الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الثاني) –الصراع بين التفسير الرمزي والحرفي–

ابرام لويس حنا

2024 / 3 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يذكر سيلسوس (أن المصريون يحكون أساطير بهدف نقل معنى فلسفي من خلال الأحاجي و الأسرار، لكن موسى –على النقيض- الذى ترك خلفه شرائع لأمة كاملة فقد حكى خرافات لا قيمة بها لان لغتها لا يمكن اعتبارها رمزية) (1).

من هذا القول يتضح أن سيلسوس لم يَرفض الرمزية بصورة تامة بدليل موافقته على رمزية العبادات المصرية للحيوانات على كونها محاولا للتعبير عن الحقائق الغامضة والدائمة وليس لعبادة الحيوانات الزائلة (2).

ومثلما رفض سيلسوس الفهم الرمزي للتوراة بسبب لغتها، فهكذا فرفوريوس الصوري (فيلسوف سوري الأصل وهو أحد المؤسسين للأفلاطونية الحديثة) هاجم طريقة تفسير أوريجانوس الرمزي لنصوص العهد القديم قائلاً:

(هناك أناس تملكتهم الرغبة لإيجاد حل للدناءة أو للشر القائمة في كتب اليهود المقدسة بدلاً من هجرانها فراحوا يلجأون إلى تفسيرات متناقضة مع ما هو مكتوب بالفعل ومتنافرة هذه التفسيرات بدلاً من تقديم حججاً وأدلة ضد الغير أو تقديم دفاعيات لهذه السخافات فإننا نرى إنها تعبر عن افتخارهم بأنفسهم و ذواتهم فمثلاً نراهم يتباهون بأن ما جاء على لسان موسى هو من غوامض الكلم وانه وحي ملئ بالأسرار، ذاك الغموض الذي يجعل العقل الإنساني اكثر حيرة واشد اضطراباً، ومثال على هذا العبث، خد على مثلاً الرجل الذي التقيت به في صغري ، والذي يحتفى به كثيراً ومازال يتم الاحتفاء به، بسبب الكتابات التي تركها، نعم أشير إلى أوريجانوس، المُكرم كثيراً من قبل معلمي هذه العقائد، هذا الرجل الذي سمع للفيلسوف الأفلاطوني أمونيوس والذي كان فيلسوفاً مقتدراً في زماننا هذا و قد استفاد أوريجانوس كثيراً من معلمه في معرفة فروع المعرفة، إلا انه سلك اختياراً مخالفاً عن معلمه في الحياة، فأمونيوس كان مسيحياً لأبوين مسيحيين إلا إنه عندما انكب على التعليم ودراسة الفلسفة سلك على الفور طريق الحياة التي تفتضيها الشرائع/ النواميس، لكن عندما تعلم أوريجانوس الأدب اليوناني كشخص يوناني، تحول نحو الطياشة البربرية، وفي تلك الطياشة البربرية استثمر نفسه و مواهبه الأدبية فقد كان يسلك كمسيحي مضاداً للنواميس، أما عن آرائه عن المادة والإله فكان مثل الشخص اليوناني الذي يمزج بين التعاليم الإغريقية بالأساطير الأجنبية، لأنه كان يدرس باستمرار لأفلاطون منكباً على كتابات نومانويس (القرن الثاني الميلادي) (3) الذي فسر موسي و الأنبياء بصورة رمزية وكرونيوس (4) و أبوللوفانيس (5) و لونجينوس (6) و مودراتوس (7) و نيقوماخوس (8) الذين كانوا مشهورين بين الفيثاغوريين، مستعملاً كتابات كايرومون الرواقي (9) و كورنوتوس (10) مما جعله عالماً بالتفسيرات الرمزية للأسرار اليونانية مطبقاً إياها على الأسفار اليهودية) (11).

ومِثلما رفض سيلسوس الفهم الرمزي لكلمات موسى، هكذا رفض يوسيفوس يرفض فهم كذلك النصوص الوثنية بطريقة رمزية، كالتالي:

(لأن الفلاسفة العالمين بالحقيقة و ببواطن الأمور في بلاد اليونان يعلمون حق العلم الذي قلته هو ليس بخاف على فطنتهم كما أنهم لا يجهلون أبداً الحيل والطرق الملتوية العقيمة التي اعتاد الشعراء أصحاب مذهب المجاز اللجوء إليها ولعل هذا هو السبب في أن هؤلاء الفلاسفة الحكماء قد أزدروا أراء الشعراء عن حق و اتفقوا معنا في التوصل إلى مفهوم صادق و ملائم عن الله، ومن هذا المنطلق فإن أفلاطون اعلن عدم السماح لأي شاعر من الشعراء بالدخول إلى جمهوريته (الفاضلة) بل إنه أبعد عنها هوميروس نفسه ولكن بعد أن أنثى عليه وكلله بأكاليل الغار والفخار وضخمه والحق إنه أقصاه مع باقي الشعراء عن جمهوريته الفاضلة لا لشيء إلا لكي يمنعه من تشويه العقيدة الحقة عن الله بأساطيره وخزعبلاته) (12).

وهكذا رفض المدافع المسيحي أثيناغوراس Athenagoras التفسير المجازي في تفسير الأساطير اليونانية للألهة معلقاً على امبادوكليس Empedocles مؤسس نظرية العناصر الأربعة الشهيرة بأن العالم يتكون من أربعة عناصر ممزوجة معاً بنسب مختلفة (النار، الهواء، الماء، والتراب) قائلاً :

(ومنهم من يقع في شطحات شعرية مثل من يفسر الآلهة كامبادوكليس Empedocles الذي قال أن (الإلَه جوبيتر هو النار ، والإلَهَة جونو هي مصدر أو حاملة الحياة (الأرض)، وبلوتو (الهواء)، والآلهة نستيس التي فاضت دموعها فتكونت الينابيع للمخلوقات) (13).

فهاجمه أثيناغوراس بقوله (إن كان زيوس هو النار و هيرا التراب و أيدونيوس أو هدونيوس الهواء، و نستيس الماء، وهؤلاء يمثلوا العناصر المكونة للأشياء ، فعلى هذا لا يمكن تكون هذه العناصر آلهة لأنهم من المادة التي قسمها اللـه لأجزاء ... فكيف يمكن لأحد أن يقول إنهم آلهة...ولماذا أتطاول على سماحتكم بمزيد من القول، في حين أنكم تعلمون جيداً ما قالوه أولئك الذين أحالوا هذه الأشياء إلى الطبيعة...فهذه العناصر متغيرة و الاله خالد وغير متغير) (14).

فزيوس عند اليونانيين يكافىء الإله جوبتير الروماني كبير الآلهة وملك الملوك (النار أو النور)، وهيرا اليونانية تكأفا الآلهة جونو الرومانية (التراب)، والإله أيدونيوس أو هدونيوس وهو يُقابل الاله بـلوتو أو هاديس الروماني (الخفي)

كذلك رفض أرنوبيوس الأفريقي المدافع Arnobius of Sicca الرمزية اليونانية و الرومانية مستغرباً (الإصرار على تفسير الآلهة بطريقة رمزية!! وكونه نتيجة الروايات البذيئة والشهوانية) (أرنوبيوس ، ضد الوثـنيين adversus nationes، الكتاب الخامس، المقطع 38-45).

لكن المُلاحظ مِن هذا الهجوم بأنه اليونانيين والرومانيين يُنادوا (برمزية) آلهتهم، وليست مادية أو حرفية، لكن غيرهم مَن هاجمهم بحتيمة التفسير الحرفي، لهذا دافع الإمبراطور يوليان المُرتد عن المسيحية لآلهة اليونان (الإمبراطور الروماني من عام 361: 363م) بأن اختلاف النصوص اليونانية فيما بينها يُظهر أن هناك معنى رمزي خفي ،قائلاً:

(عندما تكون تتضارب أساطير الأمور المقدسة في الفكر ، فهي تصرخ بصوت واضح و عالي أن لا نفسرها بطريقة حرفية ولكن ندرسها لكى نتعرف السر الخفي من وراءها، فالعناصر المتناقضة هي أكثر قيمة من العنصر الجامد الصريح المباشر [ليس حوله تناقض] و كلما أزاد استخدم العنصر الواضح والصريح أزداد الشك في اعتبار الآلهة عظيمة ونبيلة بل يتضح لنا نها آلهة بشرية، بينما على الجانب الآخر ، عندما يتناقض المعني يصبح هناك أمل بأن يتجاوز البشر المعنى الواضح إلى ما وراءه وان الذكاء قد يرتقي لفهم الطبيعة المميزة للآلهة التي تتجاوز كل الموجودات) (15).

لهذا نَبه الإمبراطور يوليان أن أن نصوص العهد الجديد ليست إلهية أو مُلهمة لكنها مجرد نصوص تغري الجزء الخاص بالروح المُحب للأساطير، قائلاً:

(اعتقد انه من الملائم أن أوضح لكل البشرية الأسباب التي دعتني للاقتناع بأن التلفيق الذي قام به الجليليين [يقصد المسيحيين] هو خيال /أساطير جُمعت بخبث، وعلى الرغم من عدم وجود أي شيء إلهي في هذا التلفيق وبالرغم كذلك من اعتماده الكلي على جزء الروح الذي ينجذب للأساطير إلا أن هذا التلفيق هو شيء صبـياني وأحمق ،مما حفز البشر ليعتقدوا أن هذه الحكايات الوحشية واقعية /أو حق) (16).

لذا كان هناك تساؤل قديماً ما إن كانت نصوص التوراة والعهد القديم والجديد، ما إن كانت أسطورية أم حقيقة، يُسجل تلك الحيرة العمل الأبوكريفي المنسوب ليوستينوس الشهيد (مسائل و أجابتها للأرثوذكس Quaestiones et responsiones ad orthodoxos) سؤالاً من شخص مسيحي مجهول الهوية عن (سبب وجوب فهم المصطلحات الجسدية/ المادية التي استخدمها الشعراء لوصف الآلهة اليونانية رمزياً، وسبب وجوب فهم المصطلحات الجسدية/ المادية التي استخدمها الأنبياء لوصف الله رمزياً و أليس هذا يُبرهن على أسطوريتهما ؟) (17).

المراجع والحاشيات:
==============
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الأول، الفصل 20.
(2) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الثالث ، الفصل 19.
(3) نومانويس Numenius فيلسوف سوري عاش في أواسط القرن الثاني الميلادي ، وترك أثراً كبيراً على أفلوطين السكندري وغيره من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة و تكمن أهميته في أنه حاول التوفيق بين أفلاطون و فيثاغورس مع الميل إلى الأخير ، مما دفع الباحثين لاعتباره فيلسوفاً فيثاغورياً.
(4) كرونيوس Cronius أحد الفلاسفة الفيثاغوريين وكان معاصراً لنومانويس.
(5) أبوللوفانيس Apollophanes فيلسوف رواقي عاش في أنطاكية في القرن الثالث الميلادي.
(6) لونجينوس Longinus فيلسوف وخطيب أثيني مشهور ، عاش في أواسط القرن الثلاث الميلادي ، تتلمذ لبعض الوقت على يدي أمونيوس السقاص Ammonius Saccas السكندري وبقي محافظاً على الأفلاطونية
(7) مودراتوس Moderatus من اشهر الفلاسفة الفيثاغوريين في القرن الأول الميلادي.
(8) نيقوماخوس Nicomachus أحد الفلاسفة الفيثاغوريين ( 20 ق.م – 120 م) وكانت له شهرة ذائعة في الرياضيات.
(9) كايرومون السكندري Chaeremon of Alexandria فيلسوف رواقي ومؤرخ سكندري عاش في القرن الأول الميلادي ، عمل بعض الوقت أمينا لمكتبة السرابيوم في الإسكندرية قبل أن ينتقل لروما ليكون معلماً لنيرون ومن اهم مؤلفاته " تاريخ مصر".
(10) كورنوتوس Cornutus فيلسوف رواقي أقام في روما على عهد الإمبراطور نيرون.
(11) يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، الكتاب السادس، الفصل 19، المقطع 2-9، راجع كذلكAdolf von Harnack, 1916, 1921), Porphyrius, Gegen die Christen, fr.39, p.64-66, / Robert Berchman, 2005, Porphyry Against the christians, Ancient Mediterranean and Medieval Texts and Contexts, Studi) Series: Studies in Platonism, Neoplatonism, and the Platonic Traditi (Book 1) ,Brill Academic Publishers, ISBN: 9789004148116, 139-40.
(12) يوسيفوس، ضد أبيون، الجزء الثاني ، المقطع 255 -257.
(13) امبادوكليس، في الطبيعية On Nature، فقرة 6.
(14) أثيناغوراس الأثينى، الدفاع Apology، الفصل 22.
(15) Julian (MCMXIII), The works of the Emperor Julian (Orations 6–8. Letters to Themistius, To the Senate and People of Athens, To a Priest. The Caesars. Misopogon), Vol.II, With An English Translation by: Wilmer Cave Wright, Loeb Classical Library. No. 29, p.119.
(16) Ibid, p.319.
(17) مسائل وأجابتها للأرثوذكسQuaestiones et responsiones ad orthodoxos؛ السؤال العاشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرمزيات و العالم الحقيقي
بارباروسا آكيم ( 2024 / 3 / 8 - 09:22 )
لقد كان التفسير الفلسفي اليوناني تحديدا الفيلسوف _ أمبادوكليس _ في رد العالم الى اربعة جواهر رئيسية ( الماء ، الهواء ، التراب ، النار )
تفسيرا ثوريا
وقد سبق هذا الرجل زمنه بكثير
و لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه الكثير منا هي معرفة الحقيقة أو الصدمة بحقيقة العالم
فالتفسير الواقعي أو الحقيقي لطبيعة الأشياء
يجعل العالم قاتما ..
يدخل الكثيرين في طور الإكتئاب وصولا الى الانتحار

بدليل أمبادوكليس نفسه الذي انتحر ..هذا مع الأخذ بعين
الاعتبار ان الرجل لم يكن رافضا للخرافات تماما
حيث انه آمن بالتناسخ
فما بالك بالذي فهم الطبيعة المادية للعالم بشكل جيد ؟

اذا.. فقد كان التفسير الرمزي حاجة ملحة
لإيصال المعلومة الصعبة ، او لشرح خرافة لا تقبل

تحياتي و تقديري


2 - تاويل او تفسير رمزي
منير كريم ( 2024 / 3 / 10 - 22:15 )
تحية للحضور الكريم
ما المقصود بالتفسير الرمزي ؟
هل هو التعبير عن الاشياء بالرموز ؟ عندذاك لايكون تفسيرا بل تعبيرا
هل المقصود بالتفسير الرمزي التاويل ؟ فالتاويل اعطاء معنى للاشياء بغير الحاجة كليا للرموز
التفسير الرمزي غامض
شكرا

اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah