الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمهيد التربة لزراعة المواطن الصالح والمواطنة الصالحة

منى نوال حلمى

2024 / 3 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


--------------------------------------------------------------------

" العقل " ، هو شرف الرجل وكرامته وحريته .. " العقل " ، هو شرف المرأة وكرامتها وحريتها . انه القصة كلها وراء وجودنا الانسانى ، وارتقائه عبر الأزمنة . " العقل " ، يفتح الأبواب المعصلجة ، ينير الدروب المعتمة ، يصحح الأخطاء ، يهزم الخرافات ، يعرى الأكاذيب ، يعمر الأرض الخراب .
" العقل " ، " كلمة السِر " التى تكشف الأسرار ، وتتنبأ بالمفاجآت ، يقفز فوق أعلى الحواجز ، يشفى هشاشة النفوس ، يعالج داء الجسد . لا يعترف بالمستحيل ، شعاره
" ولِم لا " . فكل شئ بين يديه ممكن ، وجائز .
والانسان رجلا كان أم امرأة ، يستطيع مواصلة الحياة ، اذا فقد المال ، والأحباب ، والأصدقاء ، والوطن . لكنه لا يستطيع مواصلة الحياة ، اذا فقد عقله .
فى عام 2013 ، كان عدد المجانين والمختلين عقليا فى العالم ، ب 6 , 35 مليون شخص ، يصلون فى عام 2030 الى 7, 65 مليونا ، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية .
عندما نقول أن فلانا " فقد عقله " ، يعنى أنه دخل قائمة " المجانين " ، رسميا ، الذين لا يميزون بين الواقع والخيال ، و يعجزون عن التحكم فى ارادتهم و تفكيرهم وتصرفاتهم ، وبالتالى يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى الآخرين ، ويجب ابقاؤهم بعيدا ، عمنْ نصفهم
ب " العقلاء " .
من تجاربى وتأملاتى ، أدركت أن المقياس العلمى الطبى ، لتحديد الاختلال العقلى ، أو الجنون ، ليس دقيقا ، بما يكفى . وفى حياتنا المعاصرة الأكثر تعقيدا ، وغموضا ، وتشابكا ،
تزداد ضرورة تعميق مقاييس فقد العقل ، ومعايير العجز عن التحكم فى سلوكياتنا ،
وارادتنا ، واعادة تعريف الواقع والخيال ، وآليات التمييز بينهما .
وأصبح واضحا لى ، أن غالبية منْ نصفهم بالبشر " العقلاء " ، الذى ينطبق عليهم التعريف التقليدى للصحة العقلية ، ويعيشون طلقاء خارج المصحات والمستشفيات ، هم فى الحقيقة ، قد فقدوا عقولهم ، منذ ولادتهم . وهم يشكلون بالفعل ، خطرا على أنفسهم ، وعلى الآخرين ، ويحتاجون الى الشفقة ، قبل العلاج واعادة التأهيل . وقبل الشفقة والعلاج واعادة التأهيل ، يحتاجون الى الوعى بأنهم فقدوا عقولهم ، دون علم منهم .
أقر بكل ثقة أن " الصحة العقلية " ، ظاهرة استثنائية ، لا يتمتع بها الا قلة قليلة ، من سكان كوكب الأرض . بل هى ، ان شئنا الحقيقة والدقة " غير موجودة ".
سكان الأرض ، يتعرضون منذ الولادة ، وحتى الموت ، الى عمليات مخططة ، مدروسة بعناية ، ومتجددة مع الزمن ، " للسطو " الناعم بقفازات حريرية ، على أجمل ، وأغلى ، ما يملكونه " العقل ".
منذ أن تم انشاؤها ، وتأسيسها ، وتطورها عبر الأزمنة ، اختلفت المجتمعات فى كل الأشياء . لكنها اتفقت على شئ واحد ، أن تتكاثر وتتناسل ، لتعيد انتاج المواطنات والمواطنين المنتمين للقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية " السائدة " المرضى عنها . وبالطبع هذا غير ممكن ، الا اذا تعاونت وتضامنت وتحالفت جميع جبهات المجتمع ، مؤسساته ، ومنابره ، ومنصاته ، وقوانينه ، وتشريعاته ، فى خلق " الحماية " الشاملة
المتكاملة ، لتلك القيم السائدة .
منذ خروج المولود أنثى أو ذكرا ، الى العالم ، تتلقفه أول وأهم خيوط الشبكة ، وهى الأسرة . لمدة لا تقل عن خمس سنوات ، قبل الحضانة والمدرسة ، تقع الطفلة أو الطفل ،
أسير التعليمات والنواهى والواجبات والأوامر والقواعد ، التى تضع اللبنة الأولى فى بنيان أسمنتى هائل ، اسمه " الطاعة ". وبالطبع ينهزم الطفل الضعيف ، المجرد من كل أسلحة الدفاع عن النفس ، المعتمد كليا على الأب والأم . واذا جرب مرة المخاطرة بعدم الطاعة ، يكون مصيره العقاب بالزعيق أو الضرب أو الحرمان من أشياء يحبها ، واذا تكررت ، سوف يوصف بالطفل المشاكس ، أو الطفلة المتمردة . وكلنا نعرف فى الانجليزية تعبير " الخروف الأسود فى العائلة ". ويعنى الفرد غير المنسجم مع بقية الأعضاء ، الذى استطاع مقاومة هذا الاحتلال المقنن ، والمشروع .
هكذا يتم بنجاح ، تمهيد التربة لزراعة منْ يُطلقون عليه " المواطن الصالح " ،
و " المواطنة الصالحة ".
هكذا تم " اغتصاب " العقل ، و" اخصاء " قدراته ، و " تختين " ملكاته ،
فيصبح مجرد عضو موجود فى أعلى الرأس ، فاقدا للحيوية المبدعة ، والخصوبة الفكرية ،
مشابها لملايين العقول .
ومن خلال الشغل المخلص ، والنشاط الدؤؤب المؤسسات التعليمية ، والدينية ، بالتنسيق مع المؤسسات الثقافية والترفيهية ، والاعلامية ، تكتمل حميع حلقات السلسلة الحديدية ، التى " تكلبش " ملايين العقول ، و " تمتص " خيراتها .
هل يمكننا القول أن الملايين ، بل المليارات من البشر ، ضحايا السطو على العقول ، يتمتعون بالصحة العقلية ؟؟.
رأيى الشخصى أن " تنازل " الانسان ، عن عقله ، عن سهو ، أو عن عمد ، يضرب جوهريا وبالضرورة ، الصحة العقلية فى مقتل . وتجعله بشكل أو بآخر ، عاجزا عن التحكم فى تصرفاته وانفعالاته . ويبدو هذا فى السلوكيات المنحرفة ، فى حالات الانتحار ، وفى الجرائم البشعة ، وفى ممارسات العنف المبالغ فيه ، وفى العدوانية غير المبررة ، التى تنفجر فجأة فى لحظة .
من النظرة الأولى ، والسطحية ، يُقال انها لحظة " جنون ". ولكن بالنظرة المتعمقة ، نكتشف أنها كانت ربما اللحظة الوحيدة " العاقلة " ، فى حياة الشخص . فى لحظة ، تتمزق كل الأقنعة ، ويدرك الأوهام والخدع والزيف ، والسطو ، الذى تعرض له . بعض الناس لا يحتملون مواجهة الحقيقة ، ولا يستطيعون " التكيف " كما كانوا يفعلون طوال حياتهم .
قالوا لنا أن الصحة النفسية ، تقاس بالقدرة على العمل ، والقدرة على الحب .
لكن القضية كما أراها ، هى الاطار الثقافى والقيمى ، الذى يتم فيه العمل ، أو الحب .
السائد ثقافيا فى الحضارة العالمية المعاصرة ، أن النجاح فى العمل ، يعنى " عمل فلوس ".
والحب يعنى علاقات عاطفية ، تتمشى مع الثقافة السائدة ، التى تعتمد على تبادل الاحتياجات الجنسية والمالية ، واقتسام المناخ غير الصحى ، وعلاقات التملك والاستغلال والاستعلاء الذكورى ، والعقد النفسية ، وتكوين أسرة ، وانجاب أطفال ، يطابقون " كتالوج " المواطن الصالح ، والمواطنة الصالحة .
كيف لا تختل عقولنا ، ونحن نعيش فى حضارة تقول لنا كل يوم ، منذ استياقظنا وحتى نومنا ، أن انسانيتنا ، ومواهبنا ، وأفكارنا ، وابداعاتنا ، واختياراتنا ، وأحلامنا ، من الأفضل القاؤها فى القمامة ، اذا لم تدر علينا المال الوفير ؟.
كيف نحتفظ بنظافة ونقاء وهدوء عقولنا ، فى حضارة صاخبة ، ملوثة بالدم والعنف والارهاب ؟.
كيف لا نُجن ، ومواصقات الجمال تطردنا ، وشروط الجاذبية تنبذنا ، وسطوة التكنولوجيا تستعبدنا ؟.
نشعر كل يوم ، بضآلتنا ، وتفاهتنا ، وضعفنا ، وعدم جدوانا ، أمام المبانى الشاهقة ، والمنتجعلت الفاخرة ، والشركات العملاقة ، وصفقات المليارديات ، وطموحات الذكاء الاصطناعى ، والتمويلات الخيالية لأنشطة ترسخ التفرقة والعنصرية والقيم الفاسدة ، واعلانات تبيع لنا ، ما لسنا نحتاجه .
هذه الحضارة على كوكب الأرض ، " مجنونة " من الجذور ، وحتى النخاع . وكلنا بالضرورة ، بدرجات وأشكال متباينة ، يسكننا عطب ما فى عقولنا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصامات الجامعات الأميركية وانعكاسها على الحملات الانتخابية


.. ترامب يكثف جهوده لتجاوز تحديات الانتخابات الرئاسية | #أميركا




.. دمار غزة بكاميرا موظفة في الا?ونروا


.. رئيس مجلس النواب الأمريكي يهدد بإسقاط التا?شيرة الا?مريكية ع




.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور