الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ انتاج المعادن عند القبائل الزراعية في جنوب تركمانستان

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2024 / 3 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مؤلفة المقال: ناتاليا نيكولاييفنا تيخيروفا*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

كان اكتشاف المعادن وبداية انتاجه نُقطة تحوّلٍ في تاريخ البشرية. إن ظهور المعادن، يرتبط عادةً بمناطق الثقافات الزراعية القديمة، ويعتبره العلم مؤشراً على الامكانيات الكبيرة للتطور الاجتماعي.
ان المصنوعات المعدنية الموجودة في مواقع ثقافة ما يُسمى بقبائل أناو Anau جنوب تركمانستان، هي ليست فقط أقدم الأدوات المعدنية في بلادنا، بل هي تُشير الى حقائق مُهمة تدل على مكانة تطور الثقافات الزراعية القديمة في أجزاء من جنوب تركمانستان.
منذ بداية ظهورها، كان استصلاح المعادن وتصنيعها من بين الفروع الرائدة لجميع مجالات الانتاج المُبكرة في اقتصاد المُجتمعات القديمة، وكانت تُحدد مُستوى تطور تلك المُجتمعات. في هذا المجال بالذات، حدثت ظاهرة تاريخية مُعقدة وهي عملية ظهور الحِرَف اليدوية. إن دراسة شَغل المعادن بين المُزارعين القُدماء في جنوب تركمانستان تجعل بالامكان تتبع هذه العملية في بيئة تاريخية ملموسة.
في العقود الأخيرة، تم اجراء دراسات أركيولوجية مُخططة ومُمنهجة لمواقع المُزارعين القُدامى في جنوب آسيا الوسطى، أجرتها بعثة تركمانستان الأركيولوجية بالاشتراك مع قسم الأركيولوجيا في معهد التاريخ والآثار والاثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم التركمانية السوفييتية، مما سَمَحَ لنا بالقاء أضواءٍ تفصيلية على طبيعة ثقافتهم المادية في مراحل مُختلفةٍ من تطورهم وإقامة تحقيبٍ زمنيٍّ دقيق.
ومع ذلك، فإن أحد أهم جوانب النشاط الانتاجي لمُزارعي جنوب تركمانستان، وهو صناعة المعادن، لا يزال مجهولاً حتى يومنا هذا.
إن غياب اللُقى الأثرية المُرتبطة بِشَغل المعادن يُصعِّبُ مُعالجة هذه المسألة باستخدام التقنيات الأركيولوجية القياسية. لا مصادر ولا طبيعة شَغْل المعادن واضحة لنا، ولا أنماط تطورها بين المُزارعين القُدامى في جنوب تركمانستان.
هذا الوضع، يعكس الحالة العامة لمسألة دراسة إنتاج وشَغلْ المعادن في القِدَم. المعلومات المُتاحة حول هذه المسألة فيما يخص عالَم القبائل الزراعية القديمة الهائل في الشرقين الأدنى والأوسط، هي أيضاً مُتشظية وليست مُتكاملة.
لهذه الأسباب، يبدو أن موضوع تاريخ شَغْل المعادن بين المُزارعين القُدامى في جنوب تركمانستان جاء في الوقت المُناسب تماماً.
هدفنا، هو بحث شَغْل المعادن بين القبائل الزراعية القديمة في جنوب تركمانستان من الألفية الخامسة الى الألفية الثانية قبل الميلاد، أي على مدار تاريخ ثقافتهم بالكامل، منذ ظهور المصنوعات المعدنية الأُولى. هدفنا هو دراسة عملية تطور هذا الانتاج على أساس الكشف عن تكنيكات شَغْل المعادن.
ان المصنوعات المعدنية نفسها هي مواضيع للبحث. تُمثل المصنوعات المعدنية، التي تظهر كنتيجة نهائية لشَغْل المعادن، أي النِتاج الملموس للنشاط الانساني، مصدراً تاريخياً ذو قيمةٍ هائلة.
ولكن، تكنيكات البحث الاركيولوجي-التحليل المورفولوجي(أ) والطوبولوجي(ب)- لا تستطيع أن تكشف عن معناها الكامل. إن استخدام تقنيات العلوم الطبيعية، وخاصةً التحليل الطيفي(جـ) spectrographic والميتالوغرافي(د)، هو الذي أظهَرَ مجموعةً واسعةً من المعلومات التي ظلَّت مخفيةً عنا. ان هذه التقنيات الحديثة تُوفر لنا فرصة إعادة بناء الطريقة التي عُولِجَت بها المُنتجات المعدنية وتحديد صفاتها وصفات المعدن نفسه. وعلى هذا الأساس يُمكن من خلالها تقييم الاجراءات التي تمت على هذه المعادن، وتقدير حجم العمل المطلوب لإنجاز شَغل المعدن المعني، والحصول على فكرة حول درجة مهارة العمل المطلوبة لإنجاز الشُغل ودرجة تنظيم الانتاج.
يُمكن القول، أن تقنيات التحليل الميكروي والماكروي الحديث للمعادن في جنوب تركمانستان، هو أساس البحث الذي بين أيدينا.
إن المواد المدروسة في هذا البحث جائت من المواقع الرئيسية للمُزارعين القُدامى في جنوب تركمانستان، والتي بحَثَ فيها الأركيولوجيون والمؤرخون السوفييت التالية أسماءهم: فاديم ميخايلوفيتش ماسون Vadim Mikhailovich Masson وايغور نيكولايفيتش خولبين Igor Nikolaevich Khlopin وفيكتور ايفانوفيتش ساريانيدي، الكسندر الكسندروفيتش ماروتشينكو Alexander Alexandrovich Marushchenko، و أ.ك. بيردييف.
وهذه المجموعة من اللُقى والمواد موجودةً في معهد الاركيولوجيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية في لينينغراد، وفي قسم الاركيولوجيا في معهد التاريخ والآثار والاثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم في جمهورية تركمانستان السوفييتية.
من بين المواد التي تمت دراستها، جميع الأنواع الرئيسية للمصنوعات المعدنية وأدوات العمل والأسلحة لقبائل جنوب تركمانستان. أُخضِعَت 300 قطعة أثرية للدراسة المخبرية، منها 150 خضعت للتحليل البُنيوي الماكرَوي والمايكروي.

- تكنيك شَغْل المعادن وأدواتها في أواخر العصر الحجري الحديث Aeneolithic (المرحلة الانتقالية من العصر الحجري الحديث الى العصر البرونزي)
ترتبط أقدم المصنوعات المعدنية لمُزارعي قبائل الآناو، وتتميز بمُستوىً عالٍ من المعارف في مجال شَغْل المعادن. على سبيل المثال، حددنا تكنيكاتٍ مُختلفة لصياغة المعادن (الشَغْل الدائري، إنتاج مقطع عرضي رُباعي السطوح، القطع، التسطيح، الثني) باستخدام المُعالجة الحرارية (التلدين المُتوسط).
إن مخرز Awl معدني مسكوب، كان معروفاً جيداً في فترة العصر الحجري الحديث المُتأخر. أتاحَ تكنيك السكب إنتاج مسبوكات ذات نوعية جيدة. يفترض استخدام تكنيكات السكب القُدرة على إنتاج درجات حرارة عالية (لا تقل عن 1000 درجة مئوية). كانت المصنوعات، من حيث تركيبها الكيميائي، مُكونةً من النحاس، مع شوائب ضئيلةٍ من الرصاص والفضة والنيكل والحديد.، وفي أداتين أُخريين عُثِرَ فيهما على مُستوىً مُرتفعٍ من الزرنيخ: 0.5%-3%.
شهدت الفترة التالية (موقع نامازغا 1 Namazga 4000-3500 قبل الميلاد) مزيداً من التطور التكنيكي. إن تكنيك صناعة رؤوس الدبابيس ذات الأشكال الدقيقة، والتي يفترض صياغتها أدواتٍ مُتخصصة ومُتقنة الى حدٍّ ما، يُشير الى هذا التطور.
إن تسطيح المعدن، أو ترقيقه، وخاصةً انتاج الشرائط المعدنية ذات المقطع العرضي المُوحد، في صناعة المخارز، تطلب مهارةً وخبرةً عاليةً ليس فقط في العمل الميكانيكي، ولكن أيضاً في اختيار درجات الحرارة المُناسبة للتسخين.
إن القِطَع المعدنية من فترة نامازغا 2، تُميّز تكنيك شَغْل المعادن في الفترة اللاحقة. في البداية، ازداد عدد أنواع القِطَع المصوغة، وتنوعت تكنيكات انتاجها، وظَهَرَت أشكال جديدة من التكنيكات (شَغْل الجُزء الفعال من الأدوات شغْلاً بارداً، وتليين المواد ومُحاولة استخدام قوالب سكب مُغلقة).
ومن الجدير بالمُلاحظة أن المُنتجات من نفس النوع، على سبيل المثال السكاكين والمخارز، صُنِّعَت بتكنيكاتٍ مُختلفة، أي كان يتم البحث عن التكنيكات الأكثر مُلائمة في ضوء خصائص المواد الخام والغرض الوظيفي للأداة المُراد انتاجها.
كان إتقان أعمال الحِدادة أمراً حاسماً في عملية تطور تطويع المعدن: تحسين خصائص عمل الأدوات، وتحسين تسلسل درجات الحرارة وفقاً لخصائص المعدن المُستَخدَم، مثلاً لا يتحمل النحاس الممزوج بالرصاص أعمال تسخين على درجات حرارة عالية. بالاضافة الى النُحاس، كان الرصاص معروفاً في ذلك الوقت.
في الفترة اللاحقة (نامازغا 3، 3200-2800 قبل الميلاد) يُمكننا مُلاحظة التغيرات الحادة في تكنيكات شَغْل المعادن. وهُناك زيادة كبيرة في الحجم الاجمالي للمُنتجات المعدنية ووتباينها النوعي.
تظهَرُ هُنا بشكلٍ أكثر وضوحاً الابتكارات في تكنيكات السكب والتي صارت أكثر تعقيداً، مثل استخدام قوالب السكب المُغلقة والسكب في قوالب من نماذج جاهزة. إن التحسّن في تكنيك السكب، وخاصةً التوسع في إمكانات صناعة نماذج جاهزةٍ باستخدام الشمع، سهَّلَ تحسين شَغْل المعادِن.
ان التغيّر الملحوظ في العملية التكنيكية في حد ذاته أمرٌ هام، والآن يرى المرء تمايزاً واضحاً وتوحيداً لتكنيكات شَغْلِ فئاتٍ مُعينةٍ من المُنتجات.
كان أحد العوامل الهامة التي أدت الى تحسُّن المُعالجة التكنيكية للمعادن هو استخدام حاويات مُتعددة الاستخدامات للسكب. ساعَدَ استخدام هذه الحاويات مُتعددة الاستخدامات في تبسيط عملية الحِدادة بشكلٍ أكبر من أجل تشكيل المادة المصوغة.
يُلاحظ المرء، في عددٍ من الحالات، وسائل مُختلفة لاستخدام المادة الخام: سلسلة من الأدوات المصنوعة من النحاس النقي الخالي من الرصاص. بالاضافة الى ذلك، ظَهَرَت مصنوعات النحاس الزرنيخي بشكلٍ واسع، وظهَرَ الذهب والفضة.
تراكمت المعارف في مجال شَغل المعادن بسرعة خلال العصر الحجري الحديث بأكمله. وكما يتبيّن من الدراسة التكنولوجية للمصنوعات نفسها، نرى أن مُستوى عمل المشغولات المعدنية الأقدم، يفترض فترةً طويلةً أسبق من التجريب في هذا المجال.
تطور اتجاهات رئيسيان في شَغْل المعادن-الحدادة والسكب- خلال العصر الحجري الحديث في جنوب تركمانستان. استطاعَ اولئك البشر أن يُتقنوا ويستوعبوا أنواعً مُختلفةً من تكنيكات الحِدادة: سحب المعدن، وتسطيحه وطيّه وثنيه وثقبه وقطعه وجعل الثقوب دائرية، وتشكيل قضيبٍ ذو مقطعٍ عرضيٍ مُربع، والشغْل البارد لتحسين الخواص الميكانيكية للأداة. شُغِلَ الطرق إما مع التبريد والتلدين، أو عند درجة حرارة على عتبة الانصهار. أصبحت المُعالجة الحرارية، والتي كانت تُستَخدَمُ في البداية كعمليةٍ وسيطة، تُستَخدَمُ في العصر الحجري الحديث كعمليةٍ نهائيةٍ ضرورية لإعداد أنواعٍ مُعنيةٍ من المُنتجات.
تظهر التغيرات الأساسية في تكنيكات السكب خلال العصر الحجري الحديث، وهي الانتقال الى أشكالٍ مُعقدةٍ من السكب باستخدام القوالب المُغلقة وتكنيك السكب في نماذج جاهزة.

- تكنيك ووسائل شَغْل المعادن في العصر البرونزي
خلال العصر البرونزي (نامازغا 4-6) حَدَثَت تغيراتٌ كبيرةٌ في مجال إنتاج المعادن المصنوعة.إرتَقى المُستوى العام للشغل، وأصبحت طبيعته أكثر تعقيداً، وتحسنت العمليات التكنيكية.
تميّزَت المصنوعات المعدنية بتنوعٍ أكبر وظهور أنواعٍ جديدةٍ لم تكن موجودةً في العصر السابق، مثل الخناجر ورؤوس الرماح وشفرات الحلاقة وخطافات صيد الأسماك ودبابيس الغلق والأبازيم fibulae ذات الرؤوس المُتنوعة. يُمكن مُلاحظة تراكم الأساليب الجديدة في الأدوات وتكنيك شَغْل الأدوات المعدنية، ويحدث تمايز التكنيكات. تُصنَع المشغولات الآن باستخدام ثلاثة تكنيكات رئيسية: 1- طَرق المشغولات المعدنية التي سُكِبَت في قوالب (المخارز والإبر والثواقب والأبازيم والأساور). 2- سكب جُزءٍ من الأداة، وشغلها يدوياً لاحقاً (الأدوات المُسطحة والسكاكين والخناجر والمبارِد والشفرات)، 3- السكب دون الشَغل اليدوي اللاحق (دبابيس الغلق، القضبان الددائرية ذات رؤوس مُتنوعة، أنابيب صغيرة).
لم تكن هُناك تغيراتٍ كبيرةٍ في تكنيكات الحدادة. كانت هذه العملية معروفةً في الفترة السابقة (القطع والثني والطيّ وتقوية المعدن بالتبريد، وما الى ذلك). ولكن يُمكن الآن رؤية التحسّن الذي طرأ على جميع التكنيكات التي كان يستخدمها الحرفيون. كان يتم التقيّد الصارم بتسلسل درجات الحرارة التي تتطلبها عملية الحِدادة (يتم الجمع بين الحِدادة الباردة والطرق على معدن مُسخّن على درجة حرارة مُتوسطة). تُظهِر خصائص المشغولات المعدنية أن الحدادين عرفوا خصائص المعادن واختاروا بوعي المادة الخاكم الأكثر مُلائمةً. ومن ثُم فقد حاولوا بكل تأكيد تجنّب النحاس الذي يحتوي على نسبة عالية من الرصاص، كما يتضح من الانخفاض الحاد في مُستوى الشوائب الضارة جداً (في حين ازدادت في ذات الوقت في السبائك).
حَدَثَت تغيراتٍ جديدة تماماً في تكنيك السكب، مما يُشير الى أن هذا الاتجاه بالتحديد كان أساسياً في تطور شغّل المعادن. سارَ تحسّن تكنيك سكب المعادن في اتجاهين: تطوير تكنيكات السكب نفسها، ومن جهةٍ أُخرى، تطوير سكب خلائط المعادن. يتميز العصر البرونزي باستخدام تكنيكات السكب المُتنوعة: القوالب المفتوحة والقوالب المُغلقة والنماذج الجاهزة، وقوالب القُضبان لإنتاج الأدوات المُجوفة. يظهر هذا التكنيك الأخير المُعقد في فترة نامازغا 4، مما يجعل بالامكان التقدم نحو السكب في الأوعية المعدنية.
أحد العوامل الرئيسية في تطوير شَغْل المعادن هو ظهور السبائك المُركبة المُستخدمة في السكب.و عُرِفَ منها ما يلي: 1-النحاس والفضة. 2-الفضة والنحاس، 3- النحاس والرصاص (أعلى تراكيز للرصاص كانت من 7-12.64%، 4- النحاس والرصاص والزرنيخ (أعلى مُحتوى للرصاص كان 7% والزرنيخ 8%، 5-النحاس والرصاص والقصدير (أعلى نسبة للرصاص كانت 21.69% والقصدير 5.57%.).
تمتاز جميع هذه السبائك بخصائص سكبٍ عالية، واستُخدِمَت في صُنع مشغولاتٍ مُحددة لا تتطلب عملاً لاحقاً (القُضبان ذان الرؤوس المنحوتة).
كانت المادة الأكثر شيوعياً في سكب المسكوكات هي الرصاص. إن عملية صُنع السبائك ذاتها تفترض تراكماً للمعارف الخاصة بالخصائص الفيزيائية للمعادن. وهكذا، فقد لَعِبَت الخبرات السابقة في صناعة سبائك النحاس دوراً رئيسياً في صناعة سبائك الرصاص المُركب.
شَهِدَت فترة نامازغا 5 بداية إتقان تكنيك شَغْل سبيكة جديدة تماماً (الذي لم يكن ناجحاً تماماً) في جنوب تركمانستان، وهي سبيكة البرونز-القصدير، والتي لم تنتشر على نطاقٍ واسع.
يُمكن رؤية تغيرات كبيرة في إنتاج المعدن نفسه في المُجتمعات البعيدة عن مصادر الخامات، مما قد يُشير الى أنه كان يُمكن إجراء الانتاج المعدني بحد ذاته بشكلٍ مُنفصلٍ عن استخراجه.
إن جميع البيانات المُتوعة حول خصائص تكنيك شَغْل المعادن في العصر البرونزي، والتي تم التوصل اليها على أساس دراسة خواص المُنتجات القديمة باستخدام التحليل الطيفي، يسمح لنا أن تقول بأن ذلك التكنيك قد وَصَلَ الى مستوىً مرتفع.
كان تطوّر تكنيكات جديدة واستدخال السبائك الخليطية التي تتطلب معرفةً خاصة، مؤشراً هاماً على تخصص الحِرَفيين (السبّاكين والحدادين) وتحسّن الاجرائات.

- مراحل نشوء شَغْل المعادن عند القبائل الزراعية في جنوب تركمانستان، وتطوره
يُمكننا تحديد خمس مراحل رئيسية في ظهور شَغْل المعادن في جنوب تركمانستان.
المرحلة الأُولى: نهاية الألف الخامس قبل الميلاد (آناو)، يرتبط بظهور المشغولات المعدنية الأُولى على أراضي قبائل آناو.
إستُخدِمَ تكنيكين رئيسين: الحدادة والسكب.
تقريباً جميع العمليات الأكثر أهميةً في الحِدادة كانت معروفةً من قبل. إستخدم تلدين المعادن بالتسخين المُتوسط.
يُعَد تكنيك سكب المعادن أمراً ملحوظاً ويُشير الى خبرةٍ سابقةٍ طويلةٍ في شَغْل المعادن، ويُمثل السكب مرحلةً جديدةً في تطوره.
إن استخدام السكب كوسيلةٍ لشَغْل المُنتجات المعدنية يفترض وجود أدواتٍ خاصة وقوالب سكب وأفران حرارية لصهر المعادن قادرة على توليد درجات حرارةٍ تزيد عن 1000 درجة مئوية.
في مُعظم الحالات تم الحصول على المعادن عن طريق التكرير (فصل المعادن غير المرغوب بها عن المعادن المُراد شغلها). يُشير مجموع البيانات المُتعلقة بشَغْل المعادن في هذه الفترة الى أن التكرير كان له طابعٌ مُتخصص واضح منذ بداية ظهوره في جنوب تركمانستان.
المرحلة الثانية: الألفية الرابعة قبل الميلاد (نامازغا1-2)، يتميز بالظهور التدريجي لتكرير المعادن المحلية وشَغْلِها، بما في ذلك البحث عن المواد الخام المحلية وتطويرها، والتعرف على السمات الجديدة المُميزة للمعادن المحلية حسب طبيعة الخام المحلي، واستنباط تكنيكات جديدة لمُعالجة المعادن، بمراعاة صفاته الخاصة.
كانت خامات النُحاس المؤكسدة تلعب في تلك الفترة نفس الدور الذي يلعبه الرصاص.
وفي سياق البحث عن أفضل الاجرائات، اكتُشِفَت تكنيكات جديدة. كان الأكثر أهميةً في الحِدادة هو تليين المعدن بعد تبريده وتقوية الجُزء الفاعل من الأدوات لتحسين خواصه الميكانيكية من خلال زيادة صلابته.
أُجرِيَت المُحاولات الأُولى، وإن كانت غير ناجحة، للتقدم نحو السكب في قوالب مُغلقة. إن مُجرد إمكانية تكسين تكنيكات شَغْل المعادن والبحث المقصود عن التكنيكات الأكثر فعاليةً، يفترض مُستوىً مُحدداً من التطور، ومن ناحيةٍ أُخرى، يفترض نشاطاً إنسانياً مُتخصصاً في هذا المجال بالذات، لأن طرح وحل مهام جديدة، يفترض أصلاً أن يكون الناس مُتقنين لكل الخبرة السابقة لهم.
المرحلة الثالثة: أواخر النصف الرابع والنصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد (نامازغا 3). تميّزَ بتنظيم شَغْل المعادن في مُستعمراتٍ خاصةٍ لهذا الأمر، في منطقة حزام بيدموت piedmont belt في جنوب تركمانستان.
كانت هُناك ازدياد حاد في كمبية المنتوجات المعدنية، وتحسنت جودة شَغْلِها بشكلٍ كبير.
شُغِلَت المصنوعات اليدوية عن طريق الحِدادة، وقالب صب للأغراض العامة.
تميّزَت هذه المرحلة بإتقان تكنيك السكب في قوالب مُغلقة شُكِّلَت لتأخذ شكل القوالب الجاهزة.
يُمكن هُنا رؤية التوحيد القياسي لصنع المُنتجات من نفس النوع، الى جانب التمايز الواضح للتكنيكات الخاصة بكُل مُنتَج.
يُشير التوحيد القياسي للتكنيكات الى الاستقرار في ظروف الانتاج، وهو ما يتحقق عندما تكون الوِرَش المُتخصصة تعمل بشكلٍ مُنتظم.
إن المُستوى العام للتكنيك، وظهور السبائك المعدنية نصف المُصنعة، وظهور مراكز مُستقلة لشغل المعادن في المُجتمعات البعيدة عن المصادر الخام، يدل، أن شَغْل المعادن صار مجالاً مُستقلاً في هذه المرحلة. إنه مجال مُنفصل عن استخراج الخامات وتكريرها. إن امكانية هذا الانقسام والحاجة اليه، نَتَجَت عن توسّع النشاط المُتخصص في كلا المجالين على أساس مُستوىً تكنيكيٍّ مُرتفع.
المرحلة الرابعة: منذ النصف الثاني من الألف الثالثة قبل اليملاد (نامازغا 4). أدى المزيد من التحسين للمعارف التكنيكية في مجال شَغْل المعادن وازدياد التخصص في التعدين الى انفصال التكرير عن الاستخراج. نُظِّمَ انتاج المعادن في المستوطنات الواقعة في حزام بيدمونت على طول قاعدة كوبيت داغ Kopet Dagh والتي كانت بعيدةً عن مصادر الخامات. ظَهَرَت تكنيكات جديدة في شَغْل المعادن، وكان هُناك تحسينٌ للطُرق القديمة.
في عملية السكب، يُشير ظهور تكنيك صب القوالب المُجوفة الى تحقيق مُستوىً جديدٍ من التطور. إنجاز آخر ذو أهمية كُبرى يتمثل في مُحاولات انتاج السبائك المُركبة.
وبشكلٍ عام، تُوضّح هذه المرحلة التعقيد المُتزايد للنشاط البشري المُتخصص في مجالاتٍ مثل الاستخراج والتكرير وشَغْل المعادن، وهو ما يفترض وجود نظام تواصل على أساس تطور واسع للتبادل.
المرحلة الخامسة: تُغطي الألفية الثانية قبل الميلاد (نامازغا5-6). لقد تزامنت فترة إزدهار الحرف اليدوية في جنوب تركمانيا، مع طفرةٍ عامة في جميع المجالات الاقتصادية.
ولوحِظَت انجازات جديدة وهامة في تكنيك شَغْل المعادن.
في الحِدادة، استُخدِمَت الأدوات التقليدية، ولكنها صُمِمَت بعنايةٍ أكبر. صارت آلية العمل أكثر تطوراً. فالمواد أُختيرَت بعناية حسب خصائصها ومواصفاتها الفنية لتسهيل الأداء الناجح للعمليات المُختلفة (النحاس المخلوط بالرصاص غير مُناسب لأعمال الطرق، حيث استُبدِلَ بالنحاس الزرنيخي). لقد تطور السكب بمعدلٍ هائل. ابتكر عُمال السبك مجموعةً مُتنوعةً من السبائك الخليطية ذات الخصائص المُمتازة. صار الرصاص هو المادة المُضافة الأكثر استخداماً في صناعة السبائك. فُضِلَ السكب عن الحِدادة، ومن المُمكن أن السباكين أنفسهم كانوا قد تخصصوا، مثلاً في صُنع التحف الفنية.
يُظهِر مُجمال البيانات التي حصلنا عليها، الزيادة الملحوظة في تعقيد القاعدة التكنيكية والدرجة العالية التخصص في شَغْل المعادن، مما أدى الى بزروغه كفرعٍ مُستقلٍ ومُتميّز اجتماعياً من الاقتصاد القديم، أي كَحِرفة.
وكا لوحِظ، فإن المراحل الرئيسية في شَغْل المعادن تتزامنُ مع فترة الثقافة الزراعية القديمة في جنوب تركمانستان.
تبدو هذه الحقيقة تماماً، حيث تُحدد فترات الثقافات الأثرية على أساس اللُقى الأركيولوجية التي تعكس مُستوىً مُعيناً من التطور الاجتماعي. ولكن، تتجلّى الأنماط والسمات والاتجاهات الرئيسية لهذا التطور بشكلٍ أوضح، في النشاط الانتاجي، ولا سيما في فرع الانتاج الرئيسي في ذلك الزمن: المعادن.
بحلول الزمن الذي ظَهَرَ فيه المعدن عي أراضي قبائل آناو، في نهاية الألفية الخامسة قبل الميلاد، فقد كان مُنتشراً الى حدٍّ ما عند القبائل الزراعية القديمة في الشرق الأدنى (سيالك Sialk، تيب جيان Tepe Giyan VB، ارباخياه Arpachiyyah، تشاجر بازر Chagar Bazar، ميرسين Mersin، بيك سلطان Beyqesultan، الخ)، وكان للمعادن تاريخٌ لا يقل عن 2000 عام قبل ذلك.
تعود أقدم المُنتجات المعدنية المعروفة حالياً الى الألفية السابعة قبل الميلاد، والتي عُثِرَ عليها من مواقع في الأناضول (تشايونو تيبيسي çayönü tepesi، شاتال هويوك Çatalhöyük، وسوبيردي Suberde).
وفي الألفية السادسة قبل الميلاد، ظَهَرَ المعدن في مواقع المُزارعين الأوائل في بلاد ما بين النهرين (يريم تيبي 1 Yarim Tepe، ثقافة أم الدباغية أو تل سوتو Tell Sotto، تل الصوان Tell es-Sawwan) وفي الأراضي الايرانية المُجاورة (علي كوش).
كانت مُكتشفات خام النحاس شائعةً ايضاً في المستوطنات في ذلك الوقت. قد يُشير الكشف الفريد لحزامٍ رصاصيٍّ ضخم في الطبقات الدُنيا الثقافية لموقع يريم تيبي 1 (الحفريات التي قامت بها البعثة العراقية لمعهد الأركيولوجيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية عام 1947) الى تطور مجال المعادن آنذاك، وخاصةً شَغْل الرصاص.
في الألفية الخامسة قبل الميلاد، لم يكن النحاس والرصاص فقط هما المعروفين، بل أيضاً الفضة والذهب(بيك سُلطان). وهكذا ظَهَرَت أولى الكنوز المعدنية.
لا يُمكن تقييم مُنجزات شَغْل المعادن في المراحل المُبكرة (الألفية الخامسة والرابعة قبل الميلاد) الا من خلال بياناتٍ مُتشظية للغاية. ولكن ينشأ انطباعٌ بأن مُستوى تطورها كان مُرتفعاً في ذلك الوقت. وهذا ما يُشير اليه الانتشار المُبكر لتكنيكات السكب (الألفية الخامسة قبل الميلاد-بيك سُلطان مواقع عموق Amuq في تُركيا، وتل عربجية في العراق Tell Arpachiyah وتل ابليس في ايران Tal-i Iblis). وهُنا تمت عمليات شَغْلٍ مُتنوعة للمعادن، مثل التسطيح والثني والتشكيل الرباعي للسطوح.
يُظهِر تحليل البيانات المُتاحة أن العمليات التكنيكية الرئيسية لشَغْل المعادن في مراحل مُبكرة ظَهَرَت في وقتٍ واحدٍ في العديد من مراكز الشرق الأدنى، بما في ذلك أراضي تركمانستان (على سبيل المثال تكنيك السكب في قوالب جاهزة ظَهَرَت في نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد في مواقع في تركيا وفي فلسطين القديمة وبلاد ما بين النهرين وجنوب تركمانستان).
عندما يدرس المرء شَغْل المعادن في جنوب تركمانستان ومُقارنته مع قبائل الشرق الأدنى الأُخرى، يُمكن له أن يرى أن المُنجزات التكنيكية الجديدة انتشرت في العصر الحجري الحديث بسرعةٍ كبيرة وعلى نطاقٍ واسعٍ بين المُزارعين الأوائل.
ولا يُشير هذا الى الاتصال في بينها وحسب، بل يُشير قبل كُل شيء الى أن كل هذه القبائل كانت قد وصلت الى مستويات تكنيكية مُماثلة. فقط في ظل هذا الظرف كان من المُمكن تناول فكرة تكنيكية جديدة وتطبيقها عملياً.
في العصر البرونزي، عندما صار التفاوت في التطور بين المناطق أكبر، صارَ التواصل بشأن المجال التكنيكي أكثر صعوبةً.

* ناتاليا نيكولاييفنا تيخيروفا 1933-... تخرجت من كُلية موسكو للتاريخ، قسم الاركيولوجيا التابع لجامعة موسكو الحكومية عام 1957. كانت أُطروحتها لدرجة مُرشح في الدكتوراة بنفس عنوان هذه المقال، ولكن بشكلٍ أوسع. كانت مُهتمةً بدراسة مسائل اكتشاف الانسان للمعادن الحديدية وغير الحديدية، ودَرَسَت التقاليد والاكتشافات في ثقافة العمل للشعوب القديمة، وبحثت في التفاعلات الاثنية والثقافية في مجال الانتاج. كانت أحد مُحرري مجلة (الأركيولوجيا السوفييتية) منذ عام 1980، وشاركت في الرحلات البحثية الكشفية منذ عام 1957 في منطقة شمال البحر الأسود وشمال القوقاز وجنوب سيبيريا.

أ- التحليل المورفولوجيا في الأركيولوجيا، هي طريقة في جمع الأدوات في أنماط تحقيبية، على الرغم من التقنيات الحديثة، فهي تظل أداة حاسمة في تأريخ الأدوات اوالآثار التي صنعها الانسان. تُصنَّف الأداة بالنظر الى شكل الأداة والزخارف المرسومة عليها الموقع الأثري الذي عُثِرَت عليها فيه.
ب- التحليل الطوبولوجي، هي الطريقة التي فيها يتم وصف الأدوات الأثرية بعد تصنيفها في قوائم، ومُقارنتها ببعضها البعض.
جـ- التحليل الطيفي في الأركيولوجيا، تُستخدم فيه أجهزة إلكترونية حديثة لتحديد عُمر الأدوات الأثرية.
د- الميتالوغرافي في الأركيولوجيا، هي طريقة حديثة في دراسة خصائص المعادن التي استخدمها الانسان القديم، قابليتها للثني، حالتها الأصلية، تأثير النار عليها في الأفران، درجة الحرارة التي خضعت لها أثناء مُعالجتها، وغير ذلك.

ترجمة لمقالة:
N. N. Terekhova (1981) The History of Metalworking Production among the Ancient Agriculturalists of Southern Turkmenia, Soviet Anthropology and Archeology, 19:3-4








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام