الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفتحات الذاكرة الآجلة

محمود كرم

2006 / 12 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أن تتركَ على حافة الأيام بين وقت وآخر ، شيئاً من تساؤلاتك الحائرة وتمضي في مدارات التفكير متدفقاً بدهشة الضوء الباهرة ، خيرٌ لكَ من أن تبقى حيناً بعد حين متسربلاً بغباء البدايات المعتمة ، هكذا يخبرني دائماً الضوء المنبجس في داخلي من تفتحات الذاكرة الآجلة ..

القادمون من أعمق نقطةٍ في وجع الأسئلة القاتلة ، يجتازون متاهات الدروب الشائكة إلى الجهة التي تنبت بين جنباتها إجابات فادحة البياض ، ومن أقصى خفقةٍ في الروح المشرعة على الجمال المنثور في تأملات الفكر ، تأتي الأشياء مترعةً بزهو الانتصارات الفاتنة ..

وحينما تكون في مواجهة الجامد من سطوة التأويلات الغابرة ، عليكَ أن ترحل بعيداً لاستنطاق الذاكرة في شرفات الزمن الآتي ، فالذي يأتي من قلب المجهول قد يأتي مفعماً بتأويلات الروح الجديدة ..

وفي الذات الإنسانية ، تختلج المسافات الطويلة بتشظيات العقل في دهاليز الأفكار المحتدمة ، وباحتراقات القلب في جمرةٍ من لذة الاحتفاء بزخم البدايات المتجددة ، عندها تبدأ الحكايات تزاحم تخوم الاكتشافات البِكر في قصةٍ لا تنتهي ..

ما الذي يملأ فراغ الأسئلة ، حينما تكون الذات عالقةً وسط دهشة المستحيل المسكون في تجاويف السديم ، أهي الإجابات الناطقة باسم الآلهة المستبدة في الذات الخانعة ، أم نفير الإجابات القادمة من فورة التصادمات ، بين نزوع العقل للتساؤلات الأكثر جرأةً وبين ارتداد النفس لتخندقات الانتماءات الضيقة المستأنسة بلذة الركون لبلاهة المعرفيات السائدة ..

أحاول أن أبقى أتنفس منشرحاً الهواء في داخلي ، لأسجّل في ذاكرة المنطق بأية صيغةٍ ما أريد ، أني لم أزل موجوداً على قيد الإنسانية ، وأخبرُ قلبي أن يبقى منتظراً انسلال اللحظة المبهرة من رحم العتمة ، ولكن مَن يسلبُ حقي في أن أبقى محسوباً على قيد التفكير ، سوى لعنة الاصطفافات الغبية المحشوة بتشوهات الثقافات التلقينية المتوارثة ، والتي تحتشد استنفاراً هلِعاً في منتصف الطريق ..

وهل تجري الحياة من حولنا راكضةً نحو أفق آخر غير الذي رسمناه في أحلامنا المؤجلة ؟!
لا أدري ، فكل الآفاق تختار ربما نهايةً رسمتها لها البدايات المسبقة ، ونبقى نحن في الجزء المتبقّي من انفلات الروح في لهيب التساؤلات القاسية ، نختار أفقاً ترسمه البدايات المفعمة بزخم التخلقات الجديدة ، تستنطق في الذات جذور التكوينات الأولى ..

كيف أبدو حينما تتوالد في أعماقي استفهامات شديدة الولوغ في الفعل الحياتي ، ربما لغة أخرى تتلبسني بنكهة التعبيرات التي تغرفُ من رشقات الطبيعة ومضات الخطوة الواثبة نحو المستحيل المتكور في رحم الدهشة النابضة بدفقات الأبجديات الملونة ، فهل يقودني هذا الفضول المتمرد إلى حافة الهلاك ؟! أم يأخذني معراجاً يضيء زوايا الروح ببهاءات التأملات الصافية ، الخالية من لوثات التعليب الفاسدة وحتميات اليقينيات المطلقة ..

وقد يولد عشق الارتياد لفسحات الزوايا المضيئة في لحظة اللانهاية ، واللانهائيات قد تبدو مغرية للسير طويلاً في مسارب الضوء والانعتاق ، لذة أخرى تضاف للذة الذات في ارتعاشاتها العاكسة لتلاوين الأزمنة الفسيحة ، هذه اللذة المدهشة باعثة للقلق ، باعثة لتلمس الغوايات في أعماق النفس الإنسانية ، باعثة للمضي في نشوة التغيير الدائمة ، وقد تزداد النشوة توهجاً كلما تفاعلت مع حركة الذات في شتى الاتجاهات ، ومع كل ذلك يبقى الإنسان أكثر الكائنات تناقضاً وغموضاً في تفاعلات الحركة الدائمة ، ولا يعني ذلك أنه يتلاشى حد العدم ، ولكن لأنه إنسان تصطرع فيه تجاذبات الحركة ، فإنه يتوغل عميقاً في التناقضات وقد يتواطأ فطرياً بعض الوقت مع ملابسات الغموض ، وقد يطفح في بعض الأحيان بالوضوح الشديد ، وقد ينتهي إلى شيء محدد أو ربما إلى لا شيء ، وربما : الإنسان ، سنحتاج للسرمدية لنعرفه ، ولكن لحظة واحدة تكفي لقتله ، على حد قول العظيم فولتير ..

وهل كان ( أفلاطون ) محقاً حينما قال : الذين خلقوا الكلمات ، أولئك كانوا يؤمنون بالهذيان ..!!
ربما كانوا يؤمنون بأن الكلمات لا تتخلّق إلا في رحاب الهذيانات المستفيضة ببروق التجليات الناطقة للأعماق الدفينة في الذات ، أو ربما هذا الخلْق البهي وجدَ طريقه في قول ( بورخس ) : الكلمات وحدها ، بعد فناء كل شيء ، تبقى ..!!

ولكن هل تبقى الكلمات في السرمدية ؟! أم أن الخلق المتجدد للكلمات في رحلة الإنسان الطويلة ، قادر على أن يمنحها شرعية الأبدية ؟!
لا أعرفُ تحديداً ، كيف تصنع الكلمات شرفاتها المطلة على ذاكرة الأيام البعيدة ، فقط ربما علينا أن نضبط الذهن على إيقاع الكلمات بطريقة تخولنا جيداً من معرفة تمكنها الأكيد من مملكة القلب الحرة ..

للأوهام السحيقة سلطة التجذر والبقاء في تلافيف العقل ، وفي منطقة اللاوعي ، وفي تشعبات الذاكرة ، تستفحل متورمةً بنفخة القداسات الدينية والتراثية ، وتتسيّد عناوين الحياة بهالات الأسطرة والتعالي والتفاخر ، وتنطق حاكمةً أبدية باسم السماء ، فلماذا تجرأ أولئك الآتون من مدن الأفكار العاصفة على نقد تلك الأوهام وتعريتها تحت إمرة الضوء ، هل لأنهم يبحثون عن ملء فراغات الأسئلة التي مزقتهم طويلاً ، أم لأنهم يحاربون الوهم القابع في ذواتهم ، أم لأنهم بقدر ما يبددون تلك الأوهام ، بقدر ما يخلقون في أعماقهم مساحةً تتعافى من أثقالها التراثية واكراهاتها الأيديولوجية وفروضاتها الماضوية وسلطتها الأسطورية ..

ربما وحدهم أولئك الذين يولدون دائماً في مخاضات من الألم والتألم ، متورطون حد الإصرار والتعمد في ارتكاب فعل التفكير على مدار الوقت ، لأنهم يؤمنون بأن الألم باعث حقيقي للتفكير ، الذي من خلاله يتلمسون دروب الحرية في أعماقهم وبها يظفرون حتماً ولو مؤقتاً ، على ذواتهم الهاربة في متاهات الضياع والاندثار ، وقد تلخص مقولة ( سارتر ) معنى عميقاً في هذا الصدد : ليست الحرية أن نستطيع ما نريده ، بل أن نريد ما نستطيعه ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع صلاح شرارة:


.. السودان الآن مع صلاح شرارة: جهود أفريقية لجمع البرهان وحميدت




.. اليمن.. عارضة أزياء في السجن بسبب الحجاب! • فرانس 24


.. سيناريوهات للحرب العالمية الثالثة فات الأوان على وقفها.. فأي




.. ارتفاع عدد ضحايا استهدف منزل في بيت لاهيا إلى 15 قتيلا| #الظ