسيسا للأنطولوجيا، ولكنها أيضا خطاب عن العلاقة بين الفكر والكينونة، هذا الخطاب الذي نراه يتشكل ويتطور خطوة خطوة من شذرة إلى شذرة مما تبقى من النص، الخطاب الذي يمكن أن يلازم الكينونة ويصاحبها، رغم أنه في هذا النص المؤسس لم يضع أو يرسم خارطة واضحة وبسيطة للطريق، رغم ما يوحي به النص في مدخل القصيدة : طريقين لا ثالث لهما. ذلك أنه في البداية كان هذا الباحث عن الحقيقة مدفوعا بالعاطفة والحماس والجمال وكذلك بالحدس بأنه قريب من إدراك هذا السر الذي طالما قتلته الرغبة في إمتلاكه وهو "جوهر الكينونة"، ثم ترك دور الباحث عن الحقيقة ولبس قناع النبي الذي يمتلك هذه الحقيقة، فتحول إلى المرشد والداعي والمعلن عن هذه الكينونة التي تم إكتشافها في منتصف الطريق، لابسا قناع الآلهة وناطقا بصوتها، وبذلك أصبح الفكر والخطاب مندمجا بكينونة الشاعر نفسه ووجوده. وبذلك تكاثرت الطرق وتعددت المسارب والسبل التي يمكن أن تقود إلى هذه الحقيقة. بالإضافة لتعدد وجهات النظر الفلسفية في هذا العصر وإختلاطها، وبالذات أفكار الفيثاغوريين وهيراقليطس، والذي يعتبر هذا النص، حسب العديد من المؤرخين كرد مباشر على نظرياتهم الفلسفية في الكون.
ولد بارمينيدس تقريبيا في حدودعام ٥١٥ ق.م حيث عاش هو وتلميذه زينون في مدينة إيليا وهي إحدى المستعمرات الأيونية على الساحل الغربي لإيطاليا، وقد كان ينتمي للطبقة الثرية للمدينة شأنه في هذا شأن الكثير من فلاسفة عصره. إن الظروف التاريخية والفكرية اليونانية في تلك الفترة، هي التي أثرت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على أن يحذر من خوض الطريق المؤدية إلى العدمية، بمعنى التفكير في "اللاشيء". ورغم أن المؤرخ الإنجليزي أنتوني جوتليب Anthony Gottlieb في كتابه حلم العقل The Dream of Reason: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة، يؤكد بأن الفيلسوف الإيلي لم يستقِ أفكاره من أي مصدر وكأن وحيا نزل عليه من السماء؛ وينفي زعم البعض بأنه أحد الفيثاغوريين المنشقِّين عن إيطاليا حيث لا يوجد دافع حقيقي للقول بصحة هذا الأمر اللهم إلا استخدامه الأدلة الاستنباطية التي أستخدمها الفيثاغوريين في الرياضيات في الوقت ذاته تقريبًا، لأن فكر بارمنيدس يتميز بالأصالة ولا يبدو أنه استقاه من أي شخص كائنًا من كان. ورغم أن بارمينيدس يحاول أن يقدم هذه القصيدة كنوع من الوحي الذي جاءه من الإلهة المقدسة، كما أن الشكل الذي اختاره لكتابة النص لم يكن مألوفًا على الأقل بالنسبة للفلاسفة؛ فقد استخدم الشعر سداسي التفعيلة وهو الشكل الذي كان شائعًا منذ عهد هوميروس وهسيود وكثير من الشعراء الأقل شهرة. ولم يكتب بالشعر من فلاسفة ما قبل سقراط سوى كزينوفانيس وإمبيدوكليس. وعلى عكس كزينوفانيس يقلِّد بارمنيدس الأسلوب والخيال اللذَيْن استخدمهما الشعراء الملحميون في المقدمة على الأقل. وتذكرنا رحلته برحلة أوديسيوس إلى هاديس، كما أن الإلهة التي ألقت عليه التحية تُذَكِّرُنَا بربات الشِّعر اللاتي كُنَّ يوحين بالرؤى الشعرية التقليدية. وهكذا تقول الإلهات اللاتي كُنَّ على جبل هيليكون - واللاتي ظهرن في مقدمة قصيدة « ميلاد الآلهة - Θεογονία Theogonía » لهسيود - للشاعر: «إننا لندري كيف نتحدث بالكذب كما لو كان صدقًا، ولكننا كذلك ندري كيف نتحدث بالحق متى أردنا ذلك.»
‏“Shepherds of the wilderness: wretched things of shame, mere bellies.
‏We know how to speak many false things as though they were true
‏but we know, when we will, to utter true things.”

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فخر المطعم اليوناني.. هذه أسرار لفة الجيرو ! | يوروماكس


.. السليمانية.. قتلى ومصابين في الهجوم على حقل كورمور الغازي




.. طالب يؤدي الصلاة مكبل اليدين في كاليفورنيا


.. غارات إسرائيلية شمال وشرق مخيم النصيرات




.. نائب بالكونغرس ينضم للحراك الطلابي المؤيد لغزة