الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الخامس) – راحة الإله –

ابرام لويس حنا

2024 / 3 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ركزنا في مقالتنا السابقة (رؤية العالم اليوناني للمسيحية؛ سيلسوس نَموذجًا، الجزء الثالث – مُعاناة الإله وفكرة العناية الإلهية –) على خمول وسكون الذات الإلهية و الجدل حول ما إن كان الإله دخل في حالة من السكون والخمول بعد الخلق، ونقد فكرة العناية الإلهية لتنزيه الذات الإلهية عن الشعور والمشاعر، ونقد فكرة راحة الله إذ الله مُنزة عن كل تعب، وهو ما أكد عليه سيلسوس وما نقله لنا أوريجانوس كالتالي:

(أعتقد سيلسوس أن توقف الله κατέπαυσε في اليوم السابع هو نفسه الراحة άνεπαύσατο، قائلاً مثلما لو كان – إلههم– حِرَفيّ/ عامل غير بارع χειροτέχνης مُنهمك محتاجاً لوقت ليرتاح فيه، و وهو ما لا يصح؛ فالإله ليس من المفترض أن يتعب و لا أن يعمل بيديه) (1).

وكان نتيجة لهذا بأن فُسر النص بطريقة مجازية رَمزية، كالكتبة اليهود المتأثرين بالهلينية من أمثال أرسطوبولس Aristobulus – الذي يرجع للقرن الثاني ق.م وهو مِن مؤسسي الفلسفة اليهودية بالإسكندرية – الذي فسروا راحة الله بطريقة مجازي وهو ما نقله لنا يوسابيوس القيصري، كالتالي:

(من الواضح عندما تنص الشريعة على راحة الله في اليوم السابع، فهذا لا يعني كما افترض البعض أن الله توقف من تلك اللحظة عن القيام بأي شيء ، لكنها تشير إلى أن الله بعدما اكمل أعماله أو توقف عن جميع أعماله، قام بتثبيتها أو بعبارة أخرى أراحها مُثبتاً إياها هكذا للأبد...فنظمها مُثبتًا إياها لكي لا يطرأ عليها تغير، و إعلانه حفظ يوم السبت فهو لأجلنا، ليكون علامة على ملكتنا السابعة أي العقل الذي به ندرك الأمور البشرية و الإلهية) (2).

ذاك الثبات الذي أوضحه أرسطوبولس بقوله:

(لأن الله فوق الجميع و كل الأشياء خاضعه له، ومنه أخذت الأشياء مواقعها ومراكزها ، حتى يُدرك الناس ثباتها وعدم تغيرها ، فالسماء لن تتبدل و تصبح أرضا و الأرض لن تتبدل وتصبح سماءً، ولا السماء ستتبدل و تصبح قمراً لامعاً، ولا القمر سيتبدل ويصبح شمسا، ولا الأنهار ستتبدل وتصبح بحاراً ولا البحار ستتبدل وتصبح انهاراً ، وينطلق هذا المبدأ بعينه على الكائنات الحية ، فالأنسان لن يصبح وحشاً و لا الوحش سيصبح إنسانا ، وهكذا تنطبق القاعدة على كل الأشياء الباقية سواء أكانت نباتات أو ما غير ذلك ، فكل هذا لن يتبدل ، إلا انهم خاضعين للتغيرات الذاتية الداخلية و للتحلل) (3)

وكذلك فيلو الأسكندري الذي لاحظ أن نص التكوين (وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ) (التكوين 2: 2 ) يستخدم الفعل (أراح παύω) في صيغة الفعل المتعدي المعلوم كالتالي κατέπαυσεν ولم تأتي في صيغة المتوسط المعلوم كالتالي ἐπαύσατο، أي أن فعل الراحة وقع على الأشياء وليس على الله، وعلى هذا فالعدد يُقصد به (وأراح الله الأشياء) وليس (استراح الله) فالله لا يتوقف عن الصنع ، فيُقصد باستخدام الفعل المتوسط أن الفاعل قام بالفعل و وقع عليه، أما يقصد باستخدام الفعل المتعدي عندما يكون هناك مفعول به مُغاير للفاعل، و المفعول به ليس هو الذي في حالة النصب فقط بل هو كل ما وقع عليه وقد يكون مباشر (في حالة نصب) أو غير مباشر ، وفي بعض الأحيان مُضاف (4).

وبسبب تنزيه الذات الإلهية عن التعب والمشاعر، وكما إقتبسنا في مقالاتنا السابقة جزء من حوار جايوس فيليوس Velleius (الأبيقوري) مع كوينتوس لوسيليوس بالبوس Quintus Lucilius Balbus (الرواقي) فإننا نلاحظ إتفاقهما على تنزيه الذات الإلهية عن التعب حتى وإن إختلافهما حول –عمل الله–كالتالي:

(إن الإله لا يمكن أن يتعب ولم يكن من الأصل هناك تعب لان كل العناصر سواء أكان هواء السماء ، أو الأجسام النارية/ النورانية، أو الأراضي والبحار فهي خاضعة لإرادته الإلهية) (5).

وكذلك بالبوس الذي إتفق معه على أن:

أن الكثير من الكائنات الإلهية تفعل ما تريده بدون تعب مجهود مُتعب أو شاق، لأنها لا تتكون من عروق أو أعصاب أو عظام ،فأجسامهم ليست من ذاك النوع الذي يجعلها ترتعب من السقوط أو الضرب أو الخشية من المرض وغيرها) (6).

بالرغم من تلك الصراعات ومُحاولة تفسير عِلة راحة الله، يُمكن لنا القول بأن التابع السليم لأيام الخلق يُمكن الإجابة لنا عن تلك المُعضلة، ولكن أولاً يجب أولا القول بأن معنى عبارة (وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا) أن الحياة قد خرجت من الظلمة كخروج النور من الظلمة، فالصبح يأتي بعد الظُلمة، وعلى هذا، وعلى هذا فمعنى قوله (وكان مساء وكان صباح يوما واحداً) أي (وكان الخروج من الظلمة إلى النور مَرحلة واحدة أو دورة واحدة) وذلك للدلالة على إتمامه وكمال الأمر فقد خرج من الظلمة للنور، مثلما نبع الإله (النور) مِن (رحم الظلمة) الإلهة، وعلى هذا فإنه منذ الخروج منذ الظُلمة أصبح هناك يوماً، فبدون النور لا يكن هناك يوماً، وعلى هذا فمنذ أن نبع النور لحين غيابه بدأ اليوم، ولكن دعونا نُركز على الخلق والخروج من الظلمة كالتالي:

(من الظلمة للنور ) المرحلة الأولى، خرج النور.

(من الظلمة للنور) المرحلة الثانية؛ خرج الجلد وأنفصلت الظلمة عن الأرض.

(من الظلمة للنور) المرحلة الثالثة؛ خروج الأرض من الظلمة وخروج الحياة.

(من الظلمة للنور) المرحلة الرابعة؛ خروج أنوار السماء كالشمس والقمر والنجوم.

(من الظلمة للنور) المرحلة الخامسة؛ خروج حيوانات البحر والطيور.

(من الظلمة للنور) المرحلة السادسة؛ خروج حيوانات الأرض والإنسان.

(من الظلمة للنور) المرحلة السابعة، خروج كل شىء معاً من (الظلمة للنور) وتعرش الله علي كل ما خلقه جميعاً، وهو ما عبر عنه بقوله (فَأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا) (تك 2: 1)، ليكن اليوم السابع يوم الإله، يوم الراحة والنور، وتعرشه على جميع الأشياء التي خلقها، وخروجها معاً لتحمل عرش النور ونور الإله، وعلى هذا فإن معنى عبارة (وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ، فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ) (تك 2: 2)، يُقصد بها (الإعتناء والتعرش على النور) لذا أكمل النص بتوضيح عناية الله مِن خلال تصويره بكونه مُزارعاً وغارساً للجنة كقوله (وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ، وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ) (تك 2: 18- 9)، وإعتناءه بالإنسان كذلك كقوله (وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلًا: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»، وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ») (تك 2: 16- 18).

وعلى هذا فإن معنى عبارة (وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ) أي (عدم عمله لشىء جديد) و دخوله في راحته (فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ) ومراقبته وإعتناءه وإعطاءه للتعاليم والوصايا، كما ذكرنا سابقاً.

المراجع والحاشيات:
=============
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس ، الكتاب السادس، المقطع 61.
(2) يوسابيوس القيصري ، الإعداد للإنجيل Praeparatio Evangelica ، الكتاب الثالث عشر ، الفصل 12.
(3) يوسابيوس القيصري ، الإعداد للإنجيل Praeparatio Evangelica ، الكتاب الثامن ، الفصل 10.
(4) Christopher M. Blumhofer , The Gospel of John and the Future of Israel, P.106 / Per Jarle Bekken (2015), The Lawsuit Motif in John s Gospel from New Perspectives: Jesus Christ, Crucified Criminal and Emperor of the World ,Brill Academic Publishers, Supplements to Novum Testamentum, volume 158, ISBN: 978-90-04-27868-4, p,151.
(6) شيشرون، طبيعية الآلهة ، الكتاب الثاني ، الفصل الثالث والعشرون.
(5) شيشرون، طبيعية الآلهة ، الكتاب الأول ، الفصل التاسع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرمزيات و العالم الحقيقي
بارباروسا آكيم ( 2024 / 3 / 13 - 00:08 )
النص الذي تشير اليه هو هذا:
يمكن لأي انسان مدرك ان يحسب انه كان يوم اول ويوم ثاني وانه كان مساء وكان صباح في حين لم يكن بعد لاشمس ولاقمر ولانجوم فمن تراه ساذجا ليفكر ان الله على مثال الفلاح غرس جنة في عدن من جهة الشرق ,ووضع فيها شجرة حياة ترى وتلمس بحيث ان الذي يذوق من ثمرها بأسنان جسدية ينال الحياة؟واذا ماصور الله وهو يمشي في الجنة مساءا وصور ادم وهو يختفي وراء الشجرة فلاشك على مااظن ان ذلك كله وقد عبر عنه في قصة كأنها جرت ,ولكنها لم تجر جسديا ا يدلل بشكل صوري على بعض الاسرار..اوريجانوس
المقالة في المباديء 4/16

و لكن اوريجانوس نفسه الذي آمن بالتفسير الرمزي في مواجهة سيلسوس انقلب فجأة الى الحرفية القاتلة
فطبق عبارة ( خصى نفسه عن العالم ) فذهب و خصى نفسه
حيث انه طبق النص بحرفيته لحظة وقوع بصره على كلمة ايفنوخوس
ε-;-υ-;-̓-;-ν-;-ο-;-υ-;-͂-;-χ-;-ο-;-ς-;-

مع التقدير


2 - هل الإله خلق كل الكون بيديه فقط
ميخائيل عزرا ( 2024 / 3 / 13 - 13:24 )
يعني لم يخلق بالأمر من العدم قط

اخر الافلام

.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah


.. 104-Al-Baqarah




.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في