الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكتابة عن الدم والأشلاء

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 4 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1 - عندما نعاين ما يحدث في غزة منذ أكثر من خمسة أشهر الآن، في هذه الحرب التدميرية على شعب فلسطين، من قتل وتشريد وإرهاب وتهجير وإبادة جماعية، لا يمكنه إلا أن يتسائل بجدية قاتلة : ما فائدة الكتابة وما فائدة الفكر والأدب والفلسفة، ما فائدة التنديد، ما فائدة الغضب، ما فائدة البكاء والنواح، ما فائدة الصراخ .. ولا يمكننا إلا إن نسخر بحزن من كل هذه الآلاف والملايين من الكلمات والخطب والمواعظ والتحاليل التي تملأ الكتب والصحف والمجلات وصفحات الويب وبلاتوهات التلفزيون بكل أشكالها وألوانها، ولا يمكنه إلا أن يتخذ موقف ديوجين بخصوص إفلاطون الذي كان يسخر منه سخرية لاذعة متسائلا عن فائدة رجل قضى حياته كلها في ممارسة الفلسفة، دون أن يزعج أي أحد. وهذا التساؤل عن عبثية الكتابة أشار إليه أحد المفكرين اليهود، ثيودور أدورنو، في منتصف القرن الماضي بخصوص إستحالة كتابة الشعر بعد المحرقة النازية ومحاولتهم لإبادة اليهود. ونطرح نفس السؤال اليوم، هل هناك ما يمكن أن يقال، علما بأنه أثناء كل كلمة أو جملة تكتب يموت فيها فلسطيني أو فلسطينية تحت قنابل الجيش الإسرائيلي الديموقراطي؟ 

2 - كان ثيودور أدورنو - Theodor W. Adorno عضواً بارزاً في مدرسة فرانكفورت النقدية، وارتبطت أعماله بالعديد من المُفكرين البارزين مثل إرنست بلوخ Ernst Bloch، والتر بينجامين W-alter-Benjamin، ماكس هوركهايمر Max Horkheimer، هيربرت ماركوس Herbert Marcuse، إيريك فروم Erich Fromm وغيرهم من مدرسة فرانكفورت، ويعتبر على نطاق واسع أحد أهم المُفكِّرين في القرن العشرين في الفلسفة وعلم الجمال. بالإضافة لمقالاته الكثيرة ومحاضراته، نشر العديد من الكتب التي انتقد فيها الفاشية وأثَّر من خلالها بشكلٍ كبير في اليسار الأوربي الجديد مثل كتاب الديالكتيك في عصر التنوير سنة Dialectic of Enlightenment ،1947، الديالكتيك السلبي، سنة Negative Dialectics-1966.
بعد وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا، هاجر أدورنو‘ بإعتباره يهوديا، مع العديد من الأساتذه التابعين للجامعات الألمانية بعد منعهم من التدريس إلى بريطانيا ثم إلى أمريكا. 
وبعد خمسة عشرة عاما من المنفى، في سنة 1949، عاد أدورنو إلى ألمانيا بعد نهاية الحرب وهزيمة النظام النازي حيث ألتحق بجامعة فرانكفورت. في ذلك الوقت كانت ألمانيا محطمة ومهزومة، تحاول نسيان الفترة النازية وإلقاء غطاء يخفي الحرب المجنونة ومخلفاتها المادية والنفسية على المجتمع الألماني، وبذل كل الجهود المادية والثقافية للنهوض بألمانيا بعد الهزيمة والإلتحاق بالأنظمة الأوروبية.
وفي محاضرة ألقاها سنة 1949 بعنوان " نقد الثقافة والمجتمع" والتي نشرت في سنة 1951، كتب أدورنو : "حتى الوعي الأكثر حدة بالكارثة قد يتحول إلى ثرثرة. نقد الثقافة نفسه يتحول في نهاية الأمر إلى جدلية بين الثقافة والهمجية : كتابة قصيدة بعد أوشفيتز Auschwitz هي عمل همجي "To write poetry after Auschwitz is barbaric"، وهذه الحقيقة تؤثر حتى على المعرفة التي تفسر لماذا أصبح من المستحيل كتابة الشعر اليوم."

3 - بطبيعة الحال، هذا الحكم لم يكن نهائيا ولم يكن الغرض منه القضاء على الشعر أو الأدب والفن، وإنما التعبير عن رفضه لنسيان الشعب الألماني للجرائم التي أرتكبها النظام النازي بإسمه. ولكن اليوم تغير الموقف تغيرا جذريا، وأصبحت محرقة اليهود رمزا عالميا وإنسانيا ضد الأنظمة الشمولية والعنصرية يدرس في كل مدارس أوروبا ويحيي ذكراها في كل أنحاء الدول الغربية، وأصبح الشعب اليهودي، ممثلا في دولة إسرائيل يمثل "المسيح المصلوب" في ديانة عالمية جديدة تقودها إسرائيل وأمريكا وفرنسا وبريطانيا. وأصبح إنتقاد دولة إسرائيل أو إنتقاد الإيديولوجية الصهيونية يمثل نوعا من الكفر والزندقة يعاقب بأقصى العقوبات التي تسمح بها هذه الأنظمة التي تدعي الديموقراطية والإنسانية والدفاع عن حقوق الإنسان. أما بخصوص الشعب الفلسطيني فإنه يمثل بالنسبة لإسرائيل الخطر الوحيد الذي قد يهدد هيمنتها وسيطرتها على كل منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن ياسر عرفات قد قضى على فكرة المقاومة واستسلم في أوسلو للديانة الإسرائيلية مقابل رئاسة دولة وهمية، إلا أن إسرائيل تعتبر كل من يقاوم الإحتلال إرهابيا ومعاديا للسامية ويمكن القبض عليه وتعذيبه وسجنه وإغتياله في أي بقعة من العالم.
وعليه ماذا يمكن أن يفعل الفلسطيني في مواجهة هذه الآلة الجهنمية المقدسة ؟ كيف يمكنه الحياة وهو محاصر ومكبل اليدين والقدمين ؟ وقد وجد الشعب الفلسطيني في غزة جوابا على هذه التساؤلات ممثلا في حركة حماس الإسلامية، لأن كل الحركات التقدمية تفسخت الواحدة بعد الأخرى، بمساعدة الكيان الصهيوني وبمساعدة الدول العربية الغارقة في الرجعية والتعاون والتطبيع، مثل السعودية ومصر وبقية قبائل ومشايخ الخايج. لأن إسرائيل كان من مصلحتها وجود حماس في غزة، لخلق الإنشقاق بين الفلسطينيين من ناحية، ومن ناحية أخرى محاولة تَضْليل وخِداع العَالم بخلق صدام مفتعل بين الإسلام واليهودية وصَرْف اِنْتِباهه عن الإحتلال والتهجير بإفتعال حرب دينية، أو حرب بين الديموقراطية والإرهاب.

4 - للأسف الشديد، يمكن إعتبار كل هذا الكلام مجرد ثرثرة زائدة عن اللزوم، فالموقف الذي يتواجد فيه اليوم الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى الكلام أو الخطب وإنما إلى الفعل الفوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد قلنا هذا الكلام منذ اليوم الأول، غير أن الكيان الدولي والإسلامي والعربي، كيانات تعيش في غيبوبة في غيبوبة أهل الكهف، حيث لا يمكن للجثت أن تتحرك ولا للأموات أن تقوم بأي شيء سوى أن تضل مستلقية على الأرض يأكلها العار والدود والذباب.
فقد اعتبر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، السبت 11 نوفمبر في أعقاب إعلان البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية المنعقدة في الرياض، أن قرارات القمة العربية الإسلامية المشتركة " "قرارات القمة جيدة وقوتها تكمن في صدورها عن 57 دولة عربية وإسلامية، وهي تبرز موقفها الضاغط على مؤيدي إسرائيل"، علما بأن هذه القرارات - 31 قرارا، لا تخرج عن الثرثرة الركيكة التي تعود عليها العرب منذ عشرات السنين : نرفض، ندين وندد ونشجب، نطالب، نستنكر، ندعم، نؤكد، إعادة التأكيد وإعادة التنديد، التشديد على ..، الدعوة إلى ..، إلى آخر قائمة هذه الأماني التقليدية والتي لا تعبر سوى عن الفقر الفكري والسياسي والتواطؤ مع الإمبريالية العالمية الذي تعاني منه هذه الطبقة المزرية من الرؤساء والملوك والسلاطين والشيوخ، والذين لا يخجلون من إخراج مثل هذه البيانات الطفولية، وهم الذين يمثلون قوة عالمية تضم أكثر من 57 دولة، وأكثر من ملياري نسمة، لا يجرأون على إتخاذ أي قرار عملي حقيقي ضد إسرائيل وأمريكا والغرب عموما، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية أو إيقاف ضخ النفط لإيقاف المجزرة الدموية في غزة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا