الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة البحث عن الحقيقة

ثائر أبوصالح

2024 / 3 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


نولد في مكان وزمان معينين، في دين أو طائفة أو قومية، دون إرادة منا، وتبدأ ماكينة التربية تفعل فعلها فينا داخل الأسرة وفي المجتمع الأوسع الذي ننتمي اليه، فمنّا من يقبل كل ما يتلقاه من قيم وعادات وتقاليد وايمان، ومنا من يرفض ويتمرد على كل هذه القيم، ومنا القليل ممن يبدأ باستغلال المواهب والأدوات التي منحته إياها الحياة ليسخرها في مسيرة البحث عن الحقيقة، فلا يرفض كل ما تعلمه من اسرته ومجتمعه من جهة، ولا يقبل كل ما لقنوه إياه في سيرورة العملية التربوية من جهة أخرى ويقوم بتفعيل حس التمييز الداخلي الممنوح له بالفطرة، ويبدأ بطرح الأسئلة الصعبة؛ من أنا؟ لماذا ولدت هنا، في هذ البيت، في هذه الطائفة، في هذا الدين في هذه القومية؟ هل هناك بالفعل خالق لهذا الكون؟ هل صحيح ما يروى عن الأديان والأنبياء؟ هل هناك نهاية لهذا الكون؟ هل بالفعل هناك ثواب وعقاب وجنة ونار كما علمونا؟ هل أنا مخير أم مسير؟ اين العدالة الإلهية فيما يحصل في هذا العالم؟ واسئلة كثيرة أخرى لا يمكن الإحاطة بعددها وماهيتها.

لا اعتقد أن هناك شخصاً لم يسأل نفسه هذه الأسئلة أو جزءاً منها، عندما ينفرد بذاته، بشكل مباشر أو غير مباشر، فمنهم من يستسلم بسرعة ويقبل الأجوبة الدارجة ويتبناها، ويبدأ بالدفاع عنها، وهو بحقيقة الأمر يدافع عن نفسه، ومنهم من يرفض الإجابات التي أعطيت اليه في مراحل التربية المختلفة، ويجد ضالته عند من سبقوه في هذه التساؤلات، فيتبنى اراء المفكرين والحكماء ويبدأ بالاستشهاد بهم وبما قالوه، وهو أيضاً بحقيقة الأمر يدافع عن نفسه وعن المنظومة الأخلاقية التي تبناها، ومنهم من يبدأ بمسيرة البحث عن الحقيقة بنفسه، ولا يركن بشكل كامل لما يقوله الأخرون، ولكنه يأخذه بعين الاعتبار إذا كان يخدم جهده في التفتيش عن الحقيقة.

ليس من الصعوبة بمكان أن نستنج، عندما نمعن النظر جيداً الى ذواتنا، أننا مركبون من ثلاثة منظومات: الأولى، المنظومة العقلية ولغتها الفكر؛ ثانياً، المنظومة النفسية ولغتها الشعور أو الحدس الداخلي والذي عادة ما يكون صحيحاً؛ وثالثاً، المنظومة الجسدية المادية ولغتها الأحاسيس والغرائز. هذه المنظومات تعمل بداخلنا بشكل متواز وتتفعل وفقاً لمسلكنا وخياراتنا، الحالة المثالية لهذه المنظومات هي التوازن، على مبدأ: لا افراط ولا تفريط، عندها ننفتح على الوعي بداخلنا، أو الروح الواحدة التي تجمع جميع البشر، وتشرق علينا كشاهد على الحدث الذي يمثله صراع الأضداد بداخلنا.
الة العقل هو الدماغ ولغته الفكر كما ذكرنا سابقاً، وهو يحن دائماً الى عالمه الحقيقي؛ الى عالم الوعي او العقل الشامل فوق الزمان والمكان، ولكنه في عالم الزمكان أصبح عقلاً جزئياً، والجسد يحن الى عالمه المادي، الى عناصره المادية المكونة له؛ من تراب وماء ونار وهواء وأثير، ويحتدم الصراع بين العقل الجزئي وشوقه لعالمه، وبين الجسد وحنينه لعالمه، هذا الصراع ينطبع في النفس القابلة للصور؛ فإما أن ترتفع مع العقل وتهجر المؤثرات الجسدية فتستغني عن عالمها الخارجي وتهمله وهذا تطرف غير مطلوب وغير مرغوب، وأما أن تهجر عالم العقل وتغوص في العالم المادي وهو تطرف غير مطلوب وغير مرغوب أيضاً، ولكي تستطيع النفس أن ترتفع؛ عليها بناء جناحين متوازنين؛ أي الاعتدال في المسلك والتوازن بين العالم الداخلي العقلي والعالم الخارجي المادي، فترتفع في سلم العرفان لينفتح عليها الوعي، فتصبح عالمة، وتصبح قادرة على الإجابة على كل التساؤلات التي طرحت، بحكم التجربة وليس بحكم الإيمان بالشيء، ولذلك يقول افلاطون العلم تذكر.

عندما يسيطر العالم الخارجي أي المادي على الإنسان، ويصبح همه الوحيد الغنى والشهرة والسلطة، وغيرها من الرغبات الدنيوية، وتتضخم بداخله الأنا الوهمية، عندها تستعبد المنظومة المادية المنظومة العقلية، ويسيطر الأنا على الفكر، ويصبح خادما للمآرب المادية وهذا ما تسميه الأديان الأبلسة، فيشيط الفكر عن مساره الحقيقي أي ينحرف باتجاه خدمة الأنا الوهمية المصطنعة، وهذا ما تسميه الأديان بالشيطنة. فالشيطنة والأبلسة هما الانغماس الكامل بالعالم المادي، وهبوط النفس الى الدرك الأسفل فتبتعد عن حقيقتها، وتعيش وهماً قد تستفيق منه عند سكرات الموت.

أما في الحالة المعاكسة، عندما يسيطر العقل على النفس بشكل كامل عن طريق اهمال العالم المادي واهمال الجسد المقدس، الذي منحه الله للنفس لتشرق من خلاله على العالم المادي، فان هذه الحالة، ستحرم النفس من فرصة الترقي؛ لأن امتحان النفس لا يصح الا من خلال العالم المادي، فالذي يفصل نفسه عن البشر وينعزل في كهف للعبادة، يحرم نفسه من الخوض في تجربة العفة والامتناع عن الشهوات طوعاً وليس جبراً، فلا شرف لنفس أن تترفع عن الخطايا إذا لم تكن متاحة امامها وقادرة عليها. فليس مطلوب الانعزال عن الناس وعن مشاكلهم لكي تترقى في السلم العرفاني، وانما عليك الاعتدال في خضم هذا العالم وتلاطم أمواجه، وهنا يكمن الامتحان الحقيقي وتبرز الفروقات بين الأفراد.

لقد ذهب فرويد الى نفس المنحى عندما تكلم عن الأنا "الأيغو"، والأنا العليا "السوبر ايغو" والهو "الأيد". فالأنا العليا تعبر عن مجمل العادات والقيم التي يتعلمها الإنسان من أهله ومجتمعه، وتحدد له معالم وتعريفات مفاهيم الصواب والخطأ؛ أي العالم المثالي، والهو هو عالم الغرائز الذي يشد الإنسان الى العالم الخارجي، والأنا هو حصيلة الصراع بين الأنا العليا والهو، والعقل الباطن هو الوعي الحقيقي الذي يحرك الإنسان دون أن يدري، ويجمع بداخله كل تجارب هذا الإنسان بكل تفاصيل حياته التي يعيها والتي لا يعيها. فمعيار الصحة النفسية هو مقدار التوازن بين الأنا العليا والهو، واختلال هذا التوازن هو مدخل للأمراض النفسية. كما هو اختلال التوازن بين العالم الخارجي المادي والعالم الداخلي العقلي يشكل عقبة في ارتقاء النفس البشرية.

لقد جاءت الأديان، وعلى مر العصور، لتشكل مدارساً توحيدية بهدف رفع الوعي الجمعي، ليفهم الإنسان حقيقته، ويصل الى مرحلة التخرج من هذه المدارس، لكي يبدأ بخوض التجربة العرفانية بنفسه، وليس من أجل أن يتقوقع في هذه الأديان طوال عمره. فهل يُعقل أن يرسل الخالق أدياناً متناقضة تحارب بعضها البعض، خصوصاً أنها مبنية على حقيقة واحدة لا تناقض فيها وهي حقيقة التوحيد، ولكن أصحاب الأديان حولوها الى عقائد واستعملوها كسلطة ووسيلة للسيطرة على عقول الناس وحاربوا باسمها، وكلهم يدعي أنه يدافع عن الله، فهل الله عاجز حتى يدافع عنه البشر؟ فالطالب عندما يدخل المدرسة ويتدرج من صف الى صف حتى ينهي كل المراحل التعليمية المطلوبة، يبدأ بعد التخرج بخوض تجربته الشخصية للتعرف على الحياة، ولا يبقى طوال عمره في المدرسة.

لذلك لكي يجيب الإنسان عن كل الأسئلة التي يطرحها دائماً على نفسه، عليه أن يخوض بنفسه تجربة المعرفة وألا يعتمد على الإيمان، فالأيمان هو أول خطوة في طريق المعرفة، فهو الفرضية التي نعتقد أنها صحيحة، فإذا لم تعقبها التجربة العملية، لإثبات صحتها من عدمه، يبقى الإيمان مجرد احتمال قابل للإثبات أو النفي، ولكن بالتجربة نصل الى مرحلة اليقين، وعندها تنفتح المعارف الهاماً، فبالتوحيد تعرف الأشياء ولا يعرف التوحيد بالأشياء. فنحن نصنع عالمنا من خلال فكرنا، فالفكر خالق يستطيع أن يخلق لنا جنتنا الداخلية عندما يكون منضبطاً، ويستطيع أن يخلق لنا جهنمنا عندما يشيط وينحرف، فمفهوم الجنة والنار وابليس والشيطان والخير والشر هم من انتاج الفكر القطبي، والمخلّص الوحيد لنفسك هو انت، عندما تنضبط في مسلكك فتبدأ بشق طريقك نحو الجنة فتعيشها على هذه الأرض.

ان وجود الخالق من عدمه ليس ايماناً وليس عقيدة، ولو كان الأمر كذلك، لكان الخلق بغالبيتهم العظمى قد عرفوا الله، فالغالبية تؤمن وتعتقد بوجوده، وهناك من يقتل باسمه، ولكن الإيمان والاعتقاد شيء واثبات الوجود شيء آخر، لا يفقهه الا الواصلين أمثال الحلاج ومحي الدين ابن عربي وغيرهم ممن يتشرف ويحفل بأسمائهم التاريخ، وهؤلاء بحد ذاتهم قيام حجة على الناس الذين يسألون اين هو الله؟ فالله يجيبك من خلالهم، ويقول لك، ان هناك طريقاً يوصلك الى ما تريد ان اردت، ولكن العالم الخارجي قد سحبك باتجاهه فنسيت من انت، والى اين ستعود، ولكن ستأتيك لحظة تتذكر فيها ما فاتك، وكيف أضعت حياتك هدراً، مما يوجب إعادة التجربة من جديد حتى تنجح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القضايا الميتافيزيقية الكبرى وعالمنا المحسوس
منير كريم ( 2024 / 3 / 13 - 16:57 )
شكرا للاستاذ ثائر ابو صالح
لايستطيع الانسان ان يعرف غير العالم المحسوس تجريبيا
وهذه المعرفة تقريبية واحتمالية
اما القضايا الميتافيزيقية الكبرى لا يستطيع الذهن البشري معرفتها
وكل مايقال فيها هو تخمين وافتراض لا اكثر
لكن ممكن الاستفادة من بعض الاطروحات الميتافيزيقية كادوات براغماتية تحقق بعض المنافع الايجابية

اخر الافلام

.. كيف تتطور أعين العناكب؟ | المستقبل الآن


.. تحدي الثقة بين محمود ماهر وجلال عمارة ?? | Trust Me




.. اليوم العالمي لحرية الصحافة: الصحافيون في غزة على خط النار


.. التقرير السنوي لحرية الصحافة: منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريق




.. بانتظار رد حماس.. تصريحات إسرائيلية عن الهدنة في غزة