الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الخامس) –تجسيم الإله وتحدث الحيوانات وأساطير العجزة والأطفال–

ابرام لويس حنا

2024 / 3 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


واصل سيلسوس إعتراضاته كما رأينا في المقالات السابقة، وفي تلك المقالة سنرى إعتراضًا مشهوراً وهو الإعتراض على وصف الله بصفات بشرية، فالله مُنزة عن تلك الصفات، فهل أبصره أحداً؟! لا لم يُبصر ولم يُري فكيف إذا يلحقون به صفات بشرية! حتى وإن كانت بصفة مجازية، وينقل لنا أوريجانوس إعتراض سيلسوس كالتالي:

(لم يَفهم سيلسوس الأسباب التي دعت لاستخدام مصطلحات الأعضاء البشرية للإشارة للقوى الإلهية ، قائلاً : (إن الله ليس عنده فم ولا صوت)، وحقاً إنه ليس لديه الصوت الذي يضرب أو يرج الهواء، مضيفاً : (إن الله ليس عنده ما ندعي معرفته)، إلا انه لا يحدد ما الذي ندعي معرفته، فان كان يقصد الأعضاء البشرية و أطرافها، فنحن نتفق معه أي إن كان يقصد الأشياء الجسدية، ولكن إن كان يقصد بقوله "الأشياء التي ندركها" بالمعنى العالمي ، فهناك اذا الكثير من الأشياء التي نعرفها عن لله ، مثل الفضيلة و البركة والألوهية) (1)

فكما نرى إن أوريجانوس يوافق سيلسوس إن الذات الإلهية ليس عندها أعضاء ككجسم الإنسان، لكنه يجادل باننا نعرف بعض خصائص الله مثل الفضيلة و الألوهية، وهذا ما نجده كذلك في الوسط اليهودي، فقبل سيلسوس نجد فيلون اليهودي رفض أن يكن لله بالفعل صفات جسدية مثل البشر قائلاً :

(قال موسى : وخلق الله الإنسان على صورته ومثاله، وحقاً إنه لا يوجد أي كائن يولد على الأرض هو أكثر شبهاً لله من الإنسان، ولكن لا يظن أحدا انه يقدر أن يعرف شبة الله من الخصائص الجسدية البشرية، لأن الله ليس هو بكائن على شبة الإنسان ولا حتى الجسد البشري هو على شكل الله، فالحديث يشير هنا إلى اهم جزء من الروح وهي العقل، الذي يوجد في كل فرد منا...الذي هو بالرغم من كونه غير مرئي إلا انه يري كل شيء و يميز كل شيء و يصنع الفنون والعلوم بطرق وأنواع مختلفة ، و يفحص كل شيء) (2)

كذلك رفض الرواقيون أن يشبه الله أي شكل أنساني، مما جعل سيلسوس أن يفني أن الله خلق الإنسان على صورة الآلهة، بقوله:

(الله لم يجعل الإنسان على صورته، لأنه الله ليس من هذا النوع /الصنف (τοιόσδε) ولا يشبه أي شكل) (3)

أما بالنسبة لأوريجانوس فبالرغم انه قد يُفهم أن الصورة قد تشير للجسد البشري، ولكن لماذا يتم استقصاء الروح والجزء الداخلي للإنسان؟ فإن كان يعني الشكل البشري فهذا لا يمكن تصديقه، ولهذا يجب أن تفهم الصورة على كونها الجزء الداخلي من الإنسان أو روحه.

كذلك نقل أوريجانوس اعتراض سيلسوس على إمكانية تحدث الثعبان لحواء، واصفاً إياه كالتالي:

(يعتمد سيلسوس هنا على السرد التاريخي بدلاً من الروايات الدينية ، معتمداً على مقاطع تدعي فيها كثير من الامم في العصور القديمة سواء أكانوا اثـينين Athenians أو مصريين Egyptians أو أركاديين Arcadians أو فريجيين Phrygians أن بعض الاشخاص المتواجدين بينهم ولدوا من الارض وكل منهم يزين إدعاته بأدلته الخاصة به، ثم اضاف سيلسوس قائلاً :

إن اليهود الموجودين في بعض انحاء فلسطين و الفاقدين كلياً أي تعليم والذين لم يسمعوا من قبل ما تغنى به هسيودوس قديماً و غيره من آلاف الاشخاص المُلهمين، قاموا ببناء تلك الروايات البدائية الغير نقية والعاجزة عن أن تقنع أحدهم بصورة كاملة وتامة، قائلين إن بعض البشر شكلتهم يد الله الذي نفخ فيهم ( تكوين 2 :7) وأن هناك إمرأة شُكلت من ضلع ( تكوين 2 : 21 -22)، وثعباناً ثار ضد أوامر الله ( تكوين 3 : 1 -5 ) منتصرا علي وصاياه، انها اساطير تُروى للنساء العجائز، تصور الله منذ البداية على انه ضعيف و إله غير قادر على اقناع حتى الانسان الذي شكله بنفسه ، اساطير تصور الله بأكثر الطرق إثما وغير قداسة) (4).

فلم يجد أوريجانوس سبيلاً سوى الإعتراف بتمكن وثقافة سيلسوس ولم يجد رداً سوى القول بأن افلاطون لم يفكر ان الشعراء مثل هسيودوس ملهمين وذلك لان هسيودوس نُفى من جمهوريته، بالإضافة أن موسى اقدم من هسيودوس لأنه عاش قبل الحرب الطروادية بزمن طويل، فقال أوريجانوس:

(ولكن في الواقع ، فإن سيلسوس [المدعي] ثقافة وإنه قارئ متمكن يتهم اليهود والمسيحيين بالجهل وقلة العلم، مصرحاً بدقة معرفته بالتسلسل الزمني للمؤرخين سواء أكانوا أغريق أو برابرة يعتبر هسيودوس و عدد آخر "لا يحصي" من الآخرين المعتبرين "مُلهمين" هم أقدم من موسى ومن كتاباته، لكن في الحقيقة فإن موسى هو اقدم بكثير من الحرب الطروادية ، فكيف إذا لا يمكن تصديق اليهود الذين لم يألفوا روايات موحى بها لا يمكن تصديقها بخصوص ميلاد الانسان من الارض، كروايات الرجال "الملـهمين" من أمثال هسيودوس و هذا العدد "الذي لا يحصي" من رفقائه الملهمين الآخرين، الذين لم يتعلموا ولم يسمعوا الروايات الاقدم والمهيبة الموجودة في فلسطين، فكتبوا "أنساب أو ولادة الآلهة الثيوغونيا Θεογονία" كتاريخ، وفيه ينسبون الولادة لألهتهم و غيرها من السخافات الأخرى، مما اضطر أن يطردهم أفلاطون من "جمهوريته" كمفسدين للشباب من امثال هسيودوس وغيرهم الذين الفوا قصائد من نفس الوصف، فمن الواضح ان أفلاطون لم يعتبر الذين تركوا مثل تلك الأعمال خلفهم "ملهمين") (5)

كذلك اشار أوريجانوس ان عدد سفر (التكوين 2 :7) لا يشير الى يدي الله، لكنه مذكور في عدد سفر ( ايوب 10 : 8 ) و (المزامير 119 : 73) والذي يذكرا تكوين الانسان بيدي الله (6)، وطبقاً لأوريجانوس فإن كانت رواية هسيودوس تفسر بصورة مجازية كرواية خلق باندروا فلماذا لا يمكن تفسير النصوص اليهودية كذلك رمزياً ! (7).

ولكن الحجة الأكثر قوة لسيلسوس هو عدم قدرة لله على اقناع خلائقه، وهو جدل استخدمه سيلسوس كذلك ضد يسوع كهروب حتى تلاميذه (8) فالهدف الرئيسي لفن الخطابة القديم هو ان يقنع الحديث الأشخاص.

إن نقد سيلسوس هنا على كون الرواية أسطورة تذكرنا بما قاله فيلو اليهودي فبعد ان وصف قصة حواء و الثعبان ، منكراً كونها قصص خرافات /اختراعات خيالية (μύθου πλάσματα) ، مفسراً اياها بطريقة مجازية، كالتالي:

(وهذه الامور ليست مجرد اختراعات خرافية يبـتهج بها الشعراء والسفسطائيين، بل بالأحرى فهي تحجب بعض الحقائق الرمزية تبعاً للتفسير السري، فأي شخص إن بحث بتتابع معقول فاحصاً التخمينات، سيقول بشكل صحيح تماما أن الحية المذكورة هنا هي رمز للمتعة، ففي المقام الاول تفتقر الحية للقدمين، زاحفة على بطنها وجهها الى اسفل، و ثانياً تستخدم الطين كطعام لها، و ثالثاً تحمل السم في أسنانها، فمن طـبيعته يقتل كل من يلدغه.... وهكذا الرجل الذي يسلم نفسه للمتعة هو خير تمثيل لشرور الحية، فهو بصعوبة يرفع رأسه، فيكن مُثقلاً للأسفل، محصوراً بالإدمان الذي يبقيه لأسفل، لا يأكل من الطعام السماوي التي تقدمه الحكمة للمتأملين متمثلاً في الخطابات و الحكم ، فعندما يري طاولة عليها أطباق شهية كثيرة ،ينظر للأسفل مكرساً نفسه لها راغباً بأن يمتلئ بها كلها ولا يهدر أي جزء من هذه الطاولة الفخمة، فأسنانه تحمل السم ليس بأقل مما يحمل الثعبان من سم في أسنانه التي تتمثل في لسانه و خدمه والاشخاص المنطوين بتسهيل شرهه، ولسانه قبل أي شيء لأنه هو الذي يُقرر مميزاً بين النكهات المختلفة والاطعمة المختلفة، و الافراط في الأكل كذلك هو بطـبيعته سام وقاتل،لان الانسان يكسد الطعام فوق بعضه البعض أكثر مما يحتاج اليه وبالتالي لن يستطيع هضم الطعام، اما بالنسبة لنطق الثعبان بصوت بشري وذلك لان المتعة توظف عددا لا يصحي من أبطالها و المدافعين عن مصالحها) (9).

وكذلك رفض فيلو فكرة ان الله لديه صفات جسدية مثل اليدين، وخلق حواء من ضلع آدم و نفخ الله في آدم بصورة حرفية، وهو ما رفضه سيلسوس كذلك لكن سيلسوس أصر على أن السرد يجب ان يُفهم بصورة حرفية، وبالرغم من سلبية سيلسوس لكن مِن المحتمل ان هذا النفور لم يكن شائعاً بين قراء العالم الروماني -اليوناني، إذ نجد المؤلف الفيثاغوري المجهول (إكفانتوس الأبوكريفي Ps. Ecphantus) –القرن الاول او الثاني قبل الميلادي - اعتمد على رواية سفر التكوين لوصف البشر كالتالي:

(أستقر الانسان على الارض في تلك الارض النائية، مبتعداً عن طبـيعته النقية مُثقلاً بهذه الارض العظيمة، وبصعوبة بالغة يرتفع عن أمه [أي عن طبـيعته الارضية] ان لم يربطه الوحي /الالهام بالكائن الحي الأبدي الذي يظهر لجانبه الأفضل الهيئة السرية لجابله) (10).

فواضح من السياق هنا أنه يعتبر إن الانسان مكون من مزيج من الارض و نسمة من الله، وهو نفس ما ادعاه فيلو بأن الروح لن تكون قادرة على فهم الله ان لم يلهمها الله، كالتالي:

(فكيف تستطيع النفس ان تدرك الله إن لم يكن قد ألهمها اولاً و لمسها بقوته! فالعقل البشري لا يجرؤ على الصعود لفهم طبيعة الله إن لم يرسم الله بنفسه مسار صعوده) (11).

وعلى هذا فإننا نرى إصرار أوريجانوس وفيلو اليهودي على التفسير الرمزي ورفض التفسير الحرفي، لأنه إن كانت قصص حقيقية فبالتالي هي لا تعدو عن كونها خرافات وأساطير للأطفال، وعلى هذا فإن قصة الخلق في التكوين (1، 2) وتكوين الإنسان وغيرها يجب فهمها بصورة رمزية روحية فقط، ليست بصورة حرفية، هذا النمط من القصص نرى مثيله في القصص اليوناني والروماني وأدبيات الشرق الأدنى القديم مثل القصص المصرية القديمة لرع وست التي ترمز للحرب بين النور والظلمة، و تاسوع هليوبوليس والأشمونين وغيره من التصاوير الرمزية التي تحملها التماثيل المُصورة في مصر القديمة، والتي إعتبرها (القصص اليهودي) آلهة حقيقية في قصة الخروج من ارض مصر، مُسئياً للاهوت المصري، فأحرام على بلابـله الدوح حلال للطير من كل جنس؟!، فإن كان القصص اليهودي يُسى للاهوت المصري بنفس الطريقة التي يُساء به إليه، ويقال إنه يجب ان تٌفهم قصصه اليهودية التوراتية بصورة حرفية، لهذا يشهون تاريخ القدماء؟! بالأخص المصريين؟!

المراجع والحاشيات
==============
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس ، الكتاب السادس، المقطع 62.
(2) فيلو الإسكندري، خلق العالم de opificio mundi، الجزء XXIII، المقطع 69.
(3) أوريجانوس، ضد سيلسوس ، الكتاب السادس، المقطع 63.
(4) أوريجانوس، ضد سيلسوس ، الكتاب الرابع، المقطع 36.
(5) أوريجانوس، ضد سيلسوس ، الكتاب الرابع، المقطع 36.
(6) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 39.
(7) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 38.
(8) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الثاني، الفصل 39.
(9) فيلو الإسكندري، خلق العالم de opificio mundi، الجزء LVI ، المقطع 157-159.
(10) فيلو، التفسير الرمزي Allegorical interpretation ، الكتاب الاول ، الجزء XIII ، المقطع 38








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترمب يغازل المانحين اليهود بالورقة الفلسطينية ويطلق سلسلة من


.. حلمي النمنم: فكر الإخوان مثل -الكشري- | #حديث_العرب




.. 40-Ali-Imran


.. 41-Ali-Imran




.. 42-Ali-Imran