الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء العاشر) – دحض العناية الإلهية وأهمية العبادة –

ابرام لويس حنا

2024 / 3 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نقل أوريجانوس عن سيلسوس اقتناعه بإن العناية الإلهية لا تهتم بالإنسان ولكنها امور الحياة المُعتادة العادية و قوانين الطبيعية، فقال:

(سواء سيلسوس أو الذين على شاكلته الذين يفكرون بنفس الفكر مذنبين بصورة أكبر عند الاعتقاد ان الله الذي يُعيل /يدبر زاد الكائنات العاقلة ليس بأكثر مما يتم لإعالة النباتات و الاشجار و الأعشاب و الشجر الشائك، فهو أولا يعتقد ان الرعد والبرق والمطر ليسوا نتيجة عمل الله، مُظهراً بذلك بكل وضوح تعاليمه الأبيقورية، وثانياً يقول حتى لو الشخص اعتبرها انها اعمال الله، فهي لا تدعم حياتنا أكثر مما تدعم وتغذي حياة الاشجار والنباتات و الاعشاب و الاشواك، مصراً كما لو كان ابيقوري حقيقي ان تلك الامور أي –المطر والرعد و البرق–هى نتيجة الصدفة وليست اعمال نتيجة العناية الإلهية، لأن تلك الامور لا تفيد بني الانسان بشكل أكبر مما تفيد النباتات و الاشجار و الاعشاب و الاشواك، مضيفاً : واذا قلت انها تنمو لأجل بني الانسان اى النباتات والاشجار والاعشاب و الاشواك ، فلماذا تقل انها من اجل نفع الانسان أكثر من نفع الحيوانات الغير العاقلة و الحيوانات البرية ؟) (1).

وكما اوضحنا من قبل فإن رأي أوريجانوس بكون سيلسوس أبيقوري المذهب تمت معارضته بقوة في العصور الحديثة، فأفكاره كانت في الغالب افلاطونية، وبالرغم من هذا فإنه لا يلزم أن لا يكن هناك تطور في الفكر الأبيقوي، كما سيتضح من مُقارنة فكر (أبيقور وبالأخص لوكريتيوس الأبيقوري الذي فسر الظواهر الطبيعية وبين جايوس فيليوس الأبيقوري)، فينقل لنا المؤرخ الروماني لاكتانتيوس Lactantius اعتقاد أبيقور لعدم وجود عناية إلهية واقتناع ابيقور بأن المناخ وتـبعياته من مطر ورعد وبرق هي ظواهر طبيعية تحدث صدفة وليست نتيجة العناية الإلهية، كالتالي:

(كان النظام الأبيقوري هو المتبع بصورة أكبر من نظراءه ليس بسبب لأنه لا يحمل أي حقيقة و لكن لأن اسم المتعة يجذب الكثيرين ، فكل شخص يميل بطـبيعته للرذائل، وبالإضافة لهذا فإن النظام كأنه تكيف مع شخصية كل فرد على حدة وذلك لجذب الناس اليه، فمثلاً يمنع الكسول من ان يتم اجباره على التعلم، مُعفياً الرجل الطماع من اعطاء هبات للشعب ، مانعاً الرجل الغير نشط من ان يتم تكليفه بأمور واعمال الدولة و كذلك الكسول من التمرينات الجسدية والجبان من الخدمة العسكرية لغير المؤمنين بدين اللادينيين يُقال لهم ان الآلهة لا تعبأ بما يفعله الانسان، و الرجل الاناني و مُتبلد الاحساس ليس مُطالب بأن يعطي أي شيء لأى أحد لان الرجل الحكيم يعمل من أجل نفسه، وبالنسبة للشخص الذي يتجنب الحشد يتم الاشادة بالوحدة ، وبالنسبة للشخص البخيل جدا يتم الاشادة بانه يمكن العيش فقط على الخبز والماء. واذا كرة الرجل زوجته، تُعدد مميزات العزوبة له، والذي لديه اطفال سيئين، يتم الاشادة بمدى سعادة من ليس له طفال [كأنه ليس له اطفال]، و بالنسبة للآباء الغير طبيعيين [قد يكون قصده على الشاذين جنسياً] يُقال انه ليس هناك رباط بين الاباء الطبيعيين، و للرجل الحساس و الغير قادر على التحمل يُقال له ان الألم هو اعظم الشرور، و للرجل الجَّلد/المتحمل الصبور يُقال له ان الرجل الحكيم يكون كذلك سعيداً حتى لو واقع تحت الآلام، والشخص الذي يدفع نفسه وراء النفوذ والاختلاف فهو يتمتع بالتودد /الاقتراب من الملوك، بينما الشخص الذي لا يقدر على تحمل الكدر والانزعاج فهو يتمتع بتجنب البلاط الملكي، بينما الشخص الماكر فهو يجمع بين كل تلك الشخصيات المُختلفة و المتنوعة...لكن ما هو المصدر الذي استقي منه النظام كل هذا؟

انه أبيقور الذي كان يرى ان الخير دوماً خاضع للمَحن و الفقر و الضنك و النفي وخسارة أشد الاصدقاء قرباً ، بينما رأي على النقيض ان الاشرار يَسعدون و يتمتعون بالنفوذ و يحظون بالتشريفات /الاحترامات، لقد رأي ان البراءة غير محمية ويلوذ المُجرمين بالفرار من جرائمهم، لقد رأي ان الموت لا يفرق بين سن و آخر، البعض يَصلون للشيخوخة بينما الآخر يموتون في المهد و البعض الآخر يموت بعد ان اصبح اخيرا قوياً ونشيطاً ، والبعض الآخر يموت وهو في زهرة الشباب وتأخذ الحروب افضل الشباب وتخضعهم للذبح. ولكن الذي اثار حفيظته وقلقه بشكل خاص هو حقيقة ان اكثر الرجال تديناً يُصابون بشرور عظيمة في حين الآخرين الذين أهملوا الآلهة او عبدوا بطريقة شريرة فاسدة لم يُصابون على الاطلاق باي شرور او اصيبوا بشرور هينة، بل حتى المعابد ذاتها معابد الآلهة اضرمت فيها النيران بالبرق.

حتي ان لوكريتيوس Lucretius اشتكي قائلاً :

لقد كان غالباً يقذف البروق مُرمياً بها معابده مُشعلاً فيها النيران، ثم ينسحب للصحراء مُفرغاً غضبه بإرسال الصواعق التي غالباً لا تصيب المذنبين، لكنها تقتل الابرياء والذين لا يسببون الأذى، فمن على عرشه بأوليمبوس الشامخة /العالية يهاجم بنفسه قلاعه ومعابده بل واطلق النيران على مسكنه بالعاصمة.

لهذا عندما فكر أبيقور في كل تلك الامور معتبراً اياها ظلم، اعتقد انه لا توجد عناية إلهية، لكن لو لم يكن هناك عناية إلهية فكيف يخلق العالم بهذا الترتيب ؟ فأجاب أبيقور قائلاً : "لا يوجد هناك أي ترتيب لان كثير من الامور صُنعت بطريقة مُختلفة عن التي يجب ان تصنع بها، لكن ان لم يكن هناك أي عناية فكيف اذا نجد اجساد الحيوانات مُرتبطة بهذا الشكل والاسلوب، فأعضاء جسدها المختلفة مُنظمة بطريقة عجيبة، وكل منها له وظيفة خاصة؟! وان لم يكن هناك فلماذا تهطل الامطار وتنبت أوراق الاشجار وثمارها ؟ ، فأجاب أبيقور ان كل تلك الامور تحدث من تلقاء نفسها وليس بسبب العناية الإلهية) (2).

وكذلك اتفق لوكريتيوس Lucretius وهو من روماني تابع لفكر أبيقور أن القوة الإلهية لم تخلق الكون من اجلنا، فالرعد والبرق و العواصف والمطر هي ظواهر طـبيعية ليست نتيجة أعمال الآلهة، كالتالي:

(إذا لم تقدم الطبيعة ذاتها نموذجاً لعملية الخلق؟ إذ أن كمًا هائلاً من الذرات تسبح في الفضاء حسب وزنها وتصطدم بعضها البعض بطرق عديدة .... وتحاول كلها الاتحاد فصار بإمكانها خلق أي شيء باتحاد بعضها بعض...لكن حتى لو سلمنا بأنني أجهل طبيعة الذرات فإنني على أي حال أجرؤ على أن اؤكد أن العالم لم تعده الآلهة من اجلنا قط، وسأبرهن على ذلك من خلال النظام الموجود بالسماء وأدعم رأيي بحقائق أخرى كثيرة، في البداية سأوضح كيف أن السماء باتساعها الشاسع تحجب الكثير، و إن الجزء الاكبر من الارض تشغله الجبال والغابات المليئة بالوحوش والصخور والبحيرات الممتدة تحتل جزءاً آخر، وكذلك البحر الذي يفصل بشواطئه اليابسة عن بعضها، لقد حرمت الحرارة المحرقة وتساقط الجليد المتواصل البشرية من ثلي مساحة الارض تقريباً، أما ما بقي من أرض صالحة للزراعة فإن الطبيعية -على اي حال- بقوتها الخاصة تنبت به نباتات ذات اشواك، وذلك إن لم يُقاوم الانسان هذا الوضع فقد اعتاد ان يلهث فوق المعول القوي من اجل البقاء في الحياة وان يحرث الارض بضربات المحاريث فإن لم يحث الارض على الاثمار بتقليب التربة الخصبة بشفرة المحراث وعجن سطح الارض، فإن الثمار لن يمكنها النمو من تلقاء نفسها في الهواء الطلق وحتى عندما تَنبت الارض من حين لآخر بفضل العمل الشاق وعندما تملا أوراق الشجر الحقوق وتزدهر كل الزروع فإما ان تصيبها الشمس من السماء بحرارتها الحارقة فتذبل و إما تدمرها الامطار الغزيرة المفاجئة والجلدي المسبب للقشعريرة و إما يسحقها هبوب الرياح بعاصفة عنيفة، ولماذا ينتشر الموت المبكر؟ أكثر من ذلك فإن الوليد مثل الملاح الذي قذفت به الامواج العاتية يستلقي على الارض عارياً وهو لا يستطيع الكلام و يفتقر لكل عون يعينه على البقاء في الحياة وذلك من اللحظة الاولى حتى تقذفه الطبيعة بآلام المخاض خارج رحم أمه الى نور الدنيا ويملا المكان ببكاء حزين وهو ما يناسب شخصاً يكون عليه ان يجتاز في الحياة الكثير من المصائب، في حين تنمو البهائم بشتي أنواعها الاليفة كالماشية أو الوحوش الضارية فهي لا تحتاج الى خشاخيش الاطفال ولا التدليل من قبل المربية الحانية بكلمات المداعبة والكلمات المتقطعة كما لا تحتاج الى تغير الثياب تعباً لفصول السنة، واخيراً فلا تحتاج الى السلاح ولا للحصون الشاهقة لتحمي ممتلكاتها حيث ان الارض نفسها والطبيعة المبدعة للموجودات تمد جميع الحيوانات بكل شيء وبوفره.

وعندما لم يتمكن الناس من معرفة اسباب أي من تلك الظواهر الطبيعية واعتقدوا انها تحدث بفضل قوة إلهية، "فيا ربة الشعر الملحمي كاليوبي Calliope (3) البارعة يا عزاء البشر وبهجة الآلهة" لترشيديني الى الطريق اثناء عدوي في السباق نحو الخط الابيض بنهاية المضمار فبقيادتك لي قد أفوز بالتاج مع مديح منقطع النظير ، لأوضح كيف تهتز السماوات الزرقاء بعنف من الرعد لان السحب اثناء تحركها تندفع مجتمعة لأعلى في الاثير وفي وقت الرياح تصارع بعضها البعض، وعندما توجد السحب في شحنة أكثر كثافة فغالباً يصدر منها صوت هزيم الرعد ذي القعقعة العالية...) (4)

في حين جايوس فيليوس Gaius Velleius الأبيقوري يعتقد أن الكون مُحكم بعقل وفكر الإلهة مُخالفاً بهذا أبيقور، مع ذكره إعتقاد مدرسة فلسفية أخرى مقارناً بينها وبين الرواقية بخصوص العناية الإلهية، فيقول:

(هناك بعض الفلاسفة الذين يعتقدون ان الآلهة ليس لها إي اهتمام بالأمور البشرية ولو كان هذا الراي صحيحاً، فكيف يكونوا اتقياء و مقدسين واي التزام ديني نتكلم عنه؟ فإن لم يكن لدي الآلهة القوة أو الرغبة في مساعدتنا و إن لم يعتنوا بنا إطلاقاً و لم يـلاحظوا ما نفعله ولم يكن هناك أي شيء مُقدم منهم، فما الداعي اذا لتقـديمنا العبادة او الاكرام او حتى الصلوات لتلك الآلهة؟ لكن ان زالت التقوى فسيحدث ارتباك و اضطراب كبير في الحياة، فان زالت خشية الآلهة فلست متيقـناً ان حسن النوايا و الإخاء البشري والعدل وهم اول واكبر الفضائل لن تزال كذلك.
وإن هناك مدرسة اخرى من الفلاسفة، وهي مدرسة عظيمة و مـرموقة، تؤمن بأن الكون برمته مُنظم و مُدار من عقل و ذكاء الآلهة، بل و اكثر من هذا فإن الآلهة تتشاور من اجل حياة بني الانسان، و يعتقد أصحاب هذه المدرسة ان المحاصيل الزراعية وغيرها مما تنتجه الارض و التغيرات في الطقس و تعاقب الفصول الـموسمية والظواهر المُختلفة في السماء، هي هدايا من الآلهة الخالدة للبشرية، وغيرها من الامور التي يذكرونها وتجعل الامر يبدو كما لو كان الآلهة الخالدة صنعت كل هذه الاشياء الدقيقة من اجل منفعة الانسان) (5).

إلا إن ما يُهمنا هنا هو أن سيلسوس يستخدم حجج مدرسة فلسفية قديمة لمهاجمة مفهوم الخلق في العهد القديم، وهكذا أوريجانوس يقتبس من افكار المدارس الفلسفية المُخالفة للرد على سيلسوس، راجع ما ترجمتنا لمُلاحظة هنري شادويك Henry Chadwick - مُترجم كتب أوريجانوس ضد سيلسوس- إنه عندما يَكون سيلسوس في تقارب مع الفلسفة الأكاديمية التي هي ضد الفلسفة الرواقية، فإن أوريجانوس يتخذ صف الرواقيين و ردودهم (و هكذا العكس) في مقالتنا (رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا، الجزء التاسع، –هل الأرض لأجل الإنسان–).


الحاشيات والمراجع
==============
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 74- 75.
(2) لاكتانتيوس، القوانين أو المبادئ الإلهية Divine Institutes ، الكتاب الثالث الفصل 17.
(3) كاليوبي Calliope بحسب الميثولوجيا الإغريقية القديمة، هي إحدى إلهات الإلهام التسع التي عنيت بالشعر الملحمي، والنطق الفصيح الذي كانت تهبه للملوك والأمراء، وعرفت بملهمة هوميروس، حيث وفرت الإلهام للإلياذة و الأوديسة، اعتبرت كاليوبي أكبر إلهات الإلهام سناً، وأكثرهن حكمةً وجزما.
(4) لوكريتيوس ،في طبيعية الأشياء On the Nature of Things، الكتاب الخامس ، القطعة 195- 230 ، الكتاب السادس، المقطع 90- 95.
(5) شيشرون، طبيعية الآلهة ، الكتاب الأول ، الفصل 2.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في


.. رفع علم حركة -حباد- اليهودية أثناء الهجوم على المعتصمين في ج




.. 101-Al-Baqarah


.. 93- Al-Baqarah




.. 94- Al-Baqarah