الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحكومة في بلاد الرافدين القديمة

عضيد جواد الخميسي

2024 / 3 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كانت فكرة تأسيس الحكومة في بلاد الرافدين القديمة قد استندت على مفهوم؛ أن خلق البشر جاء لمساعدة الآلهة وخدمتها. حيث كان كل من رئيس الكهنة ، الملك ومساعده ، الحاكم ، مجلس كبار سّن المدينة ، رئيس القبيلة ، مختار القرية ، وأي مسؤول آخر تختاره الآلهة ؛ وكيلاً عنها لرعاية مصالح الناس ؛ بنفس الطريقة التي يرعى بها الأب أسرته .

كانت العائلة في بلاد الرافدين القديمة تعّد نموذجاً تقتدي به الحكومة ، حيث كان يُفهم على أن كلاً من الملك ورئيس الكهنة هما "رأس الأسرة"، ومسؤوليتهما رعاية "العائلة الممتدة" لشعوب دويلات ـ المدن ، المملكة ، أو الإمبراطورية .
وفي فترة أوروك ( عام4100-2900 قبل الميلاد)، كان رئيس الكهنة مسؤولاً عن الشؤون الدينية والمدنية، لكن هذا قد تغيّر في فترة الأسرات المبكرة (عام 2900-2334 قبل الميلاد) عندما تم تأسيس النظام الملكي .

لقد تطورت الملكية في سومر من خلال مفهوم رئيس العشيرة أو القبيلة "لوگال" (بمعنى ـ الرجل القوي)، الذي تم اختياره لهذا المنصب، وفقاً لشخصيته القيادية وامتلاكه المهارات القتالية المتميزة . وتذكر لنا قائمة أسماء الملوك السومريين (حوالي عام 2100 قبل الميلاد) أول ملك "بعد الطوفان" كان إنميبارـ أجيسي (عام 2700 قبل الميلاد) من مدينة كيش ، الذي أثبتت الأدلة الأثرية تاريخ توليه العرش . غير أنها ذكرت أيضاً أسماء الملوك الأسطوريين لما قبل الطوفان (حوالي عام 2900 قبل الميلاد) الذين حكموا مدينة أريدو .
ومع استحداث منصب الملك، تم تقسيم المسؤولية بين القصر والمعبد ؛ حيث كان الملك يتولّى إدارة الشؤون المدنية ، و رئيس أو رئيسة الكهنة يتولّى أو تتولّى شؤون المعبد. ورغم ذلك ، فقد كان يُفهم على أن كلاً من الملك ورجل الدين ؛ هما المعنيّان بالدرجة الأولى في تلبية أوامر الآلهة ، ومن بعدهما جميع المسؤولين الذين تحت قيادتهما ، وكما يلي :
( مساعد الملك ـ بمثابة رئيس الوزراء) ، (الكهنة ) ،(المجمّع القضائي ) ، (مجلس كبار سن المدينة ) ، (الحكّام) ، (كهنة المعبد) ، (قادة الجيش) ،(كبير أمناء القصر) ، (كبير خدم القصر) ، (حامل الكأس الملكي) ، (محصلو الضرائب) ، (الكتّاب والإداريين التابعين للقصر والمعبد) ، وغيرهم من المناصب الصغيرة .
لقد تغيّرت مهام الحكومة الإدارية مع ظهور واضمحلال الحضارات المتعاقبة : السومرية، الأكدية ، البابلية، الكيشية ، الحثيّة ، الآشورية ، وما إلى ذلك. ولكن النموذج الأولّي في تأسيس الحكومة الذي كان يهدف إلى تنفيذ وصايا الآلهة ؛ قد بقي على حاله . ومثلما بدأت العديد من الابتكارات والاختراعات في بلاد الرافدين القديمة لأول مرّة ، جاءت فكرة تأسيس الحكومة في بلاد سومر .

الحكومة السومرية
تبدأ قائمة الملوك السومريين بالسطر التالي : "بعد نزول الملكية من السماء، أصبحت الملكية في أريدو". إذ اعتبر السومريون مدينة أريدو أقدم مدينة في العالم التي شيّدها إله الحكمة إنكي، والأرض التي انبثق منها النظام . وبعد الطوفان الكبير الذي يعتقد العلماء المعاصرون أنه كان حدثاً محليّاً حصل بسبب فيضان الأنهار المحيطة بمدينة شوروباك؛ انتقلت الملكية إلى كيش . ورغماً من ذلك ، فمن المستحيل معرفة تاريخ تأسيس الملكية على وجه التحديد، وذلك حسب ما ورد عن البروفيسور ستيفن بيرتمان من خلال المقطع التالي :
" ليس هناك شكّ في أن بلاد الرافدين كانت في نهاية المطاف وفي معظم تاريخها يحكمها حكّام يمكن أن نسميهم ملوك. والحقيقة؛ نحن نعرف حتى أسمائهم ويمكننا فهرسة حياتهم المهنية أيضاً. ولكن متى ظهرت بالضبط الملكية لأول مرة؟ وتحت أي ظروف نشأت ؟ وما هي طبيعتها على وجه التحديد ؟ تظل تلك الأسئلة محل خلاف بين العلماء؛ حيث النظريات غزيرة ، والحقائق شحيحة."(ص63)

وفقاً لبعض العلماء، تم تأسيس الملكية خلال فترة أوروك عام 3600 قبل الميلاد، وهو الفترة التي تم إعلان تقسيم المسؤولية بين القصر والمعبد . وكان ذلك هو نمط الحكم في فترة أوائل الأسرات الأولى (عام 2900-2800 قبل الميلاد). وقد توسعت المدن وتطورت في جميع أنحاء سومر خلال فترة أوروك،ويُعتقد أنه لم يعد بمقدور رجل بمفرده في أن يقوم بتنفيذ مهامه الدينية والمدنية بنجاح في آن واحد .

كان هرم تنظيم الحكومة يعتمد على هرم تنظيم الأسرة ؛ حيث كان الأب هو الرأس ومَنْ يأتي بعده فهو القاعدة . ويتقاسم الملك دور رئيس الأسرة مع رئيس أو رئيسة الكهنة، ومن ثمّ تأتي الملكة والمستشارون والكهنة الصغار وقادة فصائل المحاربين ، وما إلى ذلك . كما أن ثبات نموذج الحكم الأسري الذي يوجب الملك في أن يرعى شعبه مثل الأب لأبنائه ؛ قد وفرّ الاستقرار النسبي الذي أثّر بدوره في تطور الثقافة السومرية ، ولكن في الوقت نفسه قد أدى ذلك الى عدم وجود وحدة بين دويلات ـ المدن السومرية عندما خلق منافسة على الموارد الغذائية والمياه وطرق التجارة ، وكان سبباً مهمّاً أيضاً في نشوب الصراعات العسكرية المستمرة .

تعود الحرب الأولى في التاريخ المدوّن إلى فترة أوائل الأسرة الثانية (عام 2800-2600 قبل الميلاد) ، وذلك عندما هزم الملك الكيشي إنميبارـ أجيسي جيوش عيلام في عام 2700 قبل الميلاد. تلك هي الحرب الأولى المدوّنة ، ولا شك أنه كان هناك حروب ومعارك كثيرة قبل ذلك ؛عندما حددت دويلات ـ المدن أراضيها . وقد ساهمت التجارة في بلاد الرافدين القديمة في الحروب بين دويلات ـ المدن ؛ حيث حاولت كل منها التفوّق على غيرها في الحصول على أسواق التجارتين الخارجية والداخلية ، وسعيها للحفاظ على أسرع الطرق ما بين مراكز الإنتاج والتجّار والعملاء .
بحلول أوائل الأسرة الثالثة (عام 2600-2334 قبل الميلاد)، كان الملك إنميبارـ أجيسي قد أسس بالفعل إمبراطوريته في سومر، وقام ملوك آخرون مثل گلگامش بتوسيع حدود مدينته أوروك . وكانت الملكة الوحيدة في قائمة الملوك السومرية هي "كوبابا" ملكة كيش ؛ التي أكملت خطط انجازات الملك إنميبارـ أجيسي عندما تولّت العرش من بعده ، ولكن كانت كل دويلة ـ مدينة سومرية لا تخضع للسيطرة المباشرة لأخرى ، حيث كل واحدة منها تمتلك حكومة خاصة بها ، وفصائل من المحاربين مع قادتها ، ورئيساً للكهنة .

الإمبراطورية الأكدية
لقد تغير اسلوب الحكم في بلاد سومر بعد صعود سرگون الأكدي ( حكم عام 2334-2279 قبل الميلاد) لقيادة الإمبراطورية الأكدية (عام 2334-2218 قبل الميلاد)، وهي أول إمبراطورية متعددة الأجناس والأعراق في العالم . حيث احتفظ الملك سرگون بالنظام السومري في تقسيم المسؤولية بين الملك ورئيس الكهنة ، ولكن كان ذلك فقط في حدود عاصمته أكد . بيد أنه وبعد غزوه لدويلات ـ المدن السومرية ، استحدث منصب "مواطن أكد"، الذي هو عبارة عن مجموعة من المسؤولين الموثوق بهم يرسلون من أكد ؛ كحكّام وإداريين ورؤساء أو رئيسات كهنة (الذين يتلقون التعليمات من الملك سرگون نفسه) إلى أكثر من 65 مدينة مختلفة. ومن بين هؤلاء كانت ابنته ، إنهيدوانا (عام 2285-2250 قبل الميلاد)، الكاهنة الكبرى في مدينة أور ، وأول أديبة في التاريخ معروفة بالاسم .

عزا الملك سرگون سبب تفوقه العسكري إلى الإلهة إنانا ، وبالتالي فانه قد احتفظ بالمفهوم السومري للحكم كما أمرت به الآلهة مع الملك وأتباعه كوكلاء لها . وبحسب هذا النموذج؛ فلم يكن سرگون هو الذي يحكم بإرادته وفهمه ، بل كان بتوجيه من الآلهة ، حيث لم يكن سوى أداتهم التي يحافظ على النظام بتنفيذ أوامرها . ومن خلال تشجيع هذا الفهم في جميع أنحاء إمبراطوريته ، أسس الملك سرگون في عهده أكبر دولة ذات سيادة في العالم . وعن ذلك ؛ كتب البروفيسور "ثوركيلد جاكوبسن" المقطع التالي :
" الدولة الوحيدة ذات السيادة الحقيقية، والمستقلة عن كل سيطرة خارجية؛ هي الدولة التي يشكلها الكون نفسه والتي يحكمها جمع الآلهة. علاوة على ذلك، فإن هذه الدولة هي التي تسيطر على أراضي بلاد الرافدين ؛ حيث تمتلك الآلهة الأرض، والحقول الواسعة في البلاد. وعليه ، بما أن الإنسان خُلق خصيصاً لمنفعة الآلهة؛ فإن هدفه هو خدمة الآلهة. لذلك ؛ لا يمكن لأي كيان بشري أن يكون هدفه الأساسي هو رفاهية أفراده البشر؛ حيث يجب أن يسعى في المقام الأول إلى رفاهية الآلهة." (ص75)
ومن خلال تقديم نفسه كممثل عن الآلهة، تمكن سرگون من السيطرة على إمبراطوريته. ومع ذلك، فقد أُجبر هو وخلفاؤه على إخماد حركات تمرّد عديدة قد نشبت إبّان فترة حكمه من قبل دويلات ـ المدن التي عارضت تدخلاته في شؤونهم المحلية ، وعندما سقطت الإمبراطورية الأكدية أخيراً في أيدي الگوتيين، اعتبر الكثيرون ذلك علامة على أن الآلهة كانت غير راضية .

حكومة سلالة أور الثالثة
لم تعترض دويلات المدن على نمط الحكم الأكدي (وهو نفس النمط الذي عرفته منذ البداية ) ولكن على سياسات الملوك الأكديين، وعلى تطبيق ذلك المبدأ في الحكم . وقد تعامل سرگون وخلفاؤه مع كل دويلة ـ مدينة في الإمبراطورية على أنها منطقة محتلة يحكمها مسؤولون موالون يرعون مصالح الدولة الأكدية ، وليس بالضرورة أن يكونوا من سكان المدن التي يحكمونها. كما قاد حفيد سرگون " نارام ـ سين" (حكم من عام 2261 إلى عام 2224 قبل الميلاد)، حملات عسكرية أكثر من أسلافه ، وكان أول ملك في بلاد الرافدين قد أعلن عن نفسه في أنه واحداً من الآلهة . وقد كتب البروفيسور پول كريڤاشيك حول هذه النقطة ، كما في المقطع التالي :
" لكي تكون الدولة الميراثية مستقرة مع مضي الوقت ، فمن الأفضل لها أن تُحكم بموافقة الشعب ، أو على الأقل بموافقة أكبر أقلّية إن لم تكن من الأغلبية. حيث يجب أن تكون القناعة والقبول هما القاعدة ، وإلا يجب بذل الكثير من الجهد لقمع الانتفاضات في تحقيق أهداف النظام الأوسع شمولاً ." (ص 149)

لقد احتاج الملوك الأكديون إلى الاستمرار في قمع التمرّدات والانتفاضات طوال فترة الإمبراطورية بأكملها .ولكن بعد سيطرة الگوتيين على المنطقة ؛ ظهر ملك آخر أدرك قيمة تأسيس الحكومة بموافقة المحكومين وهو الملك "أورـ نمو" (حكم من عام 2047 إلى عام 2030 قبل الميلاد ) مؤسس سلالة أور الثالثة في سومر (بما يسمى فترة أور الثالثة،عام 2047-1750 قبل الميلاد) . وقد ارتبط أسم أور- نمّو بالملوك الأكديين (الذين أصبحوا أبطالاً خالدين بعد الصعوبات التي واجهوها مع الاحتلال الگوتي)، وعدّ أكثر الملوك تفضيلاً، لأنه كان يمثّل شخصية الأب الحقيقي مع شعبه.
لقد قام الملوك الأكديون بشقّ الطرق، وتحسين التجارة، وإعمار المدن والمعابد، وإرساء النظام والحفاظ عليه ، كما فعل ملوك فترة أور الثالثة الشيء نفسه ؛ولكن على نحو أسرع بكثير. إذ بدلاً من فرض القرارات العشوائية ، شرّع أورـ نمو قوانينه ؛ مثلما يوجّه الأب وصاياه إلى أسرته ، مع فرض الغرامات على أغلب المخالفات. كما قام بإعمار المدن التي دمرّها الگوتيون ، بما في ذلك مدينة أور؛ حيث قام بتشييد الزقورة العظيمة في مجمع المعبد المخصصة لإله القمر نانا راعي المدينة .
أمّا ابنه وخليفته "شولكي أورـ نمّو" (حكم من عام 2029 إلى عام 1982 قبل الميلاد)، فقد شجّع على محو الأمية، وتحسين الطرق، وإنشاء النُزل، والحدائق على جوانب الطرق، ورغماً من أنه كان ثاني ملك في تاريخ بلاد الرافدين يؤلّه نفسه (هناك بعض الاعتراضات على ما ورد في نصوص نقوشه الطينية) إلا أنه قوبل بموافقة الشعب ومؤازرته له .

حكومة بابل
لقد تبنّى الملك البابلي حمورابي (حكم من عام 1792 إلى عام 1750 قبل الميلاد) نموذج نظام الحكم لسلالة أور الثالثة ، والذي كان معروفاً بلقب "باني ـ متيم" (باني الأرض)، وذلك بسبب تطويره للبنى التحتية. كما شرّع الملك حمورابي قوانينه أيضاً ( شريعة حمورابي ) اسوة بشريعة أور ـ نمّو ، والتي اتبّعت نفس النمط الذي أوصت به الآلهة ( آنو ، بل ، مردوخ ، شمش) . ولكن حمورابي لم يشرّع قوانينه لضبط السلوك فحسب؛ بل حدد أيضاً المركز الاجتماعي للفرد؛ للتعامل معه أمام القانون، وكما أوضح البروفيسور بريتمان :
"وفقاً للقانون ، كان هناك ثلاث مستويات للفرد في المجتمع : الأويليوم ؛ أو الأرستقراطي (أحد أفراد إحدى العائلات المالكة للأرض). الموشكينوم ؛ أو العامّي (مواطن حر لكنه لا يمتلك أرضاً) . الوردم ؛ أو العبد (أحد أفراد المجتمع ليس حرّاً ولا يمتلك أرضاً) . والجدير بالذكر أن الأشخاص الأكثر منزلة كانوا أيضاً يواجهون أعلى درجة من المسائلة بموجب القانون، في حين أن أولئك الذين كانوا أقل منهم منزلة تكون عقوبتهم أخّف ، ما لم يصدف أن جريمتهم قد اُرتكبت ضد أحد أفراد الطبقة الأعلى ." (ص 62)
كما ان شريعة حمورابي قد ارتكزت على مفهوم العقوبة الجزائية التي تتوافق فيها شدة العقوبة بشكل مباشر مع خطورة الجريمة وتثبيت الادانة ؛استناداً إلى الأدلة في ارتكاب الجرائم . وكان التوصل إلى تلك" الأدلّة" في وقوع الجرائم ؛ من خلال طريقة "التعذيب" والتي عادة ما تجري بإلقاء المتهم في نهر أو أي بركة ماء عميقة ، فإن نجا من الغرق ، يُحكم عليه بالبراءة ، لأن الآلهة هي التي أنقذته .

الإمبراطورية الآشورية
أبلغت الآلهة حكومة الإمبراطورية الآشورية في أن الإله آشور هو الإله الأعلى لشعوب المنطقة وعليها عبادته ، مثلما كان البابليون يعبدون الإله مردوخ ؛ وقد حصل ذلك عندما تحوّل آشور من إله صغير في مدينة آشور . وأصبحت آشور واحدة من أهم الممالك في عهد الملك "أدد ـ نيراري الأول" (عام 1307-1275 قبل الميلاد). وكانت الحكومة الآشورية تمثل إرادة ورغبة الإله آشور، الذي يُعتقد أنه كان يرافق الجيوش ويمنحهم النصر في غزواتهم .
كانت رموز الملكية خلال الفترة الآشورية هي نفسها كما كانت دائماً ( التاج والصولجان والعرش ) ، ومسؤوليات الحكومة هي نفسها أيضاً . بيد أن الملوك الآشوريون كانوا أقرب بكثير إلى الأكديين بطريقة سياستهم في قمع الأصوات المعارضة من طريقة السومريين أو البابليين ، وذلك من خلال النصوص القانونية . ومثل كل الملوك الذين سبقوهم ؛ فقد اعتمد الملوك الآشوريون على الضرائب لتمويل الحكومة ، وكان واجباً مقدّساً على الفرد في أن يدفع ما هو مستحق عليه ؛ لأنه لم يكن يُعتقد أنها ستؤول إلى الحكومة بل للآلهة حصراً . كتب البروفيسور بيرتمان المقطع التالي حول مفهوم الضريبة في بلاد الرافدين :
" رمزياً ؛ كانت جميع أراضي ومياه دول المدن في بلاد الرافدين مملوكة لآلهتها ،وكان يديرها وكلائها من الملوك والحكام والكهنة. أما الأفراد الذين يستخدمون الأراضي والمياه ويحصلون على منافع اقتصادية منها؛ كانوا يخضعون لرسم الضريبة . ولأن العملات المعدنية لم تكن قد اختُرعت بعد، فقد كانت الضرائب تُدفع على شكل سلع وخدمات. وعادة ما تمثل البضائع والسلع حصة مما يتم إنتاجه (مثل الحبوب ،التمور، الأسماك ، الصوف ، والمواشي) أو نسبة من قيمتها بالفضة . ويمكن تقديم الخدمات بأداء الخدمة في الجيش ، أو من خلال العمل في المشاريع المجتمعية (حفر وصيانة قنوات الرّي ، أو حصاد وجمع المحاصيل الزراعية في الأراضي التعاونية ، أو بناء المعابد والقصور). وكان التجار يخضعون أيضاً لرسوم ضرائب خاصّة عند شحن البضائع أو استلامها ، أو عند مرورهم عبر المدن على طول طرق التجارة ، أو عند عبور الأنهار." (ص 67-68)
خلال الفترة الآشورية ، كما هو الحال في العصور السابقة، كانت الإيرادات تأتي أيضاً من خلال حملات الغزو. فعندما غزا الملك سرگون الثاني (عام 722 ـ 705 قبل الميلاد) أورارتو عام 714 قبل الميلاد ؛ ملأ خزينة الحكومة بالغنائم . ورغماً من ذلك ؛ لا توجد أدلّة على إعفاء ضريبي لأي من أفراد الشعب . حيث كان جابي الضرائب مخيفاً ومكروهاً خلال الفترة الآشورية ؛ مثلما كان الحال في الحضارات السابقة . وفي عهد الملك آشور بانيبال (عام 668 ـ627 قبل الميلاد)، لم تكن الحكومة تستحصل الضرائب فحسب، بل أخذت أيضاً بجمع الكتب لتأسيس مكتبة آشور بانيبال في نينوى ، وبذلك فقد احتُفظ بمجموعة واسعة من المؤلفات المكتوبة والمُفهرسة المتحصلّة من جميع مناطق الإمبراطورية الآشورية الجديدة .

بعد سقوط الإمبراطورية الآشورية الجديدة عام 612 قبل الميلاد؛ سيطرت الإمبراطورية البابلية الجديدة (عام 626-539 قبل الميلاد) على المنطقة واتبعت نفس نموذج الحكم الذي أنشأه السومريون قبل قرون عدة . كما أسس الملك نبوبلاصر (عام 626 ـ 605 قبل الميلاد) حكومة إمبراطوريته وحافظ عليها بمفهوم (الملك وكيلاً للآلهة) مثلما فعل الملوك السابقون . ثمّ اتبع تلك السياسة من بعده الملك نبوخذنصر الثاني (عام 605/ 604 ـ 562 قبل الميلاد) .
سقطت الإمبراطورية تحت حكم الملك نابونيدوس (عام 556-539 قبل الميلاد) بيد الملك الاخميني كورش الثاني (عام 550-530 قبل الميلاد) ؛ الذي أسس حكومة جامعة من المركزية واللامركزية في الإدارة ، والتي طُبقّت من قبل المرازبة (الحكّام) عند الأقاليم المختلفة. وفي كثير من النواحي، فقد اتبعت الحكومة الفارسية القديمة نفس نموذج الحكم الذي اتخذه الآشوريون والأكديون نظاماً لهم ، ولكن مع اختلافات كبيرة . إذ لم يعد الكاهن الأعلى مشاركاً الحكم مع الملك في زمن الإمبراطورية الأخمينية ، وكانت إدارة الشؤون المدنية والمالية لكل اقليم هي من مسؤولية المرزبان وحده . وقد تم التعامل مع الأمور العسكرية من خلال قائد عسكري يرأس فصائل المحاربين في كل إقليم . وبذلك فقد تم تحييد انقلابات المرازبة على الملك ، حيث لم يكن للحاكم الفارسي صلاحية إصدار الأوامر إلى فصائل المحاربين . كما مُنع قائد المحاربين أيضاً من الوصول إلى الأموال التي قد يحتاجها للتمرّد على الملك أو حاكم الإقليم .

لقد تم تبني تلك السياسة في الحكم من قبل كل من الإمبراطورية السلوقية (عام 312-63 قبل الميلاد)، والإمبراطورية البارثية (عام 247 قبل الميلاد - 224 ميلادي)، والإمبراطورية الساسانية (عام 224-651 ميلادي)، حيث أُعتبرت النموذج الأكثر نجاحاً في العالم القديم . وفي فترة الإمبراطورية الساسانية ، حلّ الإله الزرادشتي الأوحد أهورا مزدا محل جميع الآلهة السومرية والأكدية والبابلية والآشورية القديمة ؛ لكن نموذج الحكم السياسي ظلّ قائماً يتبعه الملوك باعتبارهم وكلاء الإله على الأراضي التي سيطروا عليها غزواً.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
جان بوتيرو ـ كل يوم حياة في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة جون هوبكنز ـ 2005 .
صموئيل نوح كريمر ـ التاريخ يبدأ في سومر ـ طباعة جامعة بنسلفانيا ـ 1988.
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين القديمة ومولد الحضارة ـ سانت مارتنز كريفن للنشر ـ 2012 .
أدولف ليو أوپهايم ـ صورة لحضارة ميتة ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1977.
مارك ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم ـ ويلي بلاك ـ ويل للنشر ـ 2015 .
إرنست واليس بادج ـ الحياة والتاريخ البابلي ـ بارنز ونوبل للنشر ـ 2005 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل