الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جون كوبر: سقراط والفلسفة كأسلوب في الحياة

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 3 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الفلسفة اليونانية القديمة يوجد بعد يميزها، ربما أكثر من أي بُعد آخر، عن الفلسفة كما نفهمها اليوم، وحتى منذ نهاية العصور القديمة: فكرة الفلسفة كأسلوب حياة. لا وجود لهذا التصور، على الإطلاق، في جميع العصور أوعند جميع المؤلفين الفلاسفة. لكن بالنسبة للعديد من الفلاسفة القدماء، ووفقا لصورتها في الأذهان، لم تختزل الفلسفة في مجرد مجال بحث. كانت الفلسفة في العصور القديمة، كما كانت دائما منذ ذلك الحين، مجموعة من المشكلات التي تتحدى الذكاء، والأسئلة التي يجب تعميقها، شفويا أو كتابيا أو على النحوين معا، والمفارقات التي يجب حلها، والخلاصات التي يجب التصريح بها ودعمها بالحجج الفلسفية التي يجب أن تصاغ بدورها وتفسر، والنظريات البديلة والمنافسة، الخاصة بواضعها، والتي نشجعها ونرفضها لأسباب تنتقد من جديد او يقع الدفاع عنها ونقلها للآخرين.
لكن في العصور القديمة بشكل عام، لم يكن الفلاسفة "متخصصين" فقط في هذا المجال الفكري أو ذاك، ولم يقتصر نشاطهم على تعليم المذاهب أو الأساليب الجدلية، إلخ. تميز فلاسفة العصور القديمة عن بقية الرجال على وجه التحديد من خلال أسلوب حياتهم، وتميزوا حتى عن أولئك الذين يعملون في وظائف الأساتذة أو غيرها من المهن العلمية، مثل الطب والرياضيات. لا أفكر هنا في صور المشهد الشائع، كإعفاء اللحية أو المشي في الأماكن العامة في المدينة بأسمال رثة؛ عاش الفلاسفة فلسفتهم - وليس فقط بمعنى أنهم كرسوا كل وقتهم للبحث في الفلسفة. يكرس الأطباء وعلماء الرياضيات أنفسهم أيضًا للبحث في مجالات تخصصهم، لكن الفيلسوف، من جانبه، جعل الفلسفة أساس حياته بأكملها. أن تكون فيلسوفًا في الواقع، بالنسبة للعديد من الفلاسفة القدماء، لم يكن يتعلق بالبحث عن الفلسفة ومناقشتها وتدريسها، بل يعني أن تعيش حياتك بأكملها بطريقة معينة - فلسفيًا - وتحث الآخرين عليها أيضا بنفس الطريقة.
نحن الآن ندرك جيدًا هذا البعد في الفلسفة القديمة، وهذا يعود إلى حد كبير إلى اعمال الباحث الفرنسي بيير هادوت في الستينيات، المتخصص في أفلوطين والأفلاطونية الجديدة. بالنسبة له، إنه جوهر كل الفلسفة القديمة، من أصولها الما قبل سقراط حتى نهايتها، مع آخر الأفلاطونيين الوثنيين في القرن السادس الميلادي. ومع ذلك فإن استنتاجاتها مبالغ فيها.
من الواضح أن سقراط في الواقع، أو بالأحرى صورته كما انعكست في أعمال أفلاطون وزينوفون وغيرهم من مدوني المحاورات السقراطة الذين كانوا يترددون عليه، هو من دشن التطوير اللاحق للفلسفة القديمة كطريقة في الحياة، ومن رسم الخطوط العريضة. على أي حال، فإن الشخصية الفلسفية لسقراط الذي عاش حياة فلسفية، كما عكستها محاوراته على وجه الخصوص، لعبت بلا شك دورًا حاسمًا في الأهمية التي اكتساها هذا المفهوم في الفلسفة خلال الفترة الهلنستية وقبلهاً في الفلسفة القديمة.
مؤخراً، جعل ألكسندر نيهاماس، في كتابه "فن العيش"، من شخصية سقراط أحد نماذج هذ الفلسفة. يربط نيهاماس سقراط بمونتين ونيتشه وفوكو، لأنهم يمارسون جميعًا "فن عيش" معينًا من خلال أعمالهم الفلسفية المكتوبة أو حتى الشفوية. يظهر كل منهم كشخص غير عادي، كفرد منفصل، "ذي شخصية غير عادية وفريدة من نوعها، تجعله سماته وأسلوب حياته متميزًا عن بقية العالم وتجعله لا يُنسى ليس فقط لما فعله أو قاله، ولكن أيضًا لما كان عليه ".
في هذا المقال، لن أتطرق إلى مسألة أصول فكرة الفلسفة كأسلوب حياة، ولا تأثير سقراط في تأسيس هذه الفكرة في التيارات اللاحقة للفلسفة القديمة. ولن أتبع مسار نيهاماس الذي يُظهر كيف مارس سقراط نشاطه الفلسفي كفن لبناء الذات باعتباره شخصا. أقترح ببساطة فحص تصور سقراط للفلسفة نفسها كطريقة للعيش، والفلسفة كما يجب تجربتها وليس فقط كموضوع للتفكير أو المناقشة.
عندما أستخدم كلمة "سقراط"، ما لم أحدد أن الأمر يتعلق بشخصية تحمل الاسم نفسه في هذا العمل أو ذاك، فأنا أشير إلى الشخصية التاريخية كما يراها التقليد القديم: وهذا يعني من خلال الأعمال السقراطية (التي هي المصدر الوحيد، على الأقل المصدر الرئيسي، الذي تعلم من خلاله التقليد القديم عن سقراط) - وعلى وجه الخصوص، بشكل واضح، من خلال محاورات أفلاطون.
سأدافع عن الأطروحة التي بموجبها، بالنسبة لسقراط، أن نعيش حياة فلسفية يعني أن نعيش من خلال اعتبار أن العقل، الذي يُدرك على أنه ملكة التفكير والتحليل من أجل رؤية حقيقة كل شيء، هو أسمى وأهم ما لدينا من ملكات. لذلك، فإن عيش حياة فلسفية يعني أن نعيش وفقًا للعقل المحدد على هذا النحو - يمكننا أن نقول العقل الفلسفي - في جميع أعمالنا. كان لدى سقراط فكرة خاصة جدًا عما يستلزمه العيش وفقًا للعقل، وفي هذه النقطة لم يتبعه دائمًا خلفاؤه.
هذا هو هدفي الرئيسي هنا: استكشاف وشرح هذه الخصائص. لكن في كلمة واحدة، بالنسبة لسقراط، كما بالنسبة لأولئك الذين خلفوه، أن يكون المرء فيلسوفًا وأن يعيش حياة فلسفية كان يعني العيش وفقًا للعقل،الذي أدرك على أنه ملكة التفكير والتحليل في ضوء الحقيقة.
يكفي دفاع أفلاطون عن سقراط ليوضح لنا كيف انتشرت صورة سقراط كفيلسوف عاش فلسفته. تلقي مرافعة افلاطون الضوء أيضًا على ما يعنيه سقراط حقًا بالفلسفة كأسلوب حياة. يوصف سقراط هنا بأنه كرس حياته، لسنوات وبدون انقطاع على ما يبدو، للتحدث في الأماكن العامة بالمدينة مع بعض رفاقه المواطنين في أثينا. كان من بينهم شبان اجتمعوا للاستماع إليه، ولكن أيضًا رجال بالغون، راسخون ومعروفون في المجتمع الأثيني.
كان لهذه المقابلات طابع فلسفي (وفقًا لمعنى مصطلح "الفلسفة" الذي انتهى المطاف بإبسناده إليها، والذي دافع عنه أفلاطون نفسه). وكانت تتمثل في أسئلة حول الحياة البشرية طرحها سقراط في بداية المقابلة وفي أسئلة إضافية صاغها ضد إجابات المحاور. في أسئلته (والتعليقات المرتبطة بها) كان التركيز على علاقات الاقتضاء وعدم الاتساق المنطقية وما شابهها؛ كان يحاول أن يكتشف أثناء التحاور ما كان يفكر فيه محاوره حقًا، على افتراض أن هذا الأخير لديه آراء حول حقيقة ما هو مطلوب. يعتقد سقراط أن كل من يدعي أنه يعرف ما هو صحيح، يجب أن يكون مستعدًا لشرح آرائه وتبريرها من خلال اللجوء إلى الحجج التي تقدم نفسها بالفعل كما هي، ويجب أن يلتزم بقبول جميع النتائج المنطقية أو الآثار الأخرى التي يمكن استخلاصها من الأولى كآراء إضافية (و تكميلية).
بالإضافة إلى ذلك، ركزت محادثاته حصريًا على حياة الإنسان، وكيفية عيشها بشكل جيد وصحيح قدر الإمكان؛ وبشكل أكثر تحديدًا، فإن الأمر تعلق بالتساؤل عن كيفية تصور وتقدير الفضائل التقليدية المختلفة التي حظيت باهتمام كبير في ذلك الوقت (العدالة، الشجاعة، الاعتدال، وما إلى ذلك)، إذا ما قورنت بأفضال أخرى تمنح أيضا القيمة على ما يبدو (مثل صحة الجسم، أو القوة البدنية، أو الثروة، أو الملذات الجسدية أو أنواع أخرى من الملذات، إلخ).
نتذكر أن سقراط يعلن في مرافعة أفلاطون أن روح كل فرد، والحالة التي يكون عليها، سواء كانت سليمة أو مريضة، هي الأكثر أهمية وتتخطى بعيدا القيم الأخرى. ووفقًا له، فإن صحة الروح تعتمد كليًا على قدرة الفرد على الفهم والشرح والدعم من خلال التفكير الفلسفي وتحليل القيم والمعتقدات الخاصة به، وذلك بحزم ودقة. لأن جميع قرارات وأفعال الفرد تستند إلى فهمه لقيمه ومعتقداته. وبالتالي، فإن الصحة الجيدة أو السيئة لروح كل فرد تعتمد على استخدام أو عدم استخدام عقله الذي هو الدليل الأضمن والأكثر إخلاصًا لقيادة حياته في ضوء الحقيقة، وعلى كيفية استخدامه بشكل كامل وصحيح. هل استخدام كل شخص لهذه القوة يرقى إلى مستوى ما تتطلبه ضمنيًا هذه القوة نفسها التي تسمح لنا بمعرفة وتحديد ما يجب التفكير فيه والقيام به؟
نتذكر أيضا أن سقراط أكد أن حياة الإنسان الذي يفتقر إلى الفحص لا تستحق العيش (سأعود إلى هذه النقطة لاحقا). حياة سقراط هي الحياة التي قضاها في فحص نفسه والآخرين في ذات الوقت خلال المقابلات التي يسأل فيها المرء نفسه عما إذا كان من الممكن تبرير القيم بعقلانية؛ تلك التي نؤمن بها والالتزامات التي نتخذها.
لكن هذا المسار يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. فكرة أن صحة روح الفرد تحدد إمكانية أن تصبح حياته أفضل أو أسوأ تعني أنه يتصرف في الحياة اليومية - ليس فقط من خلال المشاركة في هذه المحادثات - وفقًا للقيم وللالتزامات التي نجح فحص الآخرين وهو نفسه في تعزيزها حتى الآن.
لا يمكن الدفاع عن مفهوم سقراط حول أهمية حالة روح الفرد إذا اختار الانصياع لسلطة أخرى، بدلاً من اتباع آرائه الخاصة المستمدة من التفكير في القيم الحقيقية (حتى لو تعلق الأمر باستنتاجات مؤقتة). تعلمنا محاورات أفلاطون مثل بروتاغوراس أو مينون أنه وفقًا لسقراط (الأمر هنا يتعلق، إذا جاز التعبير، بعلم النفس البشري، وعلم نفس الفعل البشري) فإن الناس تفعل دائمًا ما تعتقد أنه الأفضل بالضرورة عندما يحين وقت العمل. لكن لا يزال من الممكن، مع ذلك، أن يطيع البعض سلطة الآخرين بدلاً من سلطة عقلهم، ويعتقدون أن هذا هو الأفضل لهم. سيكونون بالتأكيد، كما يمكن للمرء أن يقول، غير قادرين تمامًا على تبرير وجهة نظرهم بشكل منطقي - لكنهم لا يهتمون، لأنهم يتجاهلون قيمة أرواحهم.
من ناحية أخرى، فإن أي شخص يؤيد مفهوم سقراط حول همية الروح لا يمكنه أن يعيش إلا من خلال التوافق مع قيمه والتزاماته. وهكذا، وفقًا لسقراط، الفلسفة كطريقة للعيش - لعيش الحياة التي قادها بنفسه والتي أوصى تلاميذه الشبان والمحاورين الآخرين بعيشها - هي في الأساس الانخراط، مع أكثر صرامة وثبات ممكنين، دون أي تحفظ، لاستخدام عقله، في ضوء الحقيقة، في جميع القرارات والأفعال التي تشكل الحياة. كان يعتقد أنه فقط من خلال تقديم هذا الالتزام، يمنح المرء روحه الرعاية التي تتطلبها.
لم أقم لحد الساعة سوى بتقديم رسم تخطيطي لفكرة سقراط عن الفلسفة كأسلوب حياة. تثار أسئلة كثيرة حول عدة عناصر من هذا التصور؛ سوف أقوم بتغطية بعضها في ما يلي.
افترضت أن سقراط كان أول فيلسوف قديم يعتبر الفلسفة طريقة حياة، وأن مفهومه قدم إطارًا لمزيد من التطوير لهذا الجانب من الفلسفة القديمة. يمكننا أن نرى بالفعل في أصل هذا التطور فكرة أن كونك فيلسوفًا هو في الأساس الالتزام باستخدام عقلك لتعيش حياتك. الحياة الفلسفية هي ببساطة حياة تتوافق مع هذا المبدأ. كان هذا هو الالتزام الأساسي الذي تعهده كل فيلسوف حقيقي تعاطى للفلسفة، واختار أن يكون فيلسوفًا، بغض النظر عن انتمائه لمثل هذه المدرسة القديمة أو تلك.
يؤكد بيير هادوت أن تمسك الفرد بمذاهب هذه المدرسة أو تلك ينتج بالضرورة عن "خيار وجودي". لكن هذا ليس صحيحا. لا شيء وجودي يسيطر على المفاهيم أو التوجهات الفلسفية التي قد تؤهل فيلسوفا من العصور القديمة للتقليد اللاحق (مثلا، أفلاطوني أو أرسطي، رواقي، أبيقوري أو بيروني متشكك).
تأتي هذه التوجهات من كون الفرد قبل، من خلال التفكير الفلسفي في ضوء الحقيقة، بعض الأفكار التي تدعمها هذه المدارس الفلسفية، بقدر ما يكون ذلك مناسبا للتفكير في القيم والأفعال إذا استخدم عقله بشكل كامل وصحيح. إن قرار الجميع بالالتزام بهذه الفلسفة أو تلك، مهما كانت العواقب الحاسمة على أسلوب حياتهم، لا يستحق أن يُطلق عليه وصف "وجودي". الخيار الوحيد "الوجودي" هو الالتزام بأن تصبح فيلسوفًا، وأن تعيش وفقًا للعقل الفلسفي. إن اختيار أن تصبح أبيقوريًا أو رواقيًا، مثلا ، يعتمد - وبحسب معايير هذه الحركات الفلسفية نفسها - على الحجج العقلانية لصالح المبادئ الأساسية للمدرسة الفلسفية المعنية. لفهم ماهية الفلسفة القديمة فهما صحيحا، من الضروري للغاية إدراك قوة هذا الالتزام الأساسي للعيش وفقًا للعقل الفلسفي. هذا ما يجعل من معشر الفلاسفة مجتمعا متميزًا عن باقي الناس.
تتميز فلسفة سقراط كأسلوب حياة عن جميع التصورات اللاحقة بكونه قضى حياته في فحص الأفكار الأخلاقية للآخرين بلا هوادة بالموازاة مع فحص نفسه. يضع سقراط صحة روحه فوق كل القيم الأخرى، ويجعل هذا الخير يعتمد بشكل وثيق على التحقيق الفلسفي والفحص الذاتي، بحيث أنه في شهادة أفلاطون عن محاكمته، صرح لهيئة المحكمة أنه سيرفض التبرئة المقترحة إذا اضطر بسببها إلى التوقف عن نشاطه . لكن لماذا رفض ذلك؟ أعلن أولاً على سبيل التوضيح أنه ليس مدينا لهم بالطاعة بقدر ما هو مدين بها لأبولو، الذي ألزمه رده على طلب شريفون بتكريس نفسه لفحص آخر. ويضيف أن هيئة المحكمة، بصفتها ممثلة للشعب الأثيني، يجب أن تجد أن من مصلحتها أن تستمر بدلاً من التوقف. ليس لدي أدنى شك في أن سقراط صادق في تقديم هاتين الحجتين (على الرغم من أنه من غير المحتمل أن تكونا قد أقنعتا هيئة المحكمة).
بعد ذلك بقليل، مباشرة بعد إدانته، أضاف ما كان بالنسبة له سيكون أعمق حجة وأهمها للاستمرار، مهما حدث، في التفلسف كما يفهمه. عندما يفكر في إمكانية الحكم عليه بالنفي، وهو حل ميؤوس منه بالنسبة له ما لم يتوقف في نفس الوقت عن الفلسفة، فإنه يعيد التأكيد على أن التوقف عن الفلسفة سيكون بمثابة عصيان لأبولو؛ وقد حذر بالفعل من أنه لن يتوقف. لكن لا بد أن هيئة المحكمة لم تصدقه في المرة الأولى، لذا صوتت على إدانته. لذلك سيعتقد اعضاؤها، كما يقول، أنه من السخرية أن يستمروا في تكرار نفس الشيء، وأنه يقول شيئا دون أن يفكر فيه حقا، وحتى أنه يتفاخر. لكنه يتابع ليقول إنهم لن يصدقوه حتى لو قال - وهذه بالتأكيد الحجة الأعمق - إنه في الحقيقة "بالنسبة للإنسان فإن أعظم خير هو الحفاظ يوميا على الفضيلة وعلى كل ما تسمعوني أناقشه، عندما أخضع نفسي والآخرين لهذا الاختبار، وأذهب إلى حد القول إن الحياة التي تفتقر إلى هذا الاختبار لا تستحق أن تعاش".
لكن لماذا يعتقد أن الترفيه عن نفسه كل يوم بإخضاع نفسه والآخرين للفحص هو أعظم فائدة - عظيمة لدرجة أنه لن يتخلى عنها أبدا؟ من المؤكد أنه وفقا له (سأعود إلى هذا لاحقا) الطريقة الوحيدة لتحسين فهم نظام القيم الخاص به باستمرار، للحصول على ثقة معقولة فيه من خلال إخضاعه لفحص عقلاني - أو تحسينه بطريقة أخرى، من خلال صقله أو توضيحه، مثلا. يتعلق الأمر بوضع هذا النظام باستمرار على المحك من خلال مواجهته بآراء الآخرين، أو تعلم حجج جديدة، أو لتعميق فهم الحجج التي سبق للمرء أن جرب قوتها لتبرير قيمه والتزاماته الخاصة.
يبقى أن نعرف لماذا تتطلب الحياة الفلسفية، الحياة العقلانية، هذه المناقشات وهذه الاختبارات بشكل مستمر، حتى الموت. إلى أي مدى يعد هذا شرطا ضروريا لصحة الروح التي يوليها سقراط أهمية كبيرة؟ قد يعتقد المرء أن فترة معينة من الممارسة لفحص الذات وآراء الآخرين كافية. يمكن بعد ذلك وضع حد لهذه الممارسة المستمرة للتفكير والفحص الفلسفيين، والشروع في العيش أخيرا، واثقا من أن وجهة نظر المرء، التي تشكلت وتأكدت بهذه الوسيلة، قد تم تأسيسها على أساس عقلاني متين وتم اعتمادها من قبل العقل نفسه.
هكذا يتم ضبط خير الروح. كل شخص سيفهم تماما كل ما له قيمة في الحياة البشرية ليعرف كيف يتصرف في أي موقف، وإذا لزم الأمر، لإنتاج تبرير منطقي مناسب لكل من أفعاله. لذلك فإن جعل رعاية الروح أولوية يتمثل في العمل بحزم ودأب على أساس هذه المعرفة في الحياة اليومية، دون الحاجة إلى تخصيص وقت للتفكير الفلسفي والمناقشة. يمكن لأي شخص أن يعيش (أو يستأنف) حياة سياسي أو طبيب أو رياضي أو مزارع أو عامل، أو أي كان. يمكن توقع أن الحياة التي يعيشها كل منهم ستتغير بطريقة ما، وربما تصبح أكثر اتساقا، وبالتأكيد سيتم توسيع آفاق تلك الحياة.
إن المسار الذي كان من الممكن أن يسلكه كل فرد في الفلسفة، والالتزامات التي كان سيحاول تبريرها، كل هذا سيظهر بطرق عديدة في حياته، ولن يكون من العبث أن نطلق على هذه الحياة حياة فلسفية. ومع ذلك، ستصبح حياته من الآن فصاعدًا حياة مواطن عادي، حياة تظهر فيها آثار الفلسفة، بالطبع، ولكن دون أن تكون حياة فلسفية، الأمر الذي يتطلب الانخراط الكامل في الحجاج والتحليل الفلسفيين.
إليكم كيف كان كاليكليس في مخاورة حورجياس لأفلاطون، إذا تبنى المرء نظرة أكثر خيرية من نظرته، يعتبر الفلسفة: يجب على المرء أن يمارس الفلسفة عندما يكون شابا، ولكن يأتي وقت تكون فيه هذه الممارسة كافية؛ فلكل فرد الحرية في التوجه إلى مهنة أخرى، مهمة حقًا وجديرة بالاهتمام، تاركا وراءه فقط التزاما عرضيا أو مساعدا على دراسة الفلسفة وعلى المناقشة. هذا أيضا ما اقترحه سينيكا عندما طُلب منه تسمية حكيم رواقي - أي الرجل الذي حقق الهدف النهائي الذي تميل إليه الدراسة الفلسفية: ذكر كاتو الأصغر (أو كاتو الأوتيكي) كمثال.
كان كاتو رومانيا مشاركا بالكامل في السياسة ومسؤولا من القرن الأول قبل الميلاد. معروف بنزاهته. كان على وجه الخصوص الأكثر شهرة لقيامه بالانتحار برزانة بدلا من الموافقة على العفو والتصالح مع يوليوس قيصر، بعد انتصار الأخير على الجمهوريين، الذين كان كاتو زعيمهم. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن سينيكا اعتبر كاتو حكيما عاقلا، وليس فيلسوفا. بدون أن نكون متسقا تماما (إذا اعتبرنا أن الفيلسوف، حرفيا، باحث عن الحكمة وبالتالي لا يمكن أن يكون قد حققها بالفعل)، فإن سينيكا يصف الأبطال الرواقيين الآخرين (بما فيهم سقراط) بالفلسفة والحكماءء.
بالنسبة لسينيكا، عاش كاتو حياة حكيم لأن مشاركته في النظرية الرواقية، التي كانت أساس حياته، كانت كاملة ومتماسكة، ولكنه لم يكن فيلسوفا (على الرغم من الأسطورة التي تقول إن كاتو قرأ كتب الفلسفة في خيمته أثناء الحملات). لا شك أن الفيلسوف الرواقي دائما ما يكون حكيما، لكن حياته، والطريقة التي عاش بها الفلسفة يجب أن تكون مكرسة بالكامل للمحاورة الفلسفية. بالنسبة لسقراط، كما رأينا، لا يمكن ممارسة الفلسفة كطريقة حياة إلا بالمعنى الثاني: أن يكرس نفسه يوميا للححاج والنقاش الفلسفي؛ الامر مختلف بالنسبة لكاتو. و لكن لماذا؟
من المؤكد أن سقراط لم يكن ليلقي باللوم تماما على شخص مثل كاتو، الذي ذهب تفانيه في الحجاج والحوار الفلسفي بعيدا. ومع ذلك، هذا ما كان يعتقده على الأرجح: أي شخص يتصرف بهذه الطريقة ولكنه راضٍ عن العيش وفقا لنظام القيم الذي درسه من قبل لا يأخذ على محمل الجد عند الالتزام باتباع العقل كدليل يعيش على هديه حياته. من المؤكد أنه يتبع عقله إلى حد ما من حيث أنه يعيش وفقا للأفكار التي تحمل عناء فحصها بدلاً من الموافقة على اتباع سلطة أخرى (تقاليد، مواضعات، تصورات موروثة، تمثيلات شعرية لنماذج الحياة - باختصار، كل ثقل وتأثير الثقافة المحيطة).
ولكن، كما قلت أعلاه، فإن العيش وفقا للعقل يعني الاستجابة لما تتطلبه ضمنيًا نفس الملكة التي تسمح لنا بمعرفة وتحديد ما يجب أن نفكر فيه ونفعله، عندما نستعملها. على ما يبدو، يعتقد سقراط أن ما تطلبه هذه الملكة نفسها عند استخدامها يتعارض مع فكرة أنه لم يتمكّن أحد من إكمال مهمة الفيلسوف تمامًا: فحص واختبار تصوراته والآخرين عن القيم الإنسانية.
لهذا السبب، فإن كل أولئك الذين يدعون أنهم يعيشون حياة فلسفية دون أن يكرسوا أنفسهم يوميًا للحوار والفحص الفلسفي، على خلاف سقراط، يتنصلون بذلك من المبدإ السقراطي القائل بأن خير الروح هو
الأكثر أهمية في حياة الإنسان. في الواقع، إنهم يتجاهلونه من خلال الارتقاء بقيمة أو أكثر إلى مرتبة أعلى من قيمة صحة الروح: مهما كانت هذه القيم، فإنهم يتخلون عن الحجاج الفلسفي ويهجرون البحث. هذا التصور السقراطي له وجهان، كما سأشرح لاحقا. ينطلق هذان الجانبان من المبدأ القائل بأن العقل، بطبيعته وبسبب ديناميته الخاصة، يميل إلى معرفة نهائية وكاملة - الحكمة - حول ما هو ذو قيمة حقا في حياة الإنسان ويقتنع بما لا يقل عن هذه المعرفة.
يعتقد سقراط أن البشر غير قادرين على ما يبدو على الوصول إلى هذه المعرفة. ولكن من ناحية أخرى، كما كان سقراط قد اختبر بالتأكيد، يمكن للجميع بالتأكيد، من خلال تكريس أنفسهم للنقاش الفلسفي، توسيع وتحسين معرفتهم بالحجج التي تدعم هذه المجموعة أو تلك من القيم والالتزامات - تلك بالذات، في ما يبدو، التي أثبتت الحكمة بالتأكيد أنها صحيحة.
لذلك، بما أن الإنسان على ما يبدو لا يستطيع تحقيق صحة النفس بالمعنى الحقيقي للكلمة - الحكمة أو المعرفة، لكن التقدم والتحسين ممكنان دائما، فإن الاهتمام الحقيقي بخير الروح، الخير الأسمى الذي يجب على كل إنسان أن يسعى لتحقيقه في حياته، لا يتطلب أقل من حياة فلسفية، تلك التي كرس سقراط نفسه لها.
هكذا، ووفقا لسقراط، فإن "الفلسفة كطريقة في الحياة" ليست هي نفسها "أسلوب الحياة" الذي يجعل الفلسفة شرطا ثانويا فقط يمكن للمرء التخلي عنه. نهت الفلسفة عن مثل هذا التصور. إذا أريد للمرء أن يكون مخلصا للتصور السقراطي عن الفلسفة، فلا ينبغي له إذن أن يعتبر أن أي طريقة للعيش توضح مفهوم الفلسفة كطريقة في الحياة، حتى لو كانت قائمة على مبادئ فلسفية (الرواقيون أو الأبيقوريون، مثلا)؛ إنها تعني بالضرورة انخراطا مستمرا في الحجاج والتحليل الفلسفي بشكل خالص. الحياة التي هي "تطبيقات للفلسفة"، مثل حياة كاتو، يجب تصنيفها وفحصها بشكل منفصل.
دعونا نصل الآن إلى هذين الجانبين اللذين يميزان الدواعي التي جعلت سقراط يعتقد أن الاهتمام الحقيقي بخير الروح ينطوي على ممارسة مستمرة للفلسفة. قلت إن صحة الروح بالنسبة لسقراط تتوقف على قدرة كل فرد على فهم وشرح وتبرير قيمه والتزاماته أمام الآخرين ولأجل نفسه ذاتها، وذلك بحزم وشمول، بفضل الحجاج. لذلك، عندما نعرف هذه القيم ونعرف كيف نتجادل بشأنها، يتحقق هذا الخير. عندما تكون الروح في هذه الحالة، فإن المرء يمتلك هذه القدرة بطريقة أكيدة ودائمة. هذا ما يعنيه سقراط بـ "الحكمة".
لكن، كما قلت، يعتقد سقراط، وهذا ليس بدون أساس، أن البشر لا يمكنهم أبدا تحقيق هذا الشرط. لذلك يجب أن يكون الجميع على استعداد لمواجهة أي اعتراضات قد تثار على كل فكرة من الأفكار التي درسوها بعناية والتي هم مقتنعون بها بحميمية. ولكن كيف يمكن لأي إنسان أن يكون متأكدا، بفضل ذكائه وتجربته الفردية، التي من الواضح أنها محدودة، من كونه اكتشف جميع الاعتراضات الممكنة ورفضها؟ وإن وجدت، كيف يتمكن من استبعادها بمجرد أن تثار بفضل الأسباب نفسها التي أقنعته بالفكرة المعنية؟ في الواقع، كيف يمكنه أن يتأكد (بالنظر إلى معتقداته بشأن هذه النقطة وفي مثل هذا الوقت) من أن تجربة غير عادية، خاصة به أو بغيره، لن تجبره على أن يعتبر بعقلانية ولو للحظة أنها تشكل سببا للشك في هذه الفكرة؟
لا يمكن لأحد أن يدعي معرفة مجمل وأهمية التجارب الفردية، ولا جميع المصادر المحتملة للاعتراض على الآراء الراسخة. يجب أن تكون المعرفة أو الحكمة ثابتتين لا تتزعزعان؛ ولكن سيكون من الطيش للغاية - ما يؤدي إلى التعارض مع العقل نفسه - أن يدعي أنه يعرف بنفس القدر ما هو حسن وسيئ للإنسان. ومع ذلك، من أجل تحقيق الكمال في القدرة على المعرفة والشرح والتبرير من خلال الجدل حول قيم المرء والتزاماته، لا حاجة إلى أكثر من المعرفة. ببساطة، إن إمكانية بلوغ هذا الكمال هو ما ينكره سقراط عندما يعلن أنه لا يعرف شيئًا (أو أنه حكيم)، وعندما يشك في قدرة أي شخص على ذلك.
أدت هذه الاعتبارات البراغماتية بسقراط إلى الاعتقاد بأنه من الواضح أن الإنسان لا يمكنه حقا تحقيق الخير الأسمى للروح. إذا تم اعتبار هذا الخير أثمن شيء، فيتعين علينا عقد العزم على قضاء حياتنا في فحص نفوسنا، كما فعل هو بنفسه. لكن هناك وجها آخر للمسألة يتعلق ببعد الدين. لدحض الاتهامات بالمعصية التي وُجهت إليه، استخدم سقراط في مرافعة أفلاطون الاستراتيجية التالية: يُظهر التقوى من خلال الاستفادة من محدودية الإنسان بالمقارنة مع حيازة الآلهة، أبولو على وجه الخصوص، لهذه المعرفة - الحكمة - بالإنسان وحياته. الله وحده أو ما هو إلهي، كما يقول، حكيم (سوفوس). سقراط وفي أحسن الأحوال سائر البشر هم فقط محبون للحكمة ومتطلعون إليها: إنهم يبحثون عن الحكمة أو المعرفة التي لن يمتلكوها أبدا. وهكذا، يمكن لسقراط أن يدرك بشكل عملي أن قدرة الإنسان على المعرفة محدودة بينما هو يكن احتراما ورعا كله تحفظ، وخشوعا يستبتع ذلك، تجاه القوة الهائلة للآلهة. وهذا يوفر له حجة ثانية ليعلن أنه من المستحيل على الإنسان أن يبلغ المعرفة المطلقة: هذا ما يقتضيه الاحترام الورع للآلهة وتقديسها.
لكن هناك أيضا جانبا إيجابيا للتقوى التي يدعيها سقراط في دفاعه. ووفقا له، من خلال ممارسة عقولهم بلا كلل وتطوير قدراتهم على التفكير والحجاج، يقترب الفلاسفة أكثر فأكثر من المعرفة التي تخص الإلهي - حتى لو لم يدركوها أبدا. وهذا ما يفعلونه يوما بعد يوم، بقدر ما يمكنهم القيام به، في المحاورات والمناقشات، ويضعون الآخرين وأنفسهم على المحك، حول أهم الموضوعات السقراطية: الخير والحياة البشرية. لذلك يجب علينا أن نكرس أنفسنا بالكامل للفلسفة لكي نجعل أنفسنا مشابهين، بفضل التقوى وباعتبارنا كائنات عاقلة، بالعقلانية السامية والكاملة (الحكمة) عند الله.
هذه الروابط المقدسة، التي نسجها سقراط بين الفلسفة - الفلسفة باعتبارها وسيلة للحياة - والسعي النشط (لكن المفعم بالتحفظ والخشوع) إلى حكمة يختص بها الله وحده، تشكل بطبيعة الحال الخطوة الأولى في تطور طويل عبر التاريخ. كل واحد بطريقته الخاصة (وبالتأكيد هناك اختلافات)، ومن خلال الانحراف عن المطلب السقراطي الذي يتطلب مناقشة لا هوادة فيها وإعادة تقييم الإنسان لتصوراته بشكل دائم، أفلاطون والأفلاطونيون الاواخر، أرسطو، الرواقيون، وحتى أبيقور - جميع التيارات والمدارس الرئيسية في العصور القديمة باستثناء بالطبع المتشككين والأكاديميين والبيرونيين - كلهم جعلوا من حياة الفلسفة أعظم خير للإنسان، والحياة الأكثر
إلهية والأكثر شبها بالله.
راى سقراط أن عدم تمكن الإنسان من الحصول على الحكمة يقتضي نتيجة أخرى. في محاورات أفلاطون السقراطية (باستثناء دفاع أفلاطون عن معلمه الذي ليس بأي حال من الأحوال محاورة)، يأخذ سقراط دائما دور الشخص الذي يطرح أسئلة حول آراء الآخرين. إنه لا يعرض أو يجادل أو يشرح بشكل مباشر آراءه الفلسفية. لم يسمح أبدا بأن يُسأل عن آرائه حول الصواب والخطأ - أو حول الأسباب الفلسفية الكامنة وراءهما. يمكن للمرء أن يعتبر أن الفاصل الذي اوقف فحص السفسطائي بروتاغوراس في المحاوارة التي تحمل نفس الاسم كان استثناء؛ لكن هنا يقبل سقراط أن يتم استجوابه حول تفسير لقصيدة سيمونيدس، وليس حول تصوراته الأخلاقية.
في هذه الحالة وفي كل مكان آخر حيث يناقش سقراط هذه الأسئلة، يضطر القراء إلى بذل جهد هائل في التأويل الفلسفي للمخاطرة بفرضية حول ماهية أطروحات سقراط، وعلى وجه الخصوص، بشأن الأسباب الفلسفية التي تدعمها. وهذا صحيح على ما أعتقد، حتى عندما يتمكن هذا الاستقصاء من الكشف عن نظرية سقراطية معقولة وكاملة إلى حد ما، تفسر سبب كون الروح وصحتها هي القيم الإنسانية الأكثر نبلا، ولماذا تسهم فيها فضائل مثل العدالة.
ومع ذلك، لم يشرح سقراط هذه النظرية أبدا، ولم يحاجج بها. علاوة على ذلك، في محاورات أفلاطون السقراطية، لم يشرح أبدا سبب تخليه عنها. ليس علينا النظر بعيدا: يبدو أن الأمر يتعلق بمسألة مبدئية. إن محاورة ثياتيتوس ليست محاورة سقراطية (بالمعنى الذي أفهمه من العبارة)؛ ومع ذلك، تشير شخصية سقراط في نقطة ما من النص إلى "اللوم الموجه إليه بشكل جماعي" - وهو أنه "يطرح دائما أسئلة على الآخرين دون أن ينتج هو نفسه أي شيء حول أي موضوع". هذا بالطبع لوم موجه لسقراط في حوارات أفلاطون السقراطية.
يقول سقراط ثياتيتوس أن هذا اللوم مؤسس. ثم يمضي إلى الانغماس في شرح مفصل مدافعا عن سلوكه؛ يعرّف نفسه على أنه قابلة محترفة ولكن من أجل توليد الفكر أو الروح: فهو يساعد الشباب على توليد أفكارهم، ويكون هو نفسه مجردا من التصورات الخاصة به. "قدر لي الله - يقول سقراط -أن أمارس التوليد ومنعني من الإنجاب".
ومع ذلك، يجب ترك الميوتيك (التوليد) السقراطي جانبا، لنتساءل عن سبب تصرف سقراط (سقراط المحاورات السقراطية لأفلاطون) بالطريقة التي تصرف بها. هذا ما أكده بورنييت بحكمة: يشير أفلاطون بقوة إلى أن المايوتيك هو لمسة إضافية من إبداعه على صورة سقراط. في الواقع، قال عن ثياتيتوس بكل براعة أنه لم يسمع بها من قبل (رغم أنه يعرف الكثير من الأشياء الأخرى عن سقراط). ويذهب أفلاطون إلى أبعد من ذلك عندما جعل سقراط يقول أنه في وقت مناقشة ثياتيتوس (أي في نهاية حياته) لا أحد يعرف أنه كان ضليعا في المايوتيك.
وبما أن سقراط وصف ووضح ممارسته للمايوتيك في محاورة ثياتيتوس، فمن المتوقع أن يبنيها على نظرية فلسفية إيجابية وشاملة - وليس على المسائل الميتافيزيقية والفيزيائية والإبستمولوجية، وهي مجالات نعلم أن سقراط التاريخي (كما هو قدم في الكتابات السقراطية) لم لم يحقق فيها تقدما يذكر. لكن في الواقع، قبل الشروع في خطابه عن المايوتيك، أوضح سقراط مسبقا لماذا كان هو ( سقراط المحاورات السقراطية) راضياً عن طرح أسئلة على الآخرين ولم يقدم هو نفسه أي تفسيرات أو حجج لصالح تصوراته الخاصة التي كان يمكن استجوابه بشأنها. بعد قوله "أطرح دائما أسئلة على الآخرين ولا أقدم أبدا أي شيء بنفسي حول أي موضوع" يضيف "لأنه ليس لدي أي حكمة". هذا هو السبب الذي يجب أن نفحصه إذا أردنا أن نفهم لماذا امتنع سقراط عن القيام بدور المستفتى خلال المحاورة الفلسفية.
من الواضح أن سقراط يعتبر أن أولئك الذين يعبرون عن آراء وهم بالتالي مستعدون للإجابة على جميع أسئلة سقراط يندرجون ضمن إحدى الحالتين التاليتين. إما أنهم يعتقدون أنهم يعرفون الجواب بالفعل (أي أنهم حكماء) - مثل أولئك الذين ذهب للقائهم للتحقق من أوراكل وكذلك بعض المحاورين في محاورات أفلاطون السقراطية، منهم: أوتيفرون، وربما كريتياس في محاورة خارميدس، والجنرالات في محاورات لاخيس، وبروتاغوراس، والخطباء في محاورات جورجياس ومينون وهيبياس. أو أنهم على الأقل على استعداد لتأكيد جواب بافتراض أنهم قادرون على التحقق من صحته وتبريره بعقلانية. لذلك يقترحون أنهم فكروا في الأمر (ربما لأول مرة في ذلك الوقت)، وهم مقتنعون به، وبالتالي فهم مستعدون للنظر في العواقب وقبولها.
ذلك هو وضع محاوريه الشباب: يبدأ سقراط بسؤالهم عن رأيهم في موضوع كذا وكذا غالبا ما يتعلق بالحياة البشرية، ثم يستكشف معهم الصعوبات الفلسفية عند ظهورها. إن المحاورين الآخرين في حوارات أفلاطون هم الذين يوضحون هذا البديل، وهي ليست مسألة شباب فقط: كريتون وخارميدس في الحوارات المعونة بنفس الأسماء، ألكبياديس، ليزيس، كليناس في إيثيديموس، بوليمارك في الكتاب الأول من الجمهورية.
ام يجد سقراط نفسه في أي موقف من تلك المواقف. لقد فكر بالتأكيد كثيرًا في المشكلات التي وجهها بعد ذلك إلى الآخرين (خاصة بفضل المقابلات السابقة). كان لديه بالتأكيد وجهة نظر مفصلة حول هذه القضايا، المربكة وحتى المكلفة في بعض الأحيان - كما رأينا في مرافعة افلاطون. (سوف أعود إلى هذه النقطة لاحقا). لكن كما رأينا، لم يقتنع بأي رأي من آرائها، رغم أنه عاش وفقا لها ما دام لا يرى أي سبب للشك فيها.
كان على استعداد تام لمزيد من التفكير فيها إذا لزم الأمر، حتى يتم تأكيد حقيقة كل واخد منها. بالنسبة لأي شخص يميل إلى هذا الحد، يبدو من المعقول أن يعتقد أن الدور المناسب في المناقشة الفلسفية هو الدور الذي يتمسك يه سقراط: استجواب الآخرين، مع الاستمرار في فحص الأفكار أثناء المحاورة وبالتالي في العمل. وفي حالة عدم اقتناعه بأي رأي من الآراء، فإن الانتقال من دور السائل إلى دور المجيب سيكون محرجًا من الناحية الفكرية (وبالنظر إلى موضوع المناقشة، من الناحية أالأخلاقية). إن القيام بذلك يعني التأكيد على أنه ملم، أو مقتنع بما يكفي برأي لتاكيده بافتراض أنه صحيح وأنه من المؤكد أنه سينجح في تبريره تماما.
تبقى هناك نقطتان يجب تناولهما، ولكنهما أقل أهمية. بادئ ذي بدء، صرح سقراط في مرافعة افلاطون أن أولئك الذين شهدوا اختبار العلماء استنتجوا بصفة عامة أنه يجب أن يكون هو نفسه (بشكل إيجابي) ملما بموضوع دحوضاته. استنادا إلى هذه السمعة، فإن تقديم آرائه الخاصة والتعهد بشرحها وتبريرها أمام الآخرين كان من شأنه أن يجعل الآخرين، ولا سيما الشباب، يأخذون كلمته على انها الحقيقة. بعد ذلك لن يكونوا مستعدين أو يشعرون بالحاجة إلى التفكير فيما يعتبره سقراط مرضيا (بتسكين الراء) ولن يفكروا في الأمر بأنفسهم.
وعليه، فإذا كان هناك شيء واحد يريد أن يعلمهم إياه، فهو هذا. علاوة على ذلك، وفقا لسقراط ، فإن أي شخص يرغب في اختباره وآرائه من خلال تولي دور السائل لا يمكنه إثارة الصعوبات التي يجب فحصها بشكل كافٍ، أو إبراز مدى تعقيد هذا الموقف أو ذاك - هذا ما برع فيه سقراط عندما كان بفحص آراء الآخرين. وبالتالي، من غير المرجح أن يقوم أي شخص يحضر المقابلة بتقييم التعقيد والصعوبات التي كان يجب التغلب عليها قبل أن يدعي أنه يقتنع بآراء سقراط. وبهذا المعنى أيضا، سيكون من قبيل المجازفة أن يأخذ الآخرون كلماته على أنها الحقيقة. نظرا لأنه كان من الأهمية بمكان بالنسبة لسقراط ألا يشعر المرء أبدا بأن لديه إجابة نهائية عن الأسئلة، لذلك كان من المهم أيضا أن يتجنب لعب دور المجيب أثناء المحاورة والفحص، وان يتبني فقط سؤال السائل - بحثا عن الحقيقة.
يعتقد قراء المحاورات (مثل ثراسيماخوس في الكتاب الأول من الجمهورية) أحيانا أنه عندما يرفض سقراط الخضوع للفحص والتحليل من قبل الآخرين بخصوص تصوراته الأخلاقية، فإنه يتجنب الصعوبات المرتبطة بموقف المجيب، ويريد تذوق انتصاره على أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بالهزيمة. ومع ذلك، تُظهر الحجج التي قدمتها للتو أن موقع سقراط وموقفه ليسا معنيين كما يبدوان في الظاهر. على العكس من ذلك، فهما يستندان بحزم إلى تصوراته الخاصة وطموحاته الفلسفية.
هكذا، بالمعنى الدقيق للكلمة، كل الآراء التي تم التعبير عنها وكل الالتزامات التي تم التعهد بها في إطار هذا التبادل للأسئلة والأجوبة - أي المحاورة الجدلية التي كرس لها سقراط حياته كفيلسوف - صادرة عن المجيب وليس عن السائل. المجيبون هم الذين يبدأون بعرض الأطروحة. هؤلاء المجيبون هم الذين، بموافقتهم افتراضا على مناقشة هذه الأطروحة مع سقراط، يجب عليهم أن يجيبوا على الأسئلة التالية بعد الموافقة أو رفض المقدمات الإضافية التي قدمها لهم السائل. وإذا استنتجنا من جميع الردود نتيجة تثبت أنها غير متوافقة مع الأطروحة الأولية، أو على الأقل لا تتفق معها تماما، فإن موقف السائل يقع في حرج. ثم تبين أن أطروحته الأولية تتعارض مع الآراء الأخرى التي جعله السائل يصوغها.
لكن حتى السائل يصاب شخصيا بالحرج. إنه يثبت أنه ليس حكيما، وهو أمر محرج بالتأكيد لكل من يدعي امتلاك معرفة أخلاقية وفكرية، سواء كان المرء يسمي نفسه سفسطائيا أو يدعي أي مهارة أخرى. حتى لو لم يقدم هذا الادعاء (كما هو الحال مع العديد من محاوري سقراط في المحاورات السقراطية لزينوفون وأفلاطون)، فإنه يظل محرجا. أولئك الذين يقولون إنهم يتطلعون إلى الصداقة أو الاعتدال أو بعض الأشياء القيمة الأخرى التي يقتنعون بها بما يكفي ليقولوا ما يفكرون فيه أثناء المحاورة، كان عليهم التفكير مليا في الشيء الذي يسعون وراءه حتى يتمكنوا من التحدث عنه بشكل مرض. يجب عليهم تجنب التناقض مع أنفسهم أو الوقوع في اللامعقولية الساحقة عند محاولة تبرير أنفسهم. لكن على أي حال، فيما يتعلق بما يعتقده سقراط أنه الأكثر قيمة في حياة الإنسان، فإن المحاور سيكون قد أظهر إهماله تجاه ما لديه، وهو روحه. بدلاً من الإجابة على أسئلة سقراط الملحة، يجب أن يجعله نقطة شرف في حياته، كما فعل سقراط، ليصبح السائل في هذه المحاورات، وأن يسعى باستمرار من أجل معرفة أكثر صلابة، كما هو مفصل وواضح بقدر الإمكان النطاق الواسع للقيم الإنسانية. إن العناية الجيدة بروح سقراط ، كما رأينا، لا تتطلب أقل من ذلك.
أثناء المحاورة، يُتوقع من المستفتى أن يقول ما يفكر فيه حقا، ليس فقط عند صياغة الأطروحة الأولية التي يفحصها سقراط بعد ذلك، ولكن أيضا عند الإجابة على الأسئلة ذات الصلة. بشكل عام، يُتوقع من المستفتى أن يفكر بجدية في ما يعتقد أنه أفضل إجابة وأكثرها منطقية على أي سؤال يطرح عليه، مثل شخص يؤمن بقوة بالأطروحة التي قدمها.
من الواضح أن هذه هي الطريقة التي تساعد بها أسئلة سقراط الآخرين على اختبار أنفسهم وصقل أفكارهم، وبالتالي أرواحهم، الشيء الذي أعلن سقراط أنه أعز أمنياته. ينطبق هذا الشرط أيضا على محاورات سقراط عند كل من زينوفون وأفلاطون. في الواقع، يعلن سقراط أحيانا أنه يريد أن تعكس إجابات المستفتى معتقداته الحقيقية (أثناء المقابلة). هذا مهم بشكل خاص عند التحدث مع رجل يعلن نفسه عالما ومخاولة خدش كبريائه. ولكن ليس من الضروري أيضا الإيفاء على هذا المبدأ - "قل ما تؤمن به" - عند الإجابة على الأسئلة لتحقيق هدف سقراط.
يتضح هذا بشكل خاص عندما يكون الشخص الذي يتحدث معه شابا جادا قد يكون غير مقتنع بجميع الأسئلة التي تطرح عليه. ومع ذلك، يمكن تشجيعه على موازنة إيجابيات وسلبيات إجابة تبدو للوهلة الأولى جذابة عند مواجهته بالسؤال لأول مرة. من ذلك يمكنه استنتاج الكثير. لكن هذا ينطبق في معظم الأحيان على من يدعون أنفسهم علماء. يتضح أن رجلا من هذا القبيل ليس عالما وقد تعرض للإذلال الودي، بمجرد أن أظهر (دون "قول ما يعتقده") أنه غير مؤهل بما فيه الكفاية في مجال القيم (و المنطق) لمنع موافقته على نقاط معينة أثناء المحاورة من الوقوع في تناقض مع الأطروحة التي صاغها في البداية، أو على الأقل من تضمين نتائج غير معقولة دون القدرة على تبريرها. وهكذا، في معظم الأحيان، فإن حقيقة أن سقراط يتوقع من محاوره أن يقول ما يؤمن به عند صياغة أطروحته وعندما يجيب على الأسئلة هي مجرد فرضية، وليست بأي حال من الأحوال قاعدة من قواعد الجدل السقراطي. من المهم هنا أن نفهم، على الرغم مما يقوله فلاستوس، أن سقراط لم يقل أبدا أن "قول ما تؤمن به" قاعدة يجب على المستفتى مراعاتها في هذه المقابلات "الجدلية". عندما يقول ذلك، فإنما بخصوص الأسئلة التي تتلو صياغة الأطروحة، ودائما في الظروف الجدلية الخاصة.
تبدأ كل محاورة سقراطية، كما رأينا، بعرض أطروحة من قبل المحاور المقتنع بها، مع التركيز على القيم الأخلاقية وأفضل طريقة لتوجيه حياته. إذا أردنا الاقتراب قدر الإمكان من الحكمة، كما يفعل سقراط، فلا ينبغي أن نقصر الفحص على هذه الأطروحات، بل نوسعها لتشمل المزيد من الآراء المتعلقة بهذه القيم أو القيم الأخرى التي يقتنع بعض الناس بأنها حقيقية. لذلك يجب أن نوسع أفق المراجعة. يجب النظر في جميع أنواع الآراء، سواء تم التأكيد عليها من قبل شخص يمكن أن يشارك في المحاورة أم لا. نحن لا نعرف، وهذا ما حرص سقراط عليه، ما إذا كان مينون يؤمن إيمانا راسخا بكل ما يقوله عندما يحاول شرح وتبرير أطروحة عن الفضيلة المستوحاة من جورجياس. وينطبق الشيء نفسه على جميع من تحاور معهم سقراط (باستثناء بعض الحالات التي ذكرتها). فأن يؤمنوا بما يقولونه أم لا عند الإجابة على الأسئلة بعد صياغة أطروحتهم، ليس له أي تأثير على أغراض سقراط. من حيث المبدأ، ينطبق الأمر نفسه على صياغة الأطروحة الأولية. ومع ذلك، يبدو أن محاوري سقراط مقتنعون دائمًا برأي حول الفضيلة، مثلا، أو حول فضيلة معينة، وكما أوضحت، فإن عملية إخضاع أطروحة ما لنقاش جدلي جاد يفترض أن يكون الشخص الذي صاغها مقتنعا بها. وبالتالي، فإن الأطروحة الرئيسية أو سلسلة الأطروحات التي طرحها المحاورون هي في الواقع انعكاس لمعتقداتهم.
على أي حال، استفاد سقراط من كل هذه المحادثات لاختبار اتساق معرفته بالقضايا الأخلاقية، مع توسيع حدودها، من خلال مواجهة الأسئلة الصعبة والمثيرة للجدل والمتعلقة بالطبيعة والفضيلة الإنسانيتين، بفضائل الإنسان الخاصة وهي الشجاعة والاعتدال والعدل والتقوى والحكمة، وكل ما كان موضوع محاوراته ومناقشاته اليومية. في الوقت نفسه، كان يساعد الآخرين للتقدم على طريق المعرفة. لا حاجة لقاعدة "تقول ما تؤمن به" لتحقيق هذه الأغراض، ولم يعتقد سقراط أن ذلك ضروري.
ضمن الخطوط العريضة التي اقترحتها سابقا، ذكرت جانبا من الفلسفة كطريقة للعيش وفقا لسقراط التي غضضت الطرف عنها. ركزت دراستي حتى الآن على الاستدلال والنقاش الفلسفيين، اللذين يشكلان إلى حد ما جوهر الطريقة السقراطية في الحياة. لكن بمعنى آخر، إنها بالأحرى نتيجة للفكرة القائلة بأن روح كل فرد تشكل القيمة العليا، بالإضافة إلى صحته التي هي جوهرها: إنها مسألة الالتزام الذي يقوم به سقراط عندما يتصرف في الحياة اليومية، عندما يحترم واجباته كمواطن، أو عندما يتعين عليه اتخاذ قرار صعب ومحفوف بالمخاطر، ليتوافق مع الآراء حول القيم الإنسانية التي توصل إليها (في تلك اللحظة بالتحديد) خلال تأملاته وأبحاثه الفلسفية.
أول هذه الآراء، بالطبع، هو الرأي القائل بأن الروح وصحتها تمثلان القيمة العليا - الحكمة أو المعرفة المطلقة فيما يتصل بكل ما يتعلق بالقيم الإنسانية وتسلسلها الهرمي. لكن الحكمة، حسب رأيه، هي نفس الشيء مثل الفضائل اليونانية التقليدية: العدالة، التقوى، الاعتدال، الشجاعة، وهي التي كان على الفلسفة شرحها والتعبّير عنها. لذلك، فيما يتعلق بالعمل في الحياة اليومية وجميع القرارات العملية، بالنسبة لسقراط - كما هو الحال في الواقع بالنسبة لكل التقليد اليوناني اللاحق حول موضوع الفلسفة كطريقة للعيش - فأن يعيش الإنسان فلسفته كان يعني أن يعيشها وفقا لتصور فلسفي حول العدالة، التقوى، الاعتدال، الشجاعة، تلك الفضائل التي تعتبر خيرات أساسية بالنسبة للإنسان.
في النص المقتطع من مرافعة أفلاطون الذي أحلت عليه سابقا (في بداية القسم الثالث) حيث أعلن سقراط أنه يرفض التوقف عن التفلسف علنا حتى لو تمت تبرئة ساحته في المقابل، جرى تقديم"الحكمة والحقيقة" على أنهما أفضل حالة تكون عليها الروح. لكنه يقول بعد ذلك عن الفرد (الافتراضي) الذي كانت روحه في هذه الحالة أنه يمتلك "الفضيلة". يمكن لسقراط بعد ذلك أن يكرر ما قاله للتو عن أسبقية الحكمة والحقيقة على الثروة والشرف والسلطة، لكن هذه المرة يتم استبدال الكلمتين الأوليين بالفضيلة:
"لم أقم سوى بالذهاب والإياب لأقنعكم، شبابا وكهولا، بألا تهتموا بجسدكم وبثروتكم بقدر أكثر أو مساو من الاهتمام الذي يجب أن يكون لديكم فيما يتعلق بكيفية جعل روحكم أفضل ما بمكن، ولأقول لكم: ليس من حيازة الثروة تأتي الفضيلة، لكن بامتلاك الفضيلة تصبح الثروة وكل الأشياء خيرًا للأفراد كما للدولة."
تحيل كلمة "الفضيلة" هنا، باعتبار أن سقراط ذكر قبلا الشر الذي يمثله الفعل الجائر، إلى العدالة وغيرها من الفضائل التقليدية. إذن، بالنسبة لسقراط، فإن التمسك بقيمة الحكمة، وهو ما تتجلى في تكريس الذات للفحص الفلسفي والفحص الذاتي، يتجلى أيضا في تجنب ارتكاب أي فعل شرير سواء كان نتيجة ظلم أو جبن أو رضا عن النفس ذي صلة بالهوان. أي سلوك من هذا القبيل يؤدي بالفرد إلى قبول منظومة قيم خاطئة - منظومة تضع صحة الروح (الحكمة وغيرها من الفضائل) في مرتبة أدنى من المرتبة التي تستحقها، مع إعطاء الأفضلية لكل خير مزعوم من أجله يتصرف المرء بشكل غير عادل أو جبان أو برضا عن النفس.
لن أتطرق هنا إلى مسألة لماذا يعتقد سقراط أن الحكمة هي نفسها، أو على الأقل توحي، بالعدالة، بالشجاعة، وبالفضائل الأخرى. تستند الحجج التي يقدمها في محاورة بروتاغوراس لإثبات تماثل الحكمة مع الفضائل الأخرى على تصورات حول فضائل معينة لا يمكن أن تشكل أساسا فلسفيا كافيا للحفاظ على هذه العلاقة (التماثل). وباستثناء الكتاب الأول من الجمهورية - تلك حالة خاصة جدا - يبدو أن محاوراته تظهر أن العدالة والشجاعة، مثل الحكمة، فضيلتان، وأنهما يساهمان في صحة الروح، التي كشف عن بعض مظاهرها. يظهر مرافعة أفلاطون أن لديه بالتأكيد دواعي فلسفية وجيهة للتفكير في ذلك.
ولكن بما أنه هو من يطرح الأسئلة في محاوراته، وبما أننا لا نراه أبدا يدعم بوضوح أطروحته بواسطة حججه، فإن الهامش ضيق لمعرفة ماهية تلك الدواعي. يتمثل جزء كبير من الأخلاق اليونانية اللاحقة في تحليلات فلسفية للروح والطبيعة الإنسانيتين بحيث أنها تؤسس لهذه التصورات السقراطية. يبدأ هذا الجهد التأسيسي بالكتاب الأول للجمهورية، ولهذا السبب قلت قبل حين إن هذا المحاورة السقراطية متميزة جدا. ويستمر هذا الجهد في التألق عبر بقية الجمهورية وفي محاورات أفلاطون الأخرى. أضاف أرسطو والرواقيون تصوراتهم الخاصة، وواصلوا دائمًا نفس الجهد لبناء نظرية فلسفية. لكن يكفينا، فيما يتعلق بفلسفة سقراط كأسلوب حياة، القول إنه وفقًا له، مهما كانت الطريقة التي نحاول شرحها بقدر من الوضوح، فإن الحياة العقلية، الحياة الفلسفية، تعني ضمنا أننا نمارس الفضائل الاجتماعية التي تم الاعتراف بها وتقديرها في أثينا والمدن الي ونانية الأخرى (وبالطبع في بلدنا أيضا) على وجه الخصوص، العدالة، ولكن أيضًا الشجاعة الجسدية والمعنوية، الصدق، التحكم في النفس، احترام الآخرين، موقف ودود وخيري تجاه كل من نلتقي به، إلخ. وبالتالي فإن الحياة الناجحة وفق العقل والفلسفة ستكون حياة يتم فيها نقل الفضيلة الأخلاقية إلى أعلى مستوياتها. سيكون الفيلسوف الحقيقي أيضا الشخص الأكثر فضيلة، أخلاقياً واجتماعياً - على وجه التحديد لأن الفيلسوف وحده سيكون قادرا على ان يفهم بطريقة منطقية ومُعقلّة لماذا تساهم هذه الفضائل (أو بالأحرى نسخة فلسفية منها أكثر تفصيلاً) في صحة الروح.
ختاما، إذا أردنا البحث عن أصل التقليد اليوناني للفلسفة كأسلوب حياة، فإن سقراط هو الذي يجب أن نتجه نحوه. لأول مرة، كانت الحياة الفلسفية - الفلسفة نفسها كأسلوب حياة - هي ما عاشه سقراط، وفًقا لمحاورات أفلاطون (والمحاورات السقراطية الأخرى). كرس حياته لرعاية روحه. لقد تمثلت في ممارسة التفلسف بشكل دؤوب ومستمر، أي مناقشة وفحص نقدي لآراء الآخرين وآرائه حول الحياة الإنسانية وأفضل السبل للقيام بذلك. كان الغرض من هذه الحياة هو جعل العقل، وليس التقليد، العادة، "ما يظهر أنه حسن" أو "ما يبدو صحيحًا"، دليلا لجميع الأفعال، لجميع الطرق أو المناهج لتوجيه سدة الحياة. كانت هذه الحياة أيضا حياة التزام: هي الحياة الفاضلة، على الأقل في حدود ما هو ممكن للإنسان، من خلال دعم معايير جميع الفضائل التقليدية من عدالة وتقوى واعتدال وشجاعة، وذلك بفضل فحصها وتبريرها الفلسفي، وهذا في جميع الأعمال.
المصدر: journals openedition








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -