الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن فلسفة النقل

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 3 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٧١ - الفلسفة والعلوم

السؤال المميت الذي طرحناه سابقا : هل يمكن اليوم، في الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي تعانيها البشرية إعتبار العدم والعدمية واللاشيء والفراغ كقيم إنسانية جديدة، كقيم فعالة وديناميكية مضيئة قد تنقذ البشرية من حلكة الظلام الدامس الذي يلف العالم منذ عدة أجيال ؟ وكما هي العادة، يمكن القول بأن السؤال لامعنى له، أو أنه بالإمكان الإجابة بنعم أو بلا حسب الظروف الموضوعية للسائل والمتلقي، كما يمكن القول بأن الإجابة على مثل هذه التساؤلات لا تقود إلا إلى طرق مسدودة، فإعتبار "العدم والعدمية واللاشيء والفراغ كقيم إنسانية جديدة، كقيم فعالة وديناميكية مضيئة" لن تغير من طبيعة الأشياء ولا من الفقر الأيديولوجي الذي تعاني منه أغلب المجتمعات الإنسانية في هذا الزمان. ومع ذلك يجب طرح هذا النوع من الأسئلة، ليس من قبيل الإصرار المرضي أو العناد، وإنما لضرورة أنطولوجية لا سبيل لتفاديها سوى بممارسة نوع من الموت الفكري وتقلص الذاكرة وغياب العقل أو فقدانه كليا. ولذلك ربما يجب طرح نفس السؤال من زاوية أخرى، وعلى ضوء شيء آخر غير الكينونة، ربما تحت مجهر "الوعي" كحقل أساسي من حقول الفلسفة، أو مجهر الوجود، الجمال، المعرفة أو الخيال، وهي كلها مجالات مفتوحة على ثقافات متنوعة وعلى أنظمة فكرية لا تخضع لمركزية الكينونة وسلطتها المهيمنة في مجال الفلسفة. كما يمكن معاينة هذا التساؤل تحت إضاءات أخرى خارج مجال الفلسفة مثل العلوم على سبيل المثال. ونحن نعرف أن العلم هو مجموعة من المعارف العقلانية والموضوعية المنظمة التي يتم الحصول عليها من خلال البحث والدراسة على حقائق من نفس الطبيعة والتي يمكن التحقق منها عمليا ونظريا. وقد تم تصنيف التخصصات الناشئة عن العلوم إلى فئتين كبيرتين: العلوم "الصلبة - dures" والعلوم "المرنة - molles". في فئة العلوم الصلبة، لدينا العلوم المنطقية الشكلية (الرياضيات، المنطق، إلخ) والعلوم الطبيعية (علم الأحياء، الكيمياء، الفيزياء، الجيولوجيا، إلخ)؛ بالنسبة للعلوم المرنة، لدينا العلوم الإنسانية كالأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والعمل الاجتماعي، وما إلى ذلك، ثم هناك العلوم الاجتماعية (القانون، والتاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والدبلوماسية، والعلوم السياسية، وغيرها من الدراسات الجديدة. ويمكن معاينة سبب القطيعة بين الفلسفة وبين كل هذه العلوم، وأين تقع الفلسفة وسط هذا الكم الهائل من المعلومات والمعارف النظرية والتطبيقية. يمكن تتبع فكرة العدم داخل كل هذه التجارب الإنسانية بطرق متنوعة وتحت أسماء مختلفة، مثل الفراغ والخواء والسلب واللاشيء وغيرها من المفاهيم المقابلة لـ "ما هو كائن" كما يقول بارمينيدس. والقطيعة بين الفلسفة وهذه العلوم ترجع بطبيعة الحال إلى تطور الفلسفة والتضخم المرعب في تراكم النصوص والبحوث وتعددها من جهة، ثم من ناحية ثانية تطور العلوم وإتساع مجالاتها لدرجة أصبح التخصص ضرورة لا مناص منها للوصول إلى نتائج مرضية.
لقد برع الصينيون والمصريون القدماء في الرياضيات والهندسة والمعمار والكيمياء والفلك بين علوم أخرى، فكيف نفهم اليوم هذه الشعوب وإنجازاتها الضخمة دون التساؤل عن دور الجانب الفكري أو التأملي أو النظري أو الفلسفي الذي أدى إلى فكرة بناء الأهرام أو المعابد الكبرى على سبيل المثال. يبدو من المستحيل أن تحقق هذه المجتمعات هذه الإنجازات الضخمة بدون قاعدة نظرية، أو بدون أن يفكروا ويتأملوا في الكون والوجود والزمان والموت والعلل الأولى للأشياء والقوانين الضرورية التي تحرك العالم والكون. غير أن الكثير من المؤرخين والمفكرين يذهبون إلى إعتبار الفلسفة اليونانية أساسا هي "روح" الحضارة الغربية، وهي الوقود أو الطاقة التي مكنت العلوم في الغرب من الوصول إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم مرعب ورائع في نفس الوقت. وأن هذه الفلسفة هي الحاجز أوعتبة بارمينيدس التي لم تستطع الثقافات الأخرى إجتيازها نظرا لأنها لم تكن تملك مفتاح κληῖδας بوابة πύλαι الحقيقة. وفي العصور الوسطى تمت محاولات لإنشاء فلسفات مغايرة، وبالذات المحاولات التي تمت في المناخ الإسلامي، سواء بالعربية أو بالفارسية، وحدث نوع من الإحتكاك وبداية الإندماج بين الفلسفة اليونانية وهذه المحاولات للخروج من القلعة الإلهية إلى نور العقل والمنطق، نتيجة الترجمات العديدة والشروح المختلفة لبعض الفلاسفة اليونان، غير أن هذه المحاولات لم تؤد إلى إغناء أو إثراء الفلسفة القديمة وأكتفت بالترجمة والشروح للنصوص اليونانية، كما أنها لم تتمكن من إبداع فلسفة أو فكر مستقل. وفي المقابل، الفكر الغربي القائم على قواعد الفلسفة اليونانية لم يتمكن أو لم يحاول أن يفتح أبواب الفكر الشرقي وبالذات الفكر الإسلامي العربي والفارسي بإعتباره فكرا يقوم أساسا على "النقل" وليس على العقل أو الإجتهاد نظرا لإعتماده الكلي على النص القرآني بإعتباره نصا مقدسا أرسله الله أو أنزله - بإعتبار الله يسكن في السماء وليس على الأرض ـ عن طريق الوحي على محمد. ورغم أن الفكر الغربي والفلسفة الأوروبية عموما قائمة بدورها على محاولة ترجمة وتحليل ودراسة النصوص اليونانية القديمة، ونص بارمينيدس هو خير مثال على هذه الجهود التي لم تكف أبدا عبر مئات السنين ومئات الدراسات والتراجم المتعاقبة. وفيلسوف مثل هايدغر، لم يفعل غير ذلك طوال حياته الأكاديمية، رغم أنه تمكن هو وغيره من كبار فلاسفة الغرب من تجاوز هذه النصوص والذهاب إلى أبعد مما يحتويه نص بارمينيدس ونصائح الإلهة المقدسة. فقد أستعملوا هذه النصوص الأولية كأساس ومصدر لمواصلة البحث والتنقيب ودفع الفكر نحو فضاءات ومساحات إبداعية جديدة والتي أنتجت كانط وهيجل والمثالية الألمانية، ثم برنتانو وهوسرل وهايدغر وسارتر وميرلوبونتي وغيرهم ممن أسسوا الفلسفة المعاصرة. أي أن النص لم يكن عائقا أو مقيدا للفكر بقدر ما كان دافعا ومحررا للفكر ودفعه نحو الوعي بذاته وبالعالم.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -