الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية اللغة في الفلسفة

احمد زكرد

2024 / 3 / 20
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لا ريب أن اللغة من أقدم وسائل التواصل التي استخدمها البشر عبر التاريخ. منذ الأزمنة القديمة، استخدم الإنسان القديم الأصوات والعلامات للتعبير عن احتياجاته وتفاعلاته مع العالم من حوله. ومنذ ذلك الحين، شهدت اللغة تطورات متعددة تشكلت على مر العصور والحضارات. تطورت اللغات مع تطور البشرية وتغيرت تبعًا للظروف الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية. من بدايات استخدام الصوتيات البدائية إلى تطور الكتابة كانت اللغات تعبر عن تاريخ الحضارات وتحكي قصصها و تعبر عن هويات الأفراد وثقافاتهم وتجاربهم الشخصية... هذا يجعلنا ندرك أنها ليست مجرد أداة للتواصل بل هي جزء لا يتجزأ من هويتنا وتاريخنا وثقافتنا.
يمكن أن نفهم مفهوم اللغة من زاويتين مختلفتين: الأولى تتعلق بالاستعمال الفردي للكلام، وهنا ترتبط اللغة بالانسان باعتباره كائنا ناطقا لأنها تحيل إلى الكلام والفكر. في حين تتعلق الزاوية الثانية بالنظام الذي تشكله العلامات والرموز، وهنا تتخذ اللغة أشكالا متعددة تتجاوز التعبير الكلام إلى كل أشكال التواصل الأخرى ما يجعلها ظاهرة عامة تتجاوز الإنسان إلى الكائنات. ان الهدف الأساسي الذي كان يطمح إليه الإنسان بعد خروجه من عالم الحيوان المثقل بالإشارات والأصوات المبهمة هو وضع أسس للتواصل يعبر من خلاله عن قدرته الإبداعية. تشكلت الأصوات وتم بناء العلامات وفق صيغ اعتباطية ترتبط أساسًا بالاتفاق الذي يفسر اختلاف الألسن، رغم أنها تعمل بنفس الآلية المتمثلة في التمفصل المزدوج (يعود مصطلح التمفصل المزدوج إلى رائد علم اللسانيات الحديث دي سوسير، فقد ذهب إلى أنَّ التمفصل هو تجزئ اللغة إلى وحدات صغيرة دالة أو مقاطع صغيرة...) بمعنى ان هذه العلامات تجعل اللغة الإنسانية نظامًا مكونًا من عدد صغير من الأصوات، ولكن عندما تركب وتحلل هذه الأصوات نحصل على عدد لا متناهي من العلامات. وتكون العلامات خاضعة لمجرى الخطاب وتحويلاته، وفقًا للتعبير "مارتينيه".
هذا ما كان ينتظره الإنسان من اللغة كنظام رمزي صاغه متطلعا لعالم مفعم بالغايات، لكن السؤال المعضلة يتعلق بما أسماه "نيتشة" بالمآل، أي بما انتهت إليه اللغة لحظة تنكرها لغاياتها، يقول "نيتشة": «الإنسان صانع اللغة ولكنه أوّل ضحاياها». فإذا ما كانت اللغة لحظة تجلي المكبوت والمهمّش واللامعقول كما تمثلها "فوكو"، وإذا ما كانت اللغة لا تقول ما تقول حين تقول، فإننا مع "برغسون" نكتشف حدودها و قصورها، إذ كثيرا ما تقف الألفاظ حجابا بين الإنسان و ذاته و بين الإنسان والعالم. فهي بمثابة الملصقات التي تحجب الحقيقة، حقيقة الأشياء في ذاتها، إنها القطيعة والعزلة، وهذه القطيعة تبدو في الواقع قطيعة مزدوجة فهي قطيعة بين الأنا وعالمه الداخلي وبين الأنا والآخر والعالم. ويمكن بلورة هاتين القطيعتين من خلال أطروحتيْ كل من " هنري برغسون" و"غاستون برجيه". فالأوّل: يبيّن لنا أن عالم الذات هو ديمومة متجددة، فهي ليست حالات نفسية متعاقبة ومتكررة بل هي عالم الكيف غير المتجانس والمتنوع دائما، لذلك تصبح مقولة الزمن لاغية لأنّ الزمن يقتضي فهم الأشياء وربما ذلك ما يفسّر تعريف "برغسون" للّغة بما هي اختزالية "تشتيتية" يتم بناؤها على نحو تعاقبي، لذلك فهي تشوّه سيلان المشاعر والانفعالات وتفسد تجددها الدائم. فاللفظ لا يُبقي من الشعور إلا خصائصه العامة، إذ يفرغه من بعده الشخصي فتحجب عن الذات حقيقة مشاعرها وتخدعها. إنّ "الألفاظ التي بها نتواصل تذوّب الأنا في قوالب النّحن فيغيب الأنا الشخصي في ثنايا الغير، يقول "برغسون" في كتابه "محاولة حول معطيات الوعي المباشر": «ها نحن أمام ظلِّ لأنفسنا إذ نتوهم أننا حلّلنا شعورنا ولكنّنا استبدلناه في الواقع بحالات جامدة يمكن ترجمتها إلى كلمات». أمّا "غاستون برجيه" فإنه يؤكد أن ما تحياه الذات من انفعالات ومشاعر وحالات مختلفة هو من تفرّد بحيث لا يمكن فتحه للآخرين إلاّ على وجه الإيماء والإشارة، فالإنسان مكره على أن يحيا في عزلة لا سبيل لاختراقها عبر تشريك الآخر فيها. إذن اللغة وظيفيّا تهدف إلى التواصل وكشف حجب الذوات والعالم، لكن التواصل يهدف دوما إلى نقلِ ما لا يمكن نقله، إذا التجربة الذاتية لا يمكن أن يدركها الآخر في فرادتها، فحالات مثل الألم أو اللذة لايمكن للآخر أن يستشعرها في أدق تفاصيلها. وتتجلى هذه القطيعة بوضوح في موت من نحبّ، فإنّ الحزن يظل تجربتي ويبقى الموت بالنسبة لي تجربة مجهولة فنحن نموت كما نولد بمفردنا. وكما استنتج "نيتشة" من خلال منهجه الفيلولوجي أن أوهاما عديدة قد سيطرت على الإنسان وينتهي إلى كون اللغة أداة خداع ووسيلة للمراوغة نتيجة كونها تعتمد أقنعة الاستعارات ورياء الكنيات، يقول:« كلّ لفظ هو حكم مسبق وفي ذلك يكمن خطر اللغة على الفكر». أمّا المعنى الآخر المخفي في اللغة فهو ما أكده "رولان بارت" بقوله: «إن اللغة، ما إن يُنطق بها، حتّى وإن ظلت مجرد همهمة، فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها» مما يعني أن اللغة لاتحقق التواصل إلاّ على جهة التسلط والزيف والمغالطة. بهذا المعنى يحقّ لنا القول بأنّ اللغة أخطر ما امتلكه الإنسان: «فهي تفتح أمامنا أبواب فهم العالم وتغلقها دوننا» على حدّ تعبير "ميرلوبنتي".

تعكس هذه الجوانب المعقدة للغة المدى الواسع لدورها في حياة الإنسان وتأثيرها على تجاربه وتفاعلاته. فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل اليومي بل هي أيضًا عبارة عن نظام من الرموز والعلامات يحمل في طياته الكثير من القوة والتأثير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. باريس تسلم -بري- الورقة الفرنسية المتعلقة بوقف إطلاق النار ب


.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن| #أميركا_ال




.. الخارجية الأميركية: 5 وحدات في الجيش الإسرائيلي ارتكبت انتها


.. تراكم جثامين الشهداء في ساحة مستشفى أبو يوسف النجار برفح جنو




.. بلينكن: في غياب خطة لعدم إلحاق الأذى بالمدنيين لا يمكننا دعم