الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إدوارد سعيد وشظايا الهوية أو حين تكون الهوية -خارج المكان-...

كمال السكيس

2024 / 4 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إدوارد سعيد وشظايا الهوية أو حين تكون الهوية "خارج المكان"...
"إلَى أَيْنَ نَذْهَبُ بَعْدَ الحُدُودِ الأخِيرَة ِ؟ أَيْنَ تَطِيرُ العَصَافِيرُ بَعْدَ السَّمَاءِ
الأَخِيرَةِ أَيْنَ تَنَامُ النَّباتَاتُ بَعْدَ الهَوَاءِ الأخِيرِ؟ سَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا بِالبُخَارِ
المُلَوَّنِ بِالقُرْمُزِيِّ سنَقْطَعُ كَفَّ النَّشِيدِ لِيُكْمِلَهُ لَحْمُنَا
هُنَا سَنَمْوتُ. هُنَا فِي المَمَرِّ الأخيرِ. هُنَا أَو هُنَا سَوْفَ يَغرِسُ زَيْتُونَهُ...دَمُنَا " .
بعد كل صراع يلوح في الأفق بين فلسطين وإسرائيل تتأكد حقيقة واحدة هي أن ما يقع من اقتتال وحرب أبعد من كونه صراعا إقليميا وجغرافيا بل هو صراع وجودي يريد أن ينتصر فيه كل طرف لمشروع هوياتي له جذوره التاريخية والاجتماعية، هي إذا حرب تتجاوز الحروب المعروفة والتقليدية إلى حرب كينونة ووجود تحكي مرارة صراع الانسان الفلسطيني للحفاظ على هويته وانتماءه للأرض أمام جرّافات العدوان والقتل الممنهج الذي تمارسه إسرائيل أمام صمت رهيب للعالم...بهذا المعنى يصير سرد القضية الفلسطينية مقاومة فكرية ووجودية، وتعبير أيضا عن كينونة جماعية تأبى الاستسلام، فالحفاظ على هوية الانسان الفلسطيني (بصيغة النحن) حرب مقاومة للتشبث بالمكان والتصدي للاحتلال ولو اقتضى الأمر الموت، والموت في النهاية مقاومة...ذلك هو القدر...تلك هي الهوية الفلسطينية...الموت من أجل الحياة.
مؤلّفات "إدوارد سعيد" مقاومة فكرية وتاريخية للاحتلال والإمبريالية التي سلمت فلسطين لإسرائيل، وهي رحلة للبحث والدفاع عن الهوية الفلسطينية وفضح للرواية التي تبنتها إسرائيل وشرعنتها المركزية الغرببة؛ من خلال كشف الميكانيزمات الخفية لهذه الرواية التي أسّست لها الأدبيات الإستشراقية وتبنى مضامينها الاعلام الغربي إلى اليوم. وهو أيضا سعي لإثبات الذات والهوية، عبر مدخل سرد الرواية الفلسطينية ونقش القضية الفلسطينية عن طريق الكتابة الجنيالوجية الأدبية، لأن الحرب العصرية كما كان يبيّن من خلال مشروعه الفكري ونضاله السياسي وفي لقاءاته مع القنوات العربية والعالمية، هي في ميدان الفكر، الأدب، لأن "الرواية(سرد القضية الفلسطينية) هي أفضل حرب ... طالما كل الحروب قد خسرت وفشلت لماذا لا نجرب الرواية ... "إدوارد سعيد" كان أخطر حرب على إسرائيل أخطر من كل الحروب التي خضناها" ، وهذا ما يفسر لنا ذلك الرد العنيف الصادر من طرف إسرائيل بعد صدور مؤلفاته خاصة "خارج المكان"و"الاستشراق"، فقد خصصت له ثلة من الباحتين لتكذيب رواياته ودحض أطروحاته ، مادام مشروع مؤلفاته هو مساءلة نقدية للرواية التاريخية الغربية لأن "التاريخ يصرخ ... إنه اختراع ... زيف ... سرد موهوم" ، فسعى لكشف أدوات الهيمنة الغربية وتزوير تاريخ الشرق الأوسط، فما أنتجته الخطابات والنصوص الاستشراقية تلقفه الاعلام الغربي واستثمره بطريقة ماكرة للدفاع عن إسرائيل عبر مرجعية إيديولوجية وسياسية، تهدف إلى إعادة إنتاج الهيمنة المعرفية، ومن وراءها هيمنة سياسية وجغرافية تعطي المشروعية للاحتلال.
وفق هذه الأرضية الفكرية جاء حديث "إدوارد سعيد" عن الهوية كاستجابة موضوعية لثقل الأحداث التي عصفت بالشرق الأوسط والتأثير الكبير للاحتلال والامبريالية على واقع منطقة الشرق الأوسط، الشيء الذي تسبب في انقلابات وتحولات بنيوية همّت نظم التفكير وأنماط العيش، وساهمت في تشكيل واقع الإنسان الشرقي، هذه الانقلابات والانزياحات جعلت "إ. سعيد" يتبنى قناعة نظرية مفادها أنّ الهوية يجب أن تُدْرَسَ من منطق تعددي/منفتح باعتبارها هوية متشضّية ومغتربة يستحيل في واقع اليوم موقعتها في جوهر ثابت أو عزلها في جزيرة بعيدة عن العالم أو خارج المكان والزمان، منغلقة بذلك على ذاتها، ورافضة للآخر، وهذا ما عملت على تأسيسه بعض التوجهات القومية والدينية التي اتجهت نحو تبني هوية ثابتة متجانسة، نافية أو متجاهلة للاختلاف والتعدد المميّزان للواقع الإنساني. فالهوية قيم جوهرية متجددة تنمو باستمرار وليست كيانا يعطى دفعة واحدة للأبد، قد تشيخ وتنفجر لكن أبدا لن تموت.

الهوية ...كينونة "خارج المكان"...
لطالما آمن "إدوارد سعيد" أنّ الوجود البشري يحتاج لاستراتيجية فكرية جديدة في إدارة الهويات والقضايا الإنسانية، إذ يرى أنّ العلاقات البشرية تتشكل معها فضاءات ومساحات فكرية وجغرافية جديدة، لا مجال فيها للانتماءات الضيقة في وقتنا الراهن، الشيء الذي يعطي قراءة نقدية للمشكلات الإنسانية وأحداث الساعة على إيقاع تحولات سياسية واجتماعية أعادت تشكيل عالم اليوم. فالحديث عن الهوية لا يستقيم إلاّ عبر ربطه بالوجود الإنساني في بعديه الفردي والجماعي، وفي ربطه أيضا بالصيرورة الاجتماعية التاريخية والثقافية المؤسسة لكل مجتمع نظرا للتحولات التي تطرأ على حياة الإنسان داخل مجتمعه أو خارجه، لأنّ الذات في بنائها لهويتها وكينونتها الخاصة تحتاج إلى تجربة جماعية تفاعلية مع الغير؛ حيت أنّ الهوية تتشكل في إطار جماعي يحضر فيه الأخر المختلف كجزء من البناء الهويّاتي للذات. فالهوية إذا تسكن عش الاختلاف على حد تعبير رائد الدراسات ما بعد الكولونيالية قائلا: "إنني لا أنطق بأنا إلا في مقابل آخر يتبدى لي مغايرا لذاتي". بمعنى أن هوية الأنا الفردية تنتمي بالضرورة إلى هوية الأنا الجماعية المتضمنة لقواسم مشتركة بين جميع الذوات مع الأخذ بعين الاعتبار الفاعلية والخصوصية التي تميز كل فرد على حدى،
هذه هي الأطروحة التي أراد "إ. سعيد" إيصالها من خلال مؤلفه "خارج المكان" ، الذي أثيرت فيه جملة من الاشكالات الراهنة المرتبطة بالذات الانسانية، من قبيل إشكالية الهوية وعلاقتها بالاستشراق - الاستعمار وآثارهما على جغرافية الفكر في المنطقة، إذ تناول قضية الهوية من منطق الدفاع عن الأصول والجذور، بمعنى كوعي بالذات الثقافية والاجتماعية وكخاصية تميز جماعة عن غيرها، وهذا يقتضي ربط مفهوم الهوية بمجموعة من المفاهيم الأخرى الملازمة له، كالأصالة والقومية والاغتراب، والهجرة والمنفى(...). لأنّ الهوية من منظوره الخاص لا تتحدّد بالانغلاق بل بالانفتاح على الآخر المختلف، فهي ليست كينونة ثابتة الخصائص والمقومات فقط، بل يتداخل فيها الثابت بالمتغير في واقع ثقافي حامل لشظايا التعدد والاختلاف،
منطق حذيث "إ سعيد" عن الهوية من هذه المرجعية هو مواجهة مباشرة للرواية الغربية التي تضع الانسان العربي عموما والفلسطيني خاصة ضمن قوالب جاهزة، فأغلب التصورات الاعلامية والسياسية التي صادفها المؤلف تضع "العربي" في خانة البدائية والجهل، ويعيش في الخيام وبين الجمال، (الارهاب؛ التخلف؛ الكراهية...) أما الإنسان الغربي عقلاني ومنهجي وحكيم (الكوجيطو الديكارتي)، هي إذا نقد للتسلط الصهيوني ومن وراءه للمركزية الغربية التي دعمت وما زالت تدعم إسرائيل اعلاميا وفكريا واقتصاديا، وكان مسعى " إ سعيد" من خلال تجربته الخاصة سرد الرواية الفلسطينية ونقل الأحداث للعالم بطريقة ناعمة ومن زاوية الانسان الفلسطيني؛ هذا الانسان الذي أُلقي به خارج المكان، يقاسي ويلات التشرد مغتربا وسط وطنه، ومتمسكا بالحياة رغم رائحة الموت المنتشرة في كل الأمكنة... فشكل سرد /الدفاع عن الهوية الفلسطينية مناسبة للانفتاح على العالم ومراجعة الأفكار الجاهزة التي رسّخها الاستشراق من جهة والاعلام الغربي الموالي لإسرائيل من جهة ثانية.
وبالتالي فسؤال الهوية سؤال مشحون مستنفر، ومرتبط كما سبق الذكر بسؤال الوجود، يكشف عمق الأزمة وفقدان التحكم بالذات والدليل هو ما نشاهده اليوم في ساحة الشرق الأوسط من صراعات دموية لا نهاية لها ، فاغتراب الذات يفرغها من مقوماتها لتلوذ محتمية في خنادق إيديولوجية متصلبة ومشددة وحاسمة في هويتها، وبهذا المعنى يصير طرح إشكالية الهوية بمثابة فتح المظلة في وجه الأجواء العاصفية. لأن طرح سؤال الوجود في ظل الصراع، أو سؤال الموجود (الكائن) هو طرح لسؤال الهوية بالضرورة، فالكائن هوية، أي أنّ الكائن، كائن تلك الحقيقة يحياها بديهيا ، ذلك أنّ التفكير في الهوية يضعنا أمام اشكالية انطولوجية بامتياز، ومحاولة الوعي بها وملامسة تماهي الإنسان مع خصوصياته الثقافية والحضارية من هموم المشروع الفكري عند "إدوارد سعيد"..
على هذا الأساس يتناول المفكر إشكالية الهوية كتجربة وجودية شخصية لكنها تحيل على (النحن) الفلسطينية، وتلخص ما عاشته فلسطين ولازالت تعيشه إلى يومنا هذا، ويشكل مشروعه الفكري محاولة لتتبع إشكالية بناء الهوية في السياق العربي خاصة في خضّم ما عرفه الشرق الأوسط من أحداث تاريخية جسيمة هزت الكيان الوجودي للإنسان العربي ، هذه الأحداث لم تقتصر على تغيير جغرافية الأرض بل تجاوزت ذلك إلى تغيير جغرافية الفكر والرواية، ومن هذا المنطلق كانت الهوية هاجس الانسان/ المجتمع الشرقي،.. ليشكّل مؤلف "خارج المكان" للمفكر "إدوارد سعيد" غوص تفكيكي-جنيالوجي في هذه الظروف التي أنتجت هذا الإنسان الذي ألقي به على هامش العالم يقاسي ويلات الاحتلال والحروب...
. فما أراد "إ. سعيد" أن يبيّنه من خلال مؤلفه السابق الذكر نلخصه من خلال النقاط التالية:
 نبش جينيالوجي في ذاكرة الهوية وتأريخ لجغرافية المكان ودفاع عن الرواية الفلسطينية وعن حق الشعب الفلسطيني في الحياة والوجود.
 نقد (بمعناه الفوكوي) للمركزية الغربية التي عملت عبر آلياتها الامبريالية والكولونيالية توطين توجّهها العنصري القائم على طمس هوية الآخر وإلغائه.
 إعادة النظر في المعنى التقليدي / الأحادي للهوية، الذي بمقتضاه يكون معناها ضيقا ومحصورا في ركن ضيق من العالم، لأنّ هذا من شأنه أن يجعل العالم عبارة عن أرخبيلات متنافرة مشتتة بل متعارضة ومتحاربة أحيانا.
• الهوية بين عالمين...هل يلتقي الشرق والغرب؟
تنضبط الهوية في نص "إ. سعيد" لمقتضيات تاريخية، إذ لا يمكن حصرها في جوهر جامد، بل يجب فتحها على التناقض، لأن الشيء الوحيد التابث هو التغير. فعمل على إخراج الهوية من عالم ذو بعد واحد إلى أفق التعايش والتصالح بين الثقافات، وهكذا أراد المُؤَلِف للهوية الإنسانية؛ أن تسكن عشّ الاختلاف، باعتبارها هوية مركبة ومنفية تتشكل من خلال عالمين (الشرق والغرب)، فهي هوية مزدوجة البناء تجمع بين عوالم متناقضة، ولديها اعتقاد راسخ أن حاضرها هو غد متحول وعابر، سيرا مع المطمح الانساني، ورهاناته الوجودية الباعثة لطرح هذه الإشكالية، والتخلي عن أوهام المثال الأعلى الذي تبلور مع المركزية الغربية، هذه الأخيرة تنطلق من دوغمائية مريضة، ترى بأن ثقافتها؛ هي الثقافة التي يجب أن تسود العالم، حيث تسعى إلى الهيمنة بآلياتها المتعددة من خلال إنشاء شرق جديد يخدم التوجهات الامبريالية
ف"الخارج عن المكان" هو نتاج لهذا الصراع بين عالمين متناقضين،نتج عنه ذات مغتربة ومنفية، والاغتراب وفق تجربة الكاتب يتجلى كإفراز موضوعي لأزمة الهوية التي عانى منها إزاء هذا الصراع بين العالمين،فهو إنتاج لهذه الثنائيات والمفارقات التي عاشها في المحيط الكولونيالي، وقد وقفنا عند تيمة الاغتراب كإحدى إفرازات الهيمنة الغربية على الشرق، والتي تجسدت من خلال سببين :
 التناقضات و الانزياحات بين الجوهر الاجتماعي العربي الفلسطيني وبين المحيط الكولونيالي الهجين.
 العيش بين عالمين مختلفين ومتناقضين(الشرق والغرب) وصعوبة التوفيق بينهما، الشيء الذي سبب انشطارا في الهوية واغترابا في المكان.
إن مفهوم الهوية كما يبدو، هو بمثابة مفهوم زئبقي يستحيل القبض عليه، وكلما حاولنا ذلك إلاّ وانصرف وانصرم حاله كحال الزمن (جدلية الماضي والحاضر...)، فالأنا- الذات في تغير مستمر يفعل به الزمان، فثباتها على حال أمر مستحيل، فأنت ما أنت عليه حاليا، ليس ما كنت عليه، وما ستكون عليه؛ ذلك أن السؤال عن الهوية، هو سؤال عن محمولات متغيرة وزائلة وليس عن جوهر جامد، بمعنى أننا عندما نفكك بنية الكائن لن نجد سوى شظايا على النحو الذي تخبرنا به الفيزياء المعاصرة، فعندما نجلس لتفكيك الهوية، نجدها محمولات متعددة تضعنا أمام صعوبة الثبات على شكل نهائي ولن نصادف سوى التمزق والانشطار، ولن نعثر سوى على اللامعنى الذي يؤسس عليه المعنى . فالهوية هي التي تفتح على خارج المكان، على الاختلاف، وتتلاقح مع الهويات الأخرى، وتندمج في المحيط المشترك، عبر تبنيها تصورا إنسانيا، يتجاوز الانتماءات الضيقة التي تقود الى التعصب والكراهية...
فإشكالية الهوية عند مفكرنا من خلال هذا الكتاب يحكمها منطق من معنيين:
 الافتقار : الناتج بالأساس من الإحساس بالاغتراب والضياع، التهميش داخل المكان، بالإضافة إلى تمزق وفقدان الهوية.
 الاغتناء : انفتاح الذات على ثقافة الآخر، وبنائها لوجودها عن طريق الاغتناء بقيم الإنسانية جمعاء؛ بمعنى توسيع رحبة الوجود والانخراط في العمومية الكونية.
• الهوية كوعي بالتناقض.
إن المبثوث في ثنايا هذا المؤلف يخبرنا أن الهوية لا تستدعي دائما التصالح مع الذات، بل هي في الأصل جمع بين المتناقضات التي تتشكل من خلال مقتضيات تاريخية ينفعل فيها الزمان والمكان، الانتماء واللانتماء، الثبات بالتغير... فينتقد من خلال هذا الكتاب التوجهات الفلسفية والسياسية التي أسّست لصراع الحضارات والأديان، هذه الأخيرة تسلّم باستحالة الحديث عن هوية كونية، وبالتالي عن مبادئ إنسانية تؤسس للحوار بين الثقافات.
يأخدنا الكتاب في رحلة استكشافية غنية بالكثير من التناقضات والمفارقات، فالوعي بالهوية باعتبارها قلقا وجوديا بلغة "هيدغر" يكشف في واقع الحال فجوة كبيرة في السياق العربي، فالإنسان العربي يعيش التباساً في الوعي بهويته، ومردّ ذلك هو الارتباط التاريخي بالاستعمار ابتداء من القرن التاسع عشر، هذا الاصطدام والمواجهة أولا والانفتاح ثانيا؛ ترك رجّةً في البنى الفكرية العربية التي استأنفت الأسئلة الأنطولوجية في صيغة أسئلة نهضوية احتل فيها سؤال الهوية المركز بامتياز... وقد ظلّت سؤالا مفتوحا ومعلقا، اتخذ تارة صيغة المفرد من أنا؟ أو بصيغة المتكلم الجمع من نحن؟ بهذا المعنى يصبح سؤال الهوية سؤالا إشكاليا لا يزال يحتفظ بِرَاهِنِيَتِهِ في الواقع العربي خاصة مع الحروب التي يعيشها المشرق والحراك العالمي المرتبط أساسا بتداعيات الصراع الصهيوني الفلسطيني ومواقع الهيمنة والسيادة.
وهذا ما يظهر جليا في المشروع الفكري من خلال اعتبار "كتابة سعيد تحاول أن تفهم كيف، - وهي نتاج مستعمرة - أنا العربي الفلسطيني)، تملّكتْ معرفيا أدوات الاستعمار(في شقها الأنجلو- ساكسوني على الخصوص) الشيء الذي مكنها أن تتحرر من ربقة الهيمنة أي أن تتصالح مع ذاتها مع ماضيها" فأنا - ذات، إ. سعيد كنتاج لعالمين (المستعمر والمستَعمرُ) تسعى من خلال هذه الثنائية المتنافرة والمتناحرة الغنية، أن تفسح رحاب التعايش أمام قيم حضارية جديدة؛ مؤكدا على ضرورة الانفتاح الحضاري والانخراط الواسع في الحضارة الإنسانية، وفي الفضاء العمومي العالمي. على أساس أنّ الأنا لا يعرف ذاته إلا عبر الآخر، فهذا التقابل بين الأنا والآخر هو الذي يحدد جوهر الأنا، ذلك الجوهر المتشظي والمنفلت، بل المسكون بالغيرية...
بناء على ما سبق، فمفكرنا يراهن على بناء مفهوم جديد للهوية، يقوم أولا على قاعدة تخليص البشر من صراعاتهم الطاحنة حول الهوية والأرض، وثانيا تأسيسه لهوية مركبة مبنية على البعد المتعدد للهوية الإنسانية، حيث تجمع بين المتناقضات، هذا المسعى مردّه تجربته، هو نفسه، نتيجة انتمائه المزدوج بين عالمين، فهو الفلسطيني المسيحي الذي عاش في الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية، وكان من أول المدافعين عن فلسطين والإسلام. فعندما نقول أن "إ سعيد" عاش بين عالمين ونهل من ثقافتين تختلف كل واحدة عن الأخرى إلى حد التعارض، فهذا يعني ضمن ما يعنيه أنه حاول من خلال تجربته الذاتية تقديم نوع من المصالحة ووصل الجسور بين العالمين على الرغم من كلّ الخلافات.
يبين "إ سعيد" هنا؛ أن الهوية لا تكون لها قيمة إلا بقدر انفتاحها على الهويات المختلفة، فقيمتها تتجلى في الاختلاف والتعدد، وليس في الوحدة والتطابق، لأن الغاية هي توسيع رحبة الوجود والانخراط في العمومية الكونية وليس عبر الانغلاق والتصادم، إذ في" قلب الاختلاف تسكن الهوية وفي صميم كل هجرة وتنقل يقطن الاستقرار والعمارة، وفي قلب قوة التفريق وخلق التباعد هناك دوما قوة الضم" ، فالتاريخ الحديث تاريخ مشترك، ورهانات الحاضر أمام المخاطر التي تحذّق بنا جميعا، لا تسمح بانتماءات ضيقة، المأتى واحد، والغاية واحدة، والمعركة واحدة : تحرير الحياة فينا، خلق ثقافة غير ضاغطة، والثقافة هي المعوّل عليها في عمل من هذا القبيل؛ لأنها أثبتت تاريخيا سبقها، أولويتها على السياسي والاقتصادي..
حياة "إ. سعيد " كانت التجسيد الفعلي لمجموعة من المتناقضات التي ساهمت في تكوين هويته وشخصيته؛ إذ أن ماهية الهوية من منطلقه مركبة تجمع بين عوالم ثقافية واجتماعية مختلفة. وهذا ما اتضح جليا في قصيدة "طباق "لمحمود درويش" التي هي بمثابة حوار مفترض بينه وبين" إدوارد سعيد" اذ يلخّص فيها تصوّره للهوية..
الهوية قلت...
قال: دفاع عن الذات
إن الهوية بنت الولادة
لكنها في النهاية إبداع صاحبها
لا وراثة ماضي
أنا المتعدد في داخلي خارجي المتجدد...
هذه العبارات تعبر عن ما أراد "إ. سعيد" أن يقوله في هذا المؤلف، فضمن ما استنتجناه أنه عمل على وضع الهوية أمام الفحص والمراجعة ليزيل عنها أفخاخ التمركز حول الذات التي تقود التعصّب، فهو بذلك يضع تصوّرا يحاول من خلاله تفكيك المقتضيات المكوّنة للهوّية، بالإضافة إلى إزالة الستار عن الهيمنة الغربيّة على الشرق، فالكائن هو في نموّ مستمرّ، والهوية ليست غرفة مغلقة، بل هي ساحة لغرس قيم التسامح والتعايش، لأنّ الحديث عن هوية منغلقة ومتقوقعة وهم خادع ودعوة مستحيلة . ومن هنا يرفض الدعوة القائلة بوجود هوية أحادية ومنغلقة ترفض فتح نوافذها أمام الغير، ويدعو إلى هوية " تفتح الأفاق أمام الحوار بين الثقافات" ، هي إذا دعوة للتعايش والمصالحة رغم كل التناقضات،
وينتقد بشدة الخطابات العنصرية التي تنادي بهوية أحادية يتم تمجيدها والتمركز حولها، فالتقوقع حول العرق مثلا من أخطر مظاهر هذا التمركز الذي يقود إلى صراعات دموية، فسؤال الهوية وفق هذا المعنى لا يمكن الحديث عنه إلاّ باعتباره صيرورة دائمة، بمقتضاها تعيد الفروع بناء أصولها، ولا تنفك الهوية نسج مكوناتها في حاضر يرتبط بالماضي ويستشرف مستقبلا يستجيب للماضي ؛ لأنّ الذات الإنسانية هي ذات مركبة تأبى التنميط في هوية منغلقة، إذ الأصل هو انفتاحها على الآخر المختلف، فكل بحث عن أصل نهائي ثابت عبر كل الحقبات هو بمثابة البحث عن الشكل المعدوم، أو الشكل المشوّه حسب ما ذهب إليه "نيتشه".
• الهوية انفتاح على الأخر المختلف…
يحاول "إ. سعيد" أن يعطينا مفهوما واسعا للهوية يكون فيه الآخر المختلف صديقا نستطيع أن نتعايش معه داخل مجتمعنا وداخل مجتمعه، بعيدا عن ذلك الإحساس بالاغتراب والاستلاب، وفقدان الأمل من الانخراط في الحياة الجماعية والكوكبية، ولقد تتبعنا في هذا المسعى رهان "إ. سعيد" في إبراز أن الهوية الانسانية يجب أن تدرس وفق منطق تعددي، على أساس أنها هوية مُتشضّية ومُغتربة، ومنفتحة على الثقافات الأخرى. ففي مقابل بناء الهوية على جواهر مغلقة ليس لها نوافد، تحاول الفلسفة/الأدب اليوم فك البناء، وتضع في صلب اهتمامها تفكيك مكونات الهوية، لأنّ هذه الأخيرة تستهوي الاختلاف والتموقع في عوالم متعددة قابلة للتناقض المؤمن بالنسبية والصيرورة، هكذا يتم تجاوز أوهام الهوية الثابتة والمنغلقة التي أفرزت صراعات إيديولوجية في كل بقاع العالم، وهنا يعبر "إ سعيد" بلسان صديقه الشاعر "محمود درويش "من خلال قصيدته طباق:
لا الشرق شرق تماما
ولا الغرب غرب تماما
فإن الهوية مفتوحة على التعدد
لا صدَّفا أو خنادق
وهنا تبرز مفارقة الحديث عن الهوية في فكر "إ. سعيد" من خلال الكتاب؛ فهي أحيانا تقتضي الوحدة والاشتراك في القيم والثقافة... وأحيانا أخرى تنادي بالاستقلالية والحفاظ على الأصول والجذور، ونفهم من هذا التوجّه أن الهوية تتحدد من زاويتين:
 الزاوية الذاتية؛ تكون الأنا هي التي تختار نمط وجودها في هذا العالم بالتحرر- بالنسبة إلى إدوارد سعيد اختار الهوية الفلسطينية- من ضرورات كثيرة وذلك عن طريق التفكير والوعي، هذا ما يميز الذات عن الأخرى ويجعلها مختلفة تعيش تجربة ذاتية حميمية فريدة لا يمكن للآخر اختراقها،
 الزاوية الموضوعية؛ تظهر من كون الإنسان لا يستطيع أن يعيش معزولا عن الآخرين إذ وجوده لا يمكن أن يتأسس ويفهم إلا انطلاقا من المشاركة والتعايش داخل المجموعة البشرية رغم كل الصراعات التي بفضلها يقبل هذا الإنسان الوجود النسبي وينفتح على الكوني الممتلئ بالأغيار من الناس وبالهويات المختلفة الأجنبية.
نستفيد إذا من درس "إ. سعيد" أن الهوية تتأسس من منطلق الإنسانية جمعاء، منتقدا بشكل غير مباشر كل التوجّهات التي أسست للهوية والانتماء عبر صورتي الدم والأرض، باعتبارها تصورات مغلقة تقود إلى الاقتتال والحروب، إذ أنّ الذات تتشكل وتتطور عبر الأنساق الثقافية والاجتماعية ثم المنظومات المرجعية المختلفة، فهي بذلك ليست وحيا يوحى؛ أي ليست فطرة ثابتة منذ الولادة بل هي إنشاء مكتسب وبناء مستمر، فالأنا المتعددة التي يؤسس لها الكاتب عاشت عبر عوالم مختلفة وثقافات متعددة جعلته يقيم "خارج المكان"، وبين حدود الثقافات، لذلك فمن المستحيل الحديث عن هوية خالصة وجامدة، بل دائما هناك تلاقح بين كل الحضارات تجعل الانتماء مفتوحا دائما، وخاصة في عصرنا اليوم وما نشاهده من ثورات تكنولوجية - رقمية جعلت من العالم ساحة لتبادل الأفكار والثقافات..
إن الرحلة السردية التي قام بها "إدوارد سعيد" في ثنايا هذا المؤلف نبش في ذاكرة الهوية وتأريخ لجغرافية المكان ودفاع عن الرواية الفلسطينية وعن حق الشعب الفلسطيني في الحياة والوجود، فقد نصّب نفسه محامٍ للدفاع عن فلسطين ومشروعيته في ذلك كونه عاش بين عالمين(فلسطين ومصر ثم انتقل الى أمريكا ) ونهل من ثقافتين تختلف كل واحدة عن الأخرى إلى حد التعارض، فهذا يعني ضمن ما يعنيه أن "إ.سعيد" حاول من خلال تجربته الذاتية اخبارنا أن الشرق والغرب ليستا منطقتين جغرافيتين تفرّق بينهما حدود بحرية ومسافات، بل هما في العمق رؤيتين للعالم، وطريقتين في التفكير، تحددهما هوية متنافرة تتغذى بالتطاحن والتناقض... هما صراع للوجود وحول الوجود، وبينهما تاريخ من إرادة السيادة والهيمنة... وهذه طبيعة وعظمة وجودهما المشترك، لذلك فالمطلوب هو بناء أفق يتسع للجميع بعيدا عن صراع الأرخبيلات، وهنا نتذكر "إدوارد سعيد" واصفا الصراع بين الشرق والغرب بقوله: "إن الشرق مغربن والغرب مشرقن والعالم مفتوح الحدود" لأن الهوية لا تستدعي دائما التصالح مع الذات، بل هي في الأصل جمع بين المتناقضات التي تتشكل من خلالها مقتضيات تاريخية واجتماعية ينفعل فيها الزمان والمكان؛ اذ أن رهانه الأساسي هو بناء هوية إنسانية تنفلت من التحديدات الضيقة للانتماء وتفتح أجنحتها على رحاب العالمية، هي دعوة لنبذ الفوارق بين الشعوب وتجاوز للعنف غير المحدود وتأسيس لحوار الحضارات بدل صراعها واقتتالها.
المراجع والمصادر المعتمدة
فخري صالح، إدوارد سعيد : دراسات وترجمات،الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، بيروت، الطبعة الأولى 2009.، قصيدة" تضيق بنا الأرض"؛ محمود درويش.
علي بدر، مصابيح أرشليم : رواية عن إدوارد سعيد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية 2009، ، ص 13.
اتهمت إسرائيل إدوارد سعيد باختلاق وتزييف الحقائق في مؤلفاته وخاصة في هذا المؤلف فادعوا أن سعيد لم يعش في فلسطين ولم يولد في القدس فقد شنت عليه وسائل الإعلام الصهيونية هجوما وهدد بالقتل، واتهم ولقب بأستاذ الإرهاب يقول مجيبا" خلاصة تلك التحريات المزيفة في معظمها هي (إثبات) أني لست فلسطينيا حقا مع أن الكاتب ( يقصد محام إسرائيلي اسمه جستس رايد فاينر: مقالة نشرها في مجلة كومنتري الأمريكية وهي المدافعة عن اليهود ) بدا عاجزا عن تحديدي هويتي الفعلية ... وكانت عملية التزوير كلها معدة بهدف سياسي محدد هو إظهار أنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين عندما يتحدثون عن حق العودة. فإذا كان مثقف بارز يكذب، فما بالك بما قد يقدم عليه الناس العاديون من أجل استعادة أرضهم ، تلك التي لم تكن لهم أصلا؟.." إدوارد سعيد مقدمة كتاب خارج المكان للطبعة العربية، ص 10.
علي بدر، مصابيح أرشليم: رواية عن إدوارد سعيد، مرجع سابق ص: 13.
ادوارد سعيد، خارج المكان ، ترجمة فؤاد طرابلسي،دار الاداب.خلاصة موقف ادوارد سعيد ،مقدمة الكتاب ص 17-18
أراق سعيد، مدارات المنفتح والمنغلق في التشكلات الدلالية والتاريخية لمفهوم الهوية، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، 2008، ص 234- 235، (بتصرف)..
محمد عزيز لحبابي، الشخصانية الإسلامية، مكتبة الدراسات الفلسفية، دار المعارف، الطبعة الثانية، السنة (بدون)، ص 50.
ادوارد سعيد، الاستشراق، المعرفة السلطة الانشاء، ترجمة كمال ابو ديب مؤسسة الابحاث العربية 178 ص 72 بتصرف
علي حرب، خطاب الهوية، مرجع سابق، ص 206.
محمد موهوب، ترجمان الفلسفة، المطبعة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى 2011، ص 113
عبد السلام بن عبد العالي، في الترجمة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2006، ص.76
محمود درويش، قصيدة مهداة لإدوارد سعيد، طباق عن إدوارد سعيد، الموسوعة العربية العالمية للشعر العربي، موقع على الانترنيت، رقم القصيدة 64962.
علي حرب، خطاب الهوية، سيرة فكرية، حوار حول صناعة الذات، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الطبعة الثانية 2008، ص 204،
إدوارد سعيد، مصدر سابق، ص 10.
عبد السلام بن عبد العالي، في الانفصال، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2008، ص 7.
محمود درويش، قصيدة طباق مهداة لإدوارد سعيد، مرجع سابق.
في مقالة نشرها "إ. سعيد" حول هنتنغتون، تحت عنوان صدام التعريفات، انتقد إ. سعيد بشكل لاذع هذه الأطروحة، ونادى بحوار الحضارات لأنه الأساس في خلق تعايش بين الحضارات. (فخري صالح، إ. سعيد دراسة وترجمات، مرجع سابق، ص 85).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: انتخابات رئاسية في البلاد بعد ثلاث سنوات من استيلاء ال


.. تسجيل صوتي مسرّب قد يورط ترامب في قضية -شراء الصمت- | #سوشال




.. غارة إسرائيلية على رفح جنوبي غزة


.. 4 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي لمنز عائلة أبو لبدة في ح




.. عاجل| الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى الإخلاء الفوري إلى