الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شاهزنان

نعمت شريف

2024 / 3 / 12
الادب والفن


قصة قصيرة بقلم: نعمت شريف

كانت سيدة جميلة وهادئة وربة بيت من الطراز الاول، وزوجة شيخ تقي يؤم المصلين ويخطب في جامع القرية، وكان صوته الجهوري يملأ الجو كل يوم جمعة في خطبه التي استقطبت جيلا كاملا من الشباب، وزوجته السيدة شاهزنان اصبحت ركيزة ليست لعائلتها فحسب وانما لعائلتها الممتدة الكبيرة وجزءا كبيرا من نسمة القرية الكبيرة بجميع المقاييس، وكان يقصدها الكثيرات من النساء لطلب الدعم وتوجية الاسئلة وطلب النصح في امور دينهم ودنياهم من زوجها ومن خلالها.
كانت شاهزنان اما مثالية تقوم على تربية اولادها الاربعة، تسهر على راحتهم وتحزن لما يعانونه في حياتهم الدراسية والاجتماعية الى ان قيض الله لهم ان انهوا دراساتهم وكونوا عائلاتهم فتنفست الصعداء. كانوا من خيرة الشباب من ورع وتقوى والعمل الدؤوب، واخذت شاهزنان زمام الامور لتجمع الفلس الابيض لليوم الاسود كما يقول المثل، لانهم كانوا جميعا يعانون من نقص الموارد عندما كان البلد يمر بظروف الحرب وسوء الادارة، ولكن ارادة الله اراد لها ان تصبح اما لشهيد، وكانت الضربة القاسية عندما استشهد ابنها الذي كان قد تزوج لاقل من ثلاثة شهور فقط. ولكن صلابتها وصلابة زوجها جمعت العائلة من جديد واعادا ترتيب امورهما ليس للعائلة فحسب وانما للكثيرين من عوائل القرية التي ضربت بذلك الانتحاري الذي فجر نفسه في لمة كبيرة لعزاء القرية.
كانت شاهزنان تذرف الدموع بصمت وتدعو لحفيدتها الصغيرة ولا سلوى لها الا ايمانها الذي لا يتزعزع بان الله يغلق بابا ويفتح مائة، وان تراها تلعب وتمرح مع الاطفال لا تدري ماذا جرى. ومن ثم جاء الغزو الداعشي الارهابي لقرى سهل نينوى واقتلعت العوائل اوبالاحرى المجتمع من جذوره لاجئين او نازحين في المناطق المجاورة، ولم يكن امامها الا الصمت ورضخت لمشئية الله ودعت للجميع بالخيرومضاعفة الثواب.
ومرت الاسابيع والشهور والسنوات حتى بدأت تسرد قصة الارهاب لليتيمة الصغيرة شيئا فشيئا حتى افتهمت ان والدها كان احد ضحايا ذالك الارهابي الشرير، واصبحت هي بدورها تتحدث عن ابيها بفخر وتحمل صورته في تلفونها الجوال لتنظر الى وجهه الباسم وتبتسم ابتسامة ممزوجة بالاسى وحرقة القلب لانها لم تستطع ان تحتضنه وان تناديه "بابا". رغم صغر سنها، لقد علمتها الحياة دروسا لا يمكن ان تنساها، وعلى طول الخط كانت جدتها الحكيمة الى جانبها تجيب على اسئلتها وترفع من معنوياتها وتقوم افكارها التي تراودها احيانا عن والدها، حتى كانت تنادي جدتها "ماما".
وبعد سنوات من الجلد والصمود وهي تذرف دموعها بصمت، اصيب زوجها الشيخ بجلطة دماغية اقعدته عن مهامه في الجامع، وتعاونت عليه امراض الشيخوخة ايضا حتى ضاعفت من هموم شاهزنان وثقل على جسمها النحيل ان تصارع كل المستجدات في حياتها، ففي كل مرة كانت تتلقى ضربة اعنف من سابقتها، وتضاعف هي من جهودها لمواجهة الحياة وتحمل المصاعب، ولكن شيئا فشيئا بدأت تشعر بان كفة الصراع تميل في غير صالحها وبدا جسدها النحيل وكانه يترنح تحت شدة المصاعب حتى اصبحت لا تقوى على البكاء، وباتت تتأوه بهدوء وصمت.
كانت شاهزنان لا تحب زيارة الاطباء ولا ترغب في تناول الوصفات الطبية وتميل الى العلاج الطبيعي، ولكن لا حول ولا قوة الا بالله فقد اضطرت للتداوي والعلاج بالادوية الحديثة. نهضت في الصباح الباكر للصلاة، ويراودها شعور غريب والام اقضت مضجعها طوال الليل. استأذنها اولادها للذهاب الى اعمالهم فاذنت لهم دون ان تنبس ببنت شفة عن آلامها. وعندما حان وقت الفطور لم ترغب في الاكل فتعجب زوجها قائلا ما بك لا تاكلين؟ فاجابت بانها لا تشتهي اي شئ. رتبت وسائدها واحدة فوق الاخرى واتكأت عليها تحمد الله وتستغفر، ثم صمتت بعض الوقت واغمضت عينيها، فناداها زوجها الشيخ:
-ماذا بك يا شاهزنان؟ هل انت بخير ام انك بحاجة الى زيارة للطبيب؟ فاجابت:
-لا اريد الطبيب. اشعر بالغثيان ...، وسكتت بعد ان كانت قد فتحت عينيها لترى القلق في عيني الشيخ العجوز ذو اللحية البيضاء الانيقة، فشعرت بالاطمئنان عندما رأته الى جانبها وهو يحاول ان يكلمها، ولكنها اغمضت عينيها مرة اخرى.
مضت ساعات وهي مستلقية لا تقوى على القيام وتجيب على اسئلة الشيخ لتطمئنه على نفسها بانها تعاني من وعكة صحية وان ايمانها راسخ بانها ستتغلب على المرض كما حدث لها في الماضي، وقبيل الغروب عاد اولادهما من العمل وشعر الجميع بالارتياح فهم عمدة البيت والتف الجميع حول مائدة العشاء ولكن شاهزنان لم تستطع الاكل وطلبت كوبا من الحليب الساخن، ولما احضر الحليب شربت رشفة او رشفتين واكتفت بذلك، وشعرت بالهدوء، وعندما سألها الشيخ عما اذا كانت ترغب في الذهاب الى المشفى لانها لم تأكل طول النهار، فقالت انها ستنتظر الى يوم غد انشاءالله فا ذا لم تتحسن فانها ستذهب الى الطبيب لا الى المشفى فهي لا ترتاح للمشافي ابدا. ذهب الجميع الى النوم، وبقي زوجها الشيخ الى جانبها يغفو تارة ويطمئنها تارة اخرى بانه الى جانبها. وكانت هي تعود الى صمتها وهي متكئة على وسائدها ومستغرقة في تفكير عميق، ماذا سيحدث للعائلة بعدها فمن الطفلة التي ترعاها والى زوجها المريض، فهي لا تزال ترعاهم رغم تقدم العمر بها، ولا تزال هي عميدة العائلة التي يلتف الجميع حولها لقضاء امسيات ممتعة مع الاحفاد والحفيدات، فقد كبرت العائلة وترى ثمار اتعابها لسنوات طويلة.
كانت شاهزنان مستلقية وظهرها الى وسائدها وهي تبدو وكأنها نائمة ولكنها كانت تتأرجح بين النوم واليقظة، بين الوعي واللاوعي، وربما ساعاتها الاخيرة بين الوفاة والحياة. كانت تمر امامها كشريط سينمائي بعض الاحداث التي شكلت ركيزة حياتها في الماضي وبين احداث يومها حيث تذكرت اولادها واحفادها وحفيداتها جميعا وزوجها لا يزال الى جانبها يتكئ الى وسادة اخرى، وهو الاخر غارق ايضا في التفكير في ما سيحدث لها، ويشتد قلقه كلما سمعها تتحرك او تخرج صوتا من حنجرتها وكانها تختنق او تحاول التقيؤ.
لساعات طوال الليل، تراجع شاهزنان هذه الاحداث حالها حال طالبة تواجه امتحانا عسيرا، ولكن تبقى صورة ابنتها الغائبة عالقة في ذهنها وكانها غطاء شفاف تمر الاحداث كلها من وراء صورتها، وقبل ان تفتح عينيها على صوت ابنها في الصباح الباكر، خطرت فجأة في ذهنها ان تدعو الله ان يرزقها رؤية ابنتها قبل ان يقبض امانته منها. قالت وهي بين الوعي واللاوعي، اشعر انك قريب مني، يارب، فامهلني الى ان اراها، وعندما فتحت عينيها واذا بابنها يناديها: اماه انت بحاجة الى زيارة للطبيب، ساذهب سريعا وآتي باختي سعاد لتكون معنا في نقلك الى المستشفى. لم تستطع تحريك شفتيها ولكن لمع بريق في عينيها عندما سمعت اسم ابنتها الوحيدة.
فرح الشيخ الى جوارها عندما رأى البريق في عينيها وقال مشجعا اياها "توكلي على الله يا شاهزنان، انشاءالله ستأتي سعاد بعد قليل ويرافقك الى الطبيب وترجعين بالسلامة." سمعت هذه الكلمات المطمئنة ، ولكنها كانت متيقنة من ان النهاية قريبة، وان سرعة الاحداث في رأسها بدأت تتباطأ ولكن صورة سعاد لا تزال تغطي كل شئ. شعرت شاهزنان باطمئنان ثقيل يخيم عليها يشبه في ثقله الغطاء الثقيل الذي تتغطى به عندما يكون الجو باردا وكان الوزن يزيد الدفء ، وكذلك هذا الاطمئنان الذي لم تشعر به قط من قبل.
لم تنتظر طويلا حتى سمعت صوت ابنتها وهي تنادي من الباب "اماه...اماه"، كان صوتها وكأنها عندما كانت في الخامسة او السادسة عشرة من عمرها، رأته تدخل من الباب الخارجي مسرعة لتحتضنها. كانت وكانها تراها من خلف الجدار وهي تركض، سبحان الله، ما هذا؟ وارتسمت ابتسامة شاحبة على وجهها الملائكي، وخفت البريق في عينيها، ولكن لم تنسدل جفونها كاملة لتبقى الصورة الحقيقية الاخيرة لابنتها مرتسمة على حدقتيها الى الابد.
دفع اخاها سعاد جانبا وحمل امه مسرعا بها الى السيارة، وهي تلاحقه، وجلست في السيارة ووضعت رأس امها في حضنها وهي تعدل شعرها وتخاطبها بصوت حزين ممزوج بالحنان. شعرت سعاد انها توقفت عن التنفس وخفت نبضها. شعرت شاهزنان انها يقظة وواعية في مكان مضئ بلون ابيض ولم يكن مألوفا لديها، ولكنها لم تشعر بالوحدة او الخوف ولكنها شعرت في الوقت نفسه بالاطمئنان والارتياح اكثر من اي وقت مضى في حياتها، وفي هذا النور، شعرت بالدفء والسلام.
وحال وصولهم الى المشفى، اعلن الطبيب وفاتها، وتوقف ذلك القلب الكيبر عن النبض والى الابد. رحم الله ام الشهيد لتلحق به في جنان الخلد، والهم عائلتها الصبر والسلوان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى