الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات الكتب ج2

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2024 / 4 / 1
المجتمع المدني


5
في كتاب " واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق " يكتب جيكا ماتسو: عندما يقول أحدهم عن شيء حزين: إنه حزين. فإنه يضيع متضمنات حالة الحزن، وسيكون حتى انطباع الحزن ضئيلاً في هذه الحالة، من الضروري أن يجعل المرء الحزين حزيناً بذاته، لا أن نقول عنه: إنه حزين.
ولقد سالت نفسي هل جعلت بطل قصصي في مواقف الحزن، حزيناً بذاته ويتصرف كرجل حزين؟؟
ووجدتني أتوقف عند نهاية قصة " أرض الرماد " من مجموعة " مدينة الرياح " الصادرة عن دار أرواد 2014 :
كانت عينا الرجل العجوز الرماديتان معلقتين بالفضاء الحالك، وعلى ضوء البرق بدت الطبيعة وكأنها كتلة هائمة أدخلت الرعب إلى قلب الرجل العجوز. وكأن الرجل العجوز يرى ما يهدد حياته، يرى نفسه وحيداً في الظلام العميق، يحدق برعب بتلك الكتلة الهائمة الحمراء المزدحمة بالرعب، وترى المرأة الرجل العجوز يسد أذنيه بيديه، وكأن الطبيعة تعذبه، ويشعر الرجل العجوز باتساع عينيه من الخوف، وتسمع المرأة الصرخة الصادرة من أعماق الرجل العجوز، كانت صرخة مثل الرعد تحتل الفضاء المرعب، صرخة كأنها شلال، كأنها قبضة من حجر، تفجر عاصفة من اللهب، وتتموج كما أمواج بحر هائج، في ذلك الفضاء المرعب..









6
تسمع صوت الرجل العجوز: بماذا تفكر؟!
ترفع عينيك عن كتاب " نقد الحداثة"، وتقول: يعتبر آلان تورين أن ذات الحداثة ليست سوى الذات المنحدرة من ذات الدين بعد أن لحقتها الدنيوة. وإنني أفكر لماذا لم تتطور ذات الدين إلى ذات الحداثة في المجتمع العربي؟!
يقول الرجل العجوز: أعتقد أن المجتمع العربي لم يصل إلى هذه المرحلة التاريخية، انظر إلى ظاهرة " اليسار الإسلامي "، من الطهطاوي إلى حسن حنفي، لقد كانت محاولتهم لتقريب الفكر الإسلامي من فكر العصر الحديث بلا جدوى، فقد بقيت أفكارهم في عقول المثقفين ولم تتحول إلى ظاهرة اجتماعية.
تقول: أعرف، أعرف، ولكن لماذا؟!
يتنهد الرجل العجوز ويقول: أعتقد أن المشكلة في البنية الاجتماعية، المجتمع الغربي أنتج بنية حديثة أنتجت ذات الحداثة، لكن المجتمع العربي لظروف تاريخية داخلية وخارجية لم ينتج سوى بنية (آسيوية، إقطاعية، بطركية، طرفية، كولونيالية، بنيان إقطاعي رأسمالي قبلي..) غير قادرة على إنتاج ذات الحداثة، وهذه البنية سوف تظل تعيد إنتاج ذات الدين ما لم يقم التطور الاجتماعي بتحطيمها لصالح بنية حديثة.










7
ترفع عينيك عن الكتاب، وتقول للرجل العجوز: اسمع ما يقول مالرو " إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرناً دينياً أو لا يكون "، هل هي نبوءة أو أنها ضربة حظ؟!
ينفخ الرجل العجوز دخان الأركيلة في فضاء المقهى ويقول: ليست نبوءة، ولا ضربة حظ، إنه العقل وقت ينفتح بصدق على الزمن الاجتماعي في صيرورته.
تقول: لكن انفتاح العقل على الزمن الاجتماعي لم ينتج حقيقة دائماً؟!
يقول الرجل العجوز: العقل يضيع وقت يغادر حقل العلم إلى حقل الأيديولوجيا، إن الأيديولوجيا هي متاهة العقل.

















8
أعرف أنك بدأت تضجر من مقهى البحر ومن الحياة، وكما هي عادتك في لحظات الهاوية تلجأ إلى الكتب. أراك اخترت زاوية منعزلة موحشة، وفي يدك كتاب، أعتقد أنك قررت أن تعيش بين الكتب.
تشرب رشفة من فنجان القهوة البارد، وتقرأ رسالة غوركي إلى تشيخوف :
لقد كنت سعيداً بقراءة رسالتك ومغتبطاً بصورة خاصة بالملاحظات التي أبديتها. الواقع إني كما ترى مستاء من مسرحيتي، ولكن ليس استياء كلياً، ولم أكن أدري سبباً لذلك حتى وردت رسالتك.
وتفكر في نفسك: أليست هذه هي مهمة النقد الأدبي (وفي الحقيقة أي نقد آخر أيضاً) لكن حتى يصبح النقد مجدياً يجب أن يتم التفاعل إيجابياً كما بين تشخوف وغوركي.















9
دخل إلى مقهى البحر، دار بعينيه في أرجاء المقهى، سقطت عيناه عليك. ابتسم واتجه صوب طاولتك، وجلس وهو يقول: لم نلتق منذ زمن طويل؟!
قلت: إنه زمن طويل حقا.
لم تتغير ملامحه لكنه أصبح أبيض الشعر، وكانت الحقيبة الجلدية التي اهترأت أطرافها ورحل لونها في يده. وضع الحقيبة على الطاولة، وطلبت له فنجان قهوة سادة. تكلم عن صعوبات الحياة، وهموم الأولاد واشتكى من الجيل المتمرد. ووجدت نفسك تسأله عن الأدب حتى تخرجه من عالم الحياة المادية. تنهد وفتح الحقيبة العتيقة وأخرج منها ملفات وقال: هذه القصيدة لجريدة الثورة من أجل فاتورة الهاتف، وهذه القصة للأسبوع الأدبي من أجل فاتورة الكهرباء، وهذه القصة لمجلة الموقف الأدبي أجل إصلاح البراد، وهذه المراجعة النقدية لرواية خليجية لمجلة العربي لعل وعسى نقبر الفقر والجوع..
ثم تنهد بحزن وأردف: الحياة صعبة، وإنني أفكر أن أبيع المكتبة على الأرصفة، لكن هل يبيع الإنسان حياته؟!
أحضر عامل المقهى فنجان القهوة. شرب قهوته بصمت. نهض وغادر المقهى. تابعته حتى غاب على شارع البحر، وفكرت في نفسك: في زمن الضياع، فإن الكتب آخر ما يباع من المتاع.









10
يفتتح الكاتب علاء الديب مذكراته " وقفة قبل المنحدر ": هذه أوراق حقيقية، دم طازج ينزف من جرح جديد، كتابتها كانت بديلاً عن الانتحار. وتفكر في نفسك وأنت تحدق بطائر يتموج في فضاء البحر أن كل أدب حقيقي هو محاولة لتفادي الانتحار أو الجنون، وهناك كتاب آخرون كثيرون كتبوا وهم على حافة الانهيار، حيث تبدو الكتابة على حافة الهاوية وكأنها اعتراف على الورق بدل الاعتراف لرجل دين أو طبيب نفسي، وتفكر في نفسك أيضاً أن كل أدب كتب على حافة الهاوية، رغم مأساويته، هو أدب عظيم (ليس عبثاً أن تربط العبقرية بالجنون)، ولكن بالتأكيد ليس كل أدب عظيم هو أدب كتب على حافة الهاوية.

















11
جورج طرابيشي مفكر كبير، ومثل مفكرين آخرين تنقل بين مدارس فكرية مختلفة (القومية، الماركسية، الوجودية، النفسية، الليبرالية، وأخيراً داعية النهضة، الإسلامي بالمعنى الايجابي فهو يدرس الإسلام دراسة عقلانية) وفي كل مرحلة كان يترك مكتبة مهمة تأليفاً وترجمة، ورغم يأسه من أيديولوجيات الخلاص التي اعتبرت مرة الديمقراطية هي الخلاص، ومرة أخرى الاشتراكية هي الخلاص، ومرة ثالثة القومية هي الخلاص، فإنه يقول على طريقة أيديولوجيا الخلاص ( لا أتصور نهضة حقيقية بدون حركة إصلاح ديني)، وأنه يجب تصحيح مسار الإسلام الحالي ( من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) إلى العودة مرة أخرى إلى إسلام القرآن ( من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن )، مما يمهد الطريق لوجود لوثر إسلامي ثم بعده فولتير إسلامي وتحدث النهضة.
أحياناً أفكر أن كثيراً من المفكرين العرب ينطبق عليهم قول أونامونو عن دون كيشوت (وكان كل اعوجاج قومه صاحبنا معوجاً مثل غيره من الإعوجاجات الأخرى التي قومها)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السلطات التونسية تنقل المهاجرين إلى خارج العاصمة.. وأزمة متو


.. ضجة في المغرب بعد اختطاف وتعذيب 150 مغربيا في تايلاند | #منص




.. آثار تعذيب الاحتلال على جسد أسير محرر في غزة


.. تراجع الاحتجاجات في عدد من الجامعات الأميركية.. واعتقال أكثر




.. كم بلغ عدد الموقوفين في شبكة الإتجار بالبشر وهل من امتداداتٍ