الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جول داسين ورسالة الفن للإعلام

أميرة أحمد عبد العزيز

2024 / 3 / 29
الادب والفن


جول داسين مخرج عالمي ولد بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1911 وتوفي باليونان سنة 2018، من أعماله (لا يمكن يوم الأحد وليل ومدينة والمدينة العارية وريفيفي)، واهتم في هذا المقال بعملين له وجدت فيهم ما يعني برسالة فنية وإعلامية استوقفتني، وهما فيلمي (القوة الغاشمة 1947) و(فيدرا 1962).
فيلم القوة الغاشمة، في البداية أقول أني ترددت في مشاهدة الفيلم بسبب عنوانه، خشية أن ترهقني قسوة المشاهد ودمويتها حسب العرف الجاري اليوم في السينما والفن، لكن الحمد لله أني شاهدت الفيلم ولم استسلم لهواجسي.
تدور قصة الفيلم حول القوة الغاشمة في أحد السجون من قبل القيادة ومصدرها الأول (الكابتن مونسي رئيس الحرس) مما ينتج عنه تمرد ومحاولة للهرب يقوده (السجين كولينز). والفيلم بطولة هوم كرونين في دور (الكابتن مونسي) وبرت لانكستر في دور (جو كولينز)
بالطبع كان لابد من التعرض لمشاهد توضح هذه الغشامة التي تؤدي دراميا للتمرد. لم يصنع داسين مشاهد قاسية من دماء وإظهار تفاصيل عنيفة كصورة تبدو نسخة طبق الأصل من الحقيقة، بل صنع الفكرة والصورة في رؤوسنا، أي صنع المعادل الموضوعي لها.
من دلائل اللطف والجمال في العرض هو مشهد من المشاهد الرئيسية وهو لرئيس الحرس وهو يعذب سجين ليجبره على الاعتراف على زملائه فيقوم بضربه بالعصا أو كما تبدو شومة على رأسه وبشدة..
تستطيع أن تتخيل من الكلمات ما حدث للسجين ولكن بالكاميرا شيء آخر، ماذا فعل المخرج؟ بدلا أن يصوب النظر على الضحية وعلى الشومة تفتح رأسه، صوب الكاميرا على المجرم (رئيس الحرس) وهو يرفع أداة الجريمة ويصوبها نحو الضحية عدة مرات وينقل لنا بالكاميرا انفعالات المجرم.
لم تري عملية الضرب، بل أظهر لك الضحية قبل الضرب وبعده وعلي وجهه المعذب قبل أي شيء يظهر العنف جليا، وقد صنع داسين عدة انتقالات بالكاميرا على الحجرة وغطا على صوت الضحية بصوت الموسيقي وقد يكون هذا له أكثر من بعد فني، فنقل الكاميرا على صورة الكابتن مونسي معلقة على الحائط وعلي مجموعة من الزهور الاصطناعية.
فيلم (فيدرا) هو فيلم مقتبس من أسطورة هيبوليتوس والتي تقص قصة حب فيدرا لابن زوجها ثيسيوس الشاب (هيبوليتوس) وما نتج عن هذه المشاعر المحرمة من مأساة. والفيلم بطولة ميلينا ميركوري في دور (فيدرا)، ورالف فالوني في دور (ثانوس زوج فيدرا)، وانتوني بركنز في دور (إليكسيس ابن زوجها).
يوجد مشهد رئيسي وهو مشهد حميمي بين فيدرا وإليكسيس، أومض داسين فيه ومضات، فلم يكن مشهد مبتذل، وقد حقق من خلاله معادله الموضوعي لفكرة أو أفكار في عقل المشاهد، فأعطي عمقا لهذا المشهد بنفس الأسلوب الذي أدار به مشهد فيلم القوة الغاشمة سابق الذكر، فقد أظهر تنقلات بالكاميرا مع الموسيقي الرائعة والأسطورية بما تحمل من عمق اللحظة، والإضاءة على الوجوه وإبراز تعبيرات (فيدرا) المتناقضة في مقابل تعبير الغارق في اللحظة تماما كما ظهر علي وجه (أليكسيس)، وكانت الكاميرا في تنقلاتها تظهر الملابس الملاقاة علي الأرض وومضات للحب المحرم بين العشيقين بمظهر وكأنه يحدث علي جبل (الأوليمب)، وتمر الكاميرا على الأسطوانة التي تدور بالموسيقي كما فعل في مشهد فيلم القوة الغاشمة وعلى الأمطار بالخارج، وبدا أنه أدخل عنصر الماء وأمزجه مع النار في المشهد كأن ومضات الحب تحدث بداخل الماء ويحيط بها النار، وبوجه فيدرا تعبيرات تشير كمن يختنق أو يغرق أو يستمتع أو جميعهم معا..ولوحات القديسين وراء النارالتي مصدرها في الأساس المدفئة نراهم كأنهم يراقبون المذنبين مبشرين بحرقهم.
إن هذا المشهد القصير والمعبر والعميق اختصر مشاهد كثيرة قد كان من الممكن أن يصنعها المخرج لإيصال فكرته، وقد صنع هذا داسين بحرفية كبيرة، بل وعبقرية.

أنه الفن كما عرفه (ت.س إليوت) بأنه (المعادل الموضوعي للفكرة) وليس الفكرة، فأي عبقرية وإنجاز يصنعها مخرج أو كاتب سيناريو في ان يصنع لنا مشهدا حميميا أو عنيفا كاملا تقريبا، أنه يريني الحدث وليس فن..
لكن للأسف، يبدو أن العمق تقلص اليوم في الكتابة للسينما، وبات علم السطحية مرفوعا تحت شعار الواقعية.
أقول لهؤلاء الدعاة أن الواقعية مذهب في الفن قبل كل شيء، وأن ما ينتج قد يكون واقعيا نسبة للواقع كما يرونه ونسبة لما يصنعونه بأنفسهم ولكنه ليس فنا.. ولمن يريد أن يتعرف على سينما واقعية وتمثل فن السينما أيضا سيجد في فيلم القوة الغاشمة لجول داسين مثلا..
كما يوجد في الفيلمين وخاصة القوة الغاشمة ما يعد -كما أعتقد- رسالة للإعلام والصحافة المرئية- فحتى اليوم توجد في الإعلام معضلة تصاغ في سؤال: هل نستخدم الصورة الحقيقية للتعبير عن المأساة حتى لو تداخل الأمر مع انتهاك خصوصية البشر وحتى لو مثلت هذه الصورة أو الفيديو مشاهد دموية عنيفة؟
في مؤتمر الجزيرة للإعلام هذا العام تسائل (راندي ديفيد كوفينجتون) مدير Newsplex) وقال: (أم لطفل قتلت في أوكرانيا، هل استخدم هذا الفيديو لأنه قوي ويظهر ويصور رعب الحرب أم أننا نحمي خصوصية الأم والمأساة التي مرت بها؟ هذا قرار صعب)..
قد تأتي الإجابة من الفن، أو نجد عنده طاقة نور نتلمسها لحل المعضلة. ففي المشهد سابق الذكر لفيلم القوة الغاشمة، نجد أحد تنقلات الكاميرا تقع خارج الحجرة التي يحدث بها تعذيب السجين من قبل رئيس الحرس، ولمجموعة من الموظفين بالسجن وهم يجلسون يلعبون الورق، ويظهر على وجوههم الاستياء مما يسمعونه من خلف الباب المغلق، ويظهر أثر صوت الضرب وأنين الضحية عليهم حين أوقفهم عن عملهم وبدوا غير راضين وآسفين، ومنهم من نهض منفعلا ورمى بأوراقه محتجا على ما يسمع.
يبدو مظهرهم في نظري معبرا عن الجمهور، فمع جمهور سوي -على الأغلب- لا يحتاج الأمر لرؤية الجريمة الكاملة كما يحاول أن يصل بنا الإعلام اليوم مما يرفع توقعات الجمهور لرؤية مشاهد الاغتصاب والتعذيب والإبادة كاملة لكي يدين أو ربما فقط يستمتع.
اعتقد أن الإعلام والسينما مسئولون عن الشراهة في طلب رؤية مشاهد العنف عند قطاع كبير من جمهور اليوم، فكلما رفعت مساحات العنف رفعت التوقعات لرؤية وفعل المزيد من العنف، ولا أعني بالعنف هنا فقط مشاهد الضرب والتعذيب بل أيضا المشاهد الجنسية التي تصل بابتزالها ما يعد عنفا نفسيا من نوع آخر.

نحن بحاجة لمساعدة البشرية للعودة من هذه الردة الحيوانية. وسؤالي: هل تحتاج فكرة نبيلة هذه المشاهد القاسية الدموية والعنيفة التي نراها اليوم علي شاشة السينما أو الإعلام المرئي لكي تصل؟! والتي يصاحبها الموسيقي الكئيبة التي تبدو أنها تستجدي العواطف الطيبة الإنسانية التي تقترب من الموت؟!
ألا يمكن أن تكون الكلمات والومضات والأسلوب الفني طريقا في الإعلام لتحقيق مبتغاه دون كذب أو احتيال؟.
أعتقد أنها معضلة ولكنها تحتاج مشروع للدراسة والبحث..وقد يساعد الفن في إيجاد طريقا سويا، وقد تتلمس خاصة في أفلام المخرج (ألفريد هتشكوك) الكثير يفيد في هذا الموضوع، لقد رأيت مثلا في فيلم (ريبيبكا 1940) بطولة لورانس أوليفيه وجوان فونتين كيف استعاض عن مشهد فلاش باك بكلمات البطل ووصفه للحادثة مع حركة الكاميرا للمكان الذين يشير ويوصف فيه حدوثها وهو خالي وكيف أثر هذا التصوير مع الكلمات في المشاهد كأنه يري الحادثة في عقله.. وعن الصورة الناقصة والمعبرة أتذكر له مشهد القتل في فيلم (ابتزاز1929 )، وهذه أمثلة من كثير جدا..
أنه طريقا صعب هذا الذي أتمني أن نسلكه، ولكن الخطر الذي يكمن في الأسلوب المتبع اليوم وإن حقق مبتغاه في توقيته إلا أنه مع الوقت سيأتي بحالة من تبلد المشاعر اتجاه أقصي الجرائم دموية، ولسنا نبعد عن هذا في الحقيقة، فاليوم تحدث الجريمة والناس تصورها كاملة ولا تشارك في صد العنف ولا تحاول إنقاذ الضحية.. لذا وجب أخذ الطريق المعاكس لإنعاش المريض (الجمهور).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب