الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ تازة : أسرارملتبسة وبالجملة

عبد الإله بسكمار

2024 / 4 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تختلف طرق تعاطي المؤرخ مع الفترات التاريخية التي يغلب عليها الغموض والبياض، ويتجه أغلبهم إما نحو العلوم المساعدة كعلم الاجتماع والبعد المجالي/ الجغرافي والعمران والإناسة والتحليل النفسي وعلوم اللغة، لمحاولة ملء تلك البياضات بفروض مؤسسة علميا، كما قد يلجأ بعضهم إلى سبل المقارنة والمقايسة بين الظواهرالمتشابهة في خاصية أو خصائص معينة، كمسألة المدارس المرينية في المغرب والنظامية في المشرق أو دور الزوايا وأهمية القبيلة على سبيل المثال لا الحصر، فيستطيع الإجابة عن بعض الأسئلة التاريخية العالقة، وهذه الإشكالية موجودة في تاريخ المغرب ومناطقه المختلفة، بل هي ممتدة عبر تاريخ أغلب دول المعمور بهذا القدر أو ذاك، وتنسحب نفس البياضات على المآثر والمعالم الحضارية المختلفة، التي تعد دعامة مهمة في الكتابة التاريخية، فكثير من تلك المواقع يُجهل من بناها والمراحل التي قطعتها وأبرز وظائفها، الشيء الذي يحيلنا أحيانا على ألغاز مبهمة قد نكتفي أمامها ببعض الافتراضات والأسئلة أكثر بكثير من الأحداث الواضحة المعالم أو الأجوبة الحاسمة .
أمام هكذا وضع، فإن التحفظ المعرفي والحذر المنهجي هما السبيل الوحيد أمام المنشغل بحقل التاريخ والإنسانيات عموما، حتى لا يسقط في مغالطات أو تعميمات قد تلحق أبلغ الأضرار بعمله، وإذا ألقينا نظرة موجزة كنموذج فحسب على بعض مآثر الحاضرة التازية، نصطدم بنفس الإشكالات المتعلقة بغياب المصادر أو الأخبار أو ندرتها حول مآثر تازة وإقليمها وهذا النقص لا يسم تاريخ المنطقة فحسب، بل هو يوجد بهذا الحجم أو ذاك في تواريخ جميع المدن والمناطق المغربية، ضمن إطار البحث المنوغرافي أو المحلي إن شئنا القول، يضاف إلى ذلك حالات التآكل والتخريب والتلاشي التي طالتها في فترات الفتن والحروب والصراعات وعوائد الزمن، ومن ثمة ما طرأ عليها من تغييرات أو تحويرات قد تختلف من معلمة إلى أخرى وفي غياب عمل حفري ممنهج، الشيء الذي يتطلب إمكانات مادية وبشرية معتبرة، مع وجود فترات بياض غير مُسوَّغة منهجيا ومعرفيا بالنسبة لموقع استراتيجي كتازة، منها على سبيل المثال لا الحصر الفترة التي تلت نهاية إمارة مكناسة وسيطرة مغراوة وبني يفرن على جزء من البلاد حتى مجيء المرابطين، كل هذا لا يمنع أن يفسح المجال – في نظرنا - أمام نباهة المؤرخ وحسه التاريخي ونظرته الشمولية وتوجهه النقدي أولا وقبل كل شيء، وحين تسد كل الأبواب أمامه أي في أسوإ الأحوال يكتفي بطرح الأسئلة، وهي ذاتها تفتح المجال للأجوبة المقنعة أو لبعض الأجوبة، علما بأن الأسئلة في مثل هذا المقام تخدم النفس العلمي الموضوعي بدل الأغاليط المتهافتة والأجوبة الجاهزة، أو السقوط في التناقضات والأخذ والرد controversé ودون نتيجة محددة.
نقترح في مستهل هذه الإطلالة المرور على ضريح مول البلاد " سيدي عزوز "والذي ينعت عادة ب " مولْ تازة وذراع اللوزْ" وذراع اللوزهو النعت الذي يطلقه أبناء المدينة على تازة الجديدة أو تازة السفلى، تفريقا لها عن تازة العتيقة داخل الأسوار أو تازة العليا على وجه العموم، فهذا الضريح الذي تم تجديده سنة 1973 بعد أن كان متقادما وعلى وشك الانهيار، يقع شمال قبة السوق في قلب المدينة العتيقة، وهو يفصل في الواقع بين الحيين الشمالي والجنوبي للمدينة ويلحقه مسجد صغير وسقاية مائية زخرفت بشكل بديع، في نفس سنة التجديد وعلتها الآية القرآنية " وجعلنا من الماء كل شيء حي " لكن صاحبه يظل مغمورا، إذ نكاد لا نعرف عنه أي شيء، سوى أنه ولي من الصالحين وإلا ما كانت ساكنة تازة تهتم به وتبني عليه ضريحه المهيب بعد وفاته ولمَا نَسب عموم الشعب البلدَ له، وذلك لولا إشارة يتيمة وردت في رحلة الوزير الشرقي الإسحاقي الحجازية صحبة الأميرة خناثة بنت بكار زوجة السلطان مولاي اسماعيل مع حفيدها سيدي محمد بن عبد الله، الذي سيصبح سلطانا فيما بعد، الرحلة التي مرت القافلة خلالها بتازة سنة 1731 ولبث القوم فيها يوما ولـــــــيلة .
يقول الإسحاقي " وزرنا بتازة من الصالحين المشهورين بها : سيدي امحمد بن يجبش نفع الله به، وسيدي عزوز نفع الله به، وسيدي علي بن بري هو علي بن محمد بن الحسين الشهير بابن بري " ص 255 وتفيد نفس الإشارة العابرة أن عزوز هذا عاش خلال أو قبل الفترة الإسماعيلية أي قبل الرحلة الحجازية، وغير هذه المعلومة يبقى سيدي عزوز مغمورا ولغزا مبهما حتى بين أبناء تازة أنفسهم، فالعلامة الراحل ج امحمد الامراني يؤكد بوضوح " لم أعثر لحد الآن على مرجع مطبوع أو مخطوط يعرف به " وقياسا إلى الإمام علي بن بري الذي عاش خلال صدر العصر المريني وله ضريح محترم معروف وراء مقر عمالة الإقليم، فهو يتوفر على ترجمة قيمة، وردت عند أحمد بابا التمبوكتي وعند الإسحاقي ذاته، ثم الكتاني فيما بعد، كما كتب عنه عدد من الباحثين المعاصرين، فلماذا لم يُعتمد ابن بري " كمول البلاد " مثلا بما أنه معروف ومؤلفاته معلومة بدلا من سيدي عزوز؟ سؤال متشعب لا يخلو من تعقيد، يظل مفتوحا على هذا اللغز التاريخي، ولعل الجواب قد تتداخل ضمنه ثقافة الكرامات الشعبية وطبيعة الفترة التاريخية وعلاقة المعني بأهل تازة ومن ثمة موقعه الديني والاجتماعي .
ننتقل إلى لغز تاريخي آخر بتازة ويتعلق الأمر بمعلمة أثرية ذات طابع أمني وعسكري وتعد نقطة فارقة بين جزئي السور المنسوب للموحدين والآخر الذي يعود إلى عصر المرينيين، وبينهما أيضا انتصب الخندق الدفاعي في مواجهة الحيز الجنوبي للمدينة العتيقة، وهو الجزء الوحيد من المدينة المفتوح نحو مقدمة جبال الأطلس المتوسط، ونقصد ما يسمى " برج سرازين " أو" البرج الملولب "، الذي يراقب مدخل تازة الغربي عبر الممر المرتبط بها تاريخيا .
إشكال التسمية يزيد الأمر غموضا، فكلمة سرازين مُعرَّبة عن اللاتينية Sarrazin أو Sarrazine وقد كان الأوربيون خلال العصور الوسطى يطلقونها على العرب والمسلمين، وهناك تحوير آخر للإسم محلي هذه المرة وهو " برج السرَّاجين " نسبة إلى عدد ممن كانوا يشتغلون في سروج الخيول غير بعيد عن المكان، ولا توجد علاقة دلالية بين الإسمين اللاتيني والعربي، كما لا يخفى، علما بأنه من المحتمل أن تكون سلطات الحماية قد حورت إسم السراجين إلى سرازين، باعتبار أنه إسم متداول بينهم نسبيا، ونظرا لتشابه البنية التركيبية للإسمين، لا أقل ولا أكثر، فأطلقوا الإسم على البرج إياه، تحويرا ونقلا عن ما سمعوه ربما من أهالي الناحية، أما نعت " البرج الملولب " فقد يوحي لأول وهلة بأنه يشبه مئذنة مسجد سامراء الملولبة في العراق، والحال ليس كذلك، إذ إنه متعرج في داخله فقط وصولا إلى قاعدته العليا، ولم توجد أي لولبة أو انعراج في خارجه ويبقى شكله العام دائريا أساسا، ونعلم أن طوله عموديا يصل إلى عشرة أمتار، أما غير ذلك من المعلومات التاريخية فلم يرد في أي مصدر أو مرجع أو وثيقة، اللهم إذا استثنينا صورا قليلة قديمة التقطها الفرنسيون، تعود إلى سنوات 1914 و1920 تبين عتاقته وأنه ظل موجودا قبل الحماية على أقل تقدير .
هذا الغموض ينسحب أيضا على تاريخ نشأته ومن كان وراء بنائه، ولا يسعف الباحث المدقق هنا سوى المقارنة ببعض أبراج فرنسا خلال القرن الثاني عشروالثالث عشر الميلاديين وهي تشبه إلى حد بعيد برج سرازين، ولا توجد في حدود علمنا أبراج مشابهة له في المغرب، اللهم إذا استثنينا بعض المعالم المتميزة بالصحراء المغربية وهي لا تشبه كثيرا برجنا، ونذكر أن أغلب الأبراج المغربية ذات الوظيفة الدفاعية عن المدن والحواضر، والملتصقة بالأبواب أو عبر الأسوار التاريخية هي بأشكال مستطيلة أو مكعبة أو مائلة تجاه اليمين أو اليسار( مثمنات )، كما هو الشأن بالنسبة لباب قصبة النوار بفاس وبوابة شالة بالرباط والفرق أيضا هو أن البرج الملولب بتازة يحتل حيزا مستقلا عن أي باب ويوجد جنوب غرب تازة العتيقة بزاوية شبه حادة ومنحدرة نحو ماكَوسة وبوحجار ويشكل التقاطع كما سبق القول بين حيزالسور التاريخي الموحدي ونظيره المريني .
وإذا قايسنا فترة إنشاء تلك الأبراج الفرنسية بالمرحلة التاريخية في المغرب الأقصى، نلحظ أنها توافق العصر الموحدي، وهو نفس ما ذهب إليه هنري تيراس H .Terrasse وهذا الافتراض لا يخلو من عناصر تثبيت ومؤشرات مجالية ومعمارية، منها مواد البناء والشكل الدائري و دور المراقبة الذي أداه البرج، أما ربط ذلك ببعض الظواهر الفلكية فأمر غير متحقق منه، فضلا عن أنه لم يرد في أي وثيقة أو مصدر أو مؤلف، اللهم إذا أسقطنا بعض أدوار البرجين الشمالي والجنوبي لفاس عليه وهما يختلفان مجالا وموقعا، فضلا عن أنهما متأخران زمنيا ( عهد السعديين ) الشيء الذي يضعف إلى حد بعيد فرضية المراقبة الفلكية مثلا وتبقى هذه المعلمة الموجودة جنوب غرب تازة لغزا تاريخيا يحتاج إلى تفاصيل متعددة وأساسية، هي من صميم عمل الباحثين والمؤرخين وعلماء الآثار.
عرفت تازة خلال العصر المريني ازدهارا وتألقا ملحوظين، لأن أمراء وسلاطين بني مرين ينتمون إلى فرع زناتة ويعد المغرب الشرقي والجنوب الشرقي منطلقا أساسيا لهم، بخلاف الموحدين الذين اعتمدوا على العصبية المصمودية بالأطلس الكبير والسوس رغم كون الخليفة عبد المومن كان زناتيا، وهكذا عادت الدينامية التاريخية إلى منطقة تازة، بعد أن عرفت نوعا من التبعية خلال الفترة الموحدية، وكانت تازة ثالث المدن المرينية والوطاسية أيضا كما يذهب إلى ذلك ليون الإفريقي من حيث القيمة والأهمية ، ووضعها العلامة محمد المنوني ضمن 13 مدينة مرينية، وحين يفصل في المراكز الثقافية على ذلك العهد، يبدأ بالمناطق المرتفعة كفاس وتازة ومكناس ثم يعرج على مدن حوض المتوسط فالمحيط، ويصف المواد العربية بتازة بأنها ناهضة والمعارف الأخرى متدارسة .
في سياق مشكلة المصادر والحوليات التي انحصر اهتمام أصحابها في أخبار السلاطين والخلفاء والأسر والجيوش والمدن الكبرى، ولم تفرد للمدن المتوسطة كتازة إلا أخبارا ومواقف عابرة، ورغم التألق الذي عرفته المدينة خلال العصرين المريني والوطاسي فلم يصلنا منه إلا النتافات هنا وهناك وجدير بالذكر أن العديدين تحدثوا عن كتاب مفقود يعد هو الآخر من ألغاز التاريخ، مثلما وقع في كل الأحوال لكثير من المناطق والمدن المغربية ونقصد الكتاب المعنون ب " تقريب المفازة في تاريخ مدينة تازة " والذي نسبه العلامة عبد السلام بن سودة في " دليل مؤرخ المغرب الأقصى " إلى أبي الحسن علي الجزنائي أصلا ( جزناية قبيلة بربرية زناتية توجد شمال تازة ) الفاسي دارا، والذي كان حيا سنة 766 هــ / 1364 م أي خلال العصر المريني بالذات، هذا المؤلَّف الذي كان سيمدنا - لو تم العثور عليه وتحقيقه - بالشيء الكثير حول تازة منذ أقدم العصور، خاصة وبين أيدينا كتابه الآخر حول مدينة فاس "جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس " وهو يعد مصدرا أساسيا بالنسبة للعاصمة العلمية، لكن تازة لسوء الحظ لم تحظ بفك هذا اللغز التاريخي لحد الآن .
لقد شيد المرينيون بتازة الأسوار والأبراج والأبواب لحمايتها وكذا المرافق الأساسية كالمساجد والحمامات والأسواق علاوة على المدارس والزوايا والقصور، فضلا عن القصبة الجميلة الكبيرة التي أشار إليها الحسن بن محمد الوزان المعروف ببليون الإفريقي Léon L’Africain .
وبما أن حديثنا يقتصر على المآثر التي بقيت صامدة إلى حد ما، علما بأن أزيد من سبعة قرون تفصلنا عن هذه الفترة، مما يجعل الأسئلة تتضاعف وتتداخل حول ما ورد من إشارات في المظان أو الحوليات التاريخية كروض القرطاس لابن أبي زرع والذخيرة السنية وما كتبه المقري وابن مرزوق وابن الأحمر وابن الخطيب وابن خلدون، ما يستدعي اللجوء إلى وثائق ومرتكزات أخرى كالحوالات الحبسية والظهائر السلطانية والرسائل والعقود والفتاوى فضلا عما كتبه الأجانب وبتحفظ طبعا .
وفي هذا السياق، نمر على رابع ألغاز تازة التاريخية وهو قصر الإمارة الذي أشار إليه ابن خلدون واصفا إياه ب" دار الملك " وقد بناه السلطان المريني أبو يعقوب يوسف عام 696 هــ سنتين بعد توسعة المسجد الأعظم ووضع الثريا داخله وهو غير البناء الذي نعته أبو بكر البوخصيبي بالقصر العجيب الصنع والذي غرق في مياه عين، أنملي حيث يوجد المسبح البلدي حاليا، إذ نقصد بقايا الإفريز المريني الموجود لحد الآن جنوب وبجوارالمسجد الأعظم بالحي الشمالي لتازة العتيقة، وهونفس الإفريز الكائن في قلب الدرب غير الموصل المسمى " درب السلطان " والذي أشار إليه هنري تيراس بقوله " كان للمرينيين – مثل الموحدين – قصر بجوار الجامع الكبير، ولم يبق من هذا الحي المخزني لتازة إلا بعض أجزاء الجدران وقوس قريب جدا من المسجد مفصص من القرميد وساكف من خشب الأرز المنقوش يرجع إلى القرن 14 " ومن جهته يصفه القبطان فوانو Voinot بأنه " بني وسط حديقتين شمال المدينة قرب المسجد الأعظم وبه قاعات كبيرة وأخرى صغيرة " ويضيف أن أرضيته غطيت بقطع من الزليج الملون ويفترض أيضا أنه كان يضم طابقا علويا وصنعت بابه الخارجية من الخشب كما كان محاطا بأسوار سميكة شأنه في ذلك شأن كل قصور العصور الوسطى .
شهد هذا القصر السلطاني بيعة السلطان أبي سعيد عثمان بعد وفاة ابن أخيه السلطان أبي الربيع سليمان ودفنه بصحن المسجد الأعظم بتازة سنة 710 هــ هذا إلى زفاف أميري باذخ يضعه المؤرخون في إطار سياسة تقارب بني مرين مع الحفصيين بتونس ضدا على بني عبد الواد بتلمسان، حيث وُصف وصول وفود العروس من بني حفص إلى تازة في حفل عظيم وبهيج لتجد قصر السلطان أبي سعيد وقد كساه من الزينة ما تفننت فيه عقول وأفكار الحاشية كبيرا وصغيرا " حسب ابن خلدون ونقل عنه عبد الكريم الفيلالي في كتابه " التاريخ السياسي للمغرب الكبير" ولم يكن العريس سوى ولي العهد والذي سيصبح سلطانا وهو أبو الحسن المريني، إلى جانب استقبال السلطان أبي فارس المريني هدية سلطان مصر آنذاك المملوكي الظاهر برقوق ف" أعظم السلطان موقعها - كما يقول ابن خلدون – لما احتوت عليه من التحف الثمينة والمقتنيات النفيسة، وشرع في المكافأة عليها بنفس القيمة أو أكثر " وعزم على بعثها مع يوسف بن علي حاملها الأول وأنه يبعثه بها من موضع مقامه بتازا " انتهى كلام ابن خلدون .
ودائما بالإحالة إلى ابن خلدون وتاريخ العبر، فخلال سنة 784 هــ / 1382 م حاصرسلطان تلمسان أبو حمو الثاني الزياني تازة لمدة أسبوع في إطار صراع المرينيين مع أبناء عمومتهم من بني عبد الواد أو أسرة بني زيان، لكنه نكص على عقبه ويرجح أنه خلال هذه الفترة تم الإجهاز جزئيا في الأقل على القصر السلطاني بتازة أو دار الإمارة يقول العلامة ابن خلدون " وأشار ونزمار ( أحد الأمراء المرينيين ) على السلطان أبي العباس بتخريب هذه القصور وأسوار تلمسان انتقاما من أبي حمو فيما اعتمده من تخريب دار الملك بتازة " وباعتبار أن السلطان أبا العباس المريني حكم قبل أبي فارس فإن التخريب النهائي لهذا القصر يرجح أنه تم بعد هذه الفترة أو افتراضا بأن المكان الذي استقبل فيه أبو فارس هدية السلطان المملوكي كان هو غير القصر المعني هنا .
لا نعرف بالضبط متى تهدم أو تخرب هذا القصر بصفة نهائية، خاصة وأنه تعاقبت على تازة عبر قرون ممتدة نوائب الزمن وتلقت أسوارها وأبوابها وأبراجها هجومات الحركات المتمردة وشراسة الجيوش السلطانية وغيرها كما تأثرت بالكوارث الطبيعية كزلزال 11 ماي 1624 المدمر والذي شمل تازة إلى جانب فاس ومكناس ومناطق أخرى، على هذا النحو يبقى شأن هذه المعلمة لغزا تاريخيا وسرا مستعصيا لحد الآن، لا تحيل على جواب جزئي له إلا المؤشرات التي سردناها من خلال كتب الحوليات ( نخص بالذكر تاريخ العبر لابن خلدون ) أو ما بقي من عاديات الزمن مما وصفه تيراس .
لغز آخر يميز معالم تازة ويتعلق الأمر بزاوية أنملي وبعضهم يخلط بينها وبين المدرسة المرينية خارج الأسواركجورج كولان G ,Colin ضمن مقال له بمجلة هسبريس تامودا La Zaouia merinid de Anmli à Taza وقد ذكرها الناصري أيضا في الاستقصاء، علما بأن الحديث عن الزوايا بتازة تحديدا وتبعا لدورها الصوفي التعليمي لا يصح إلا مع القرنين الخامس و السادس عشر الميلاديين / التاسع والعاشر الهجريين مع المتصوف المجاهد امحمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي الذي ألف كتابا في الدعوة إلى الجهاد كما هو معروف وارتبطت الزاوية المعلومة باسمه أي الزاوية اليجبشية أو زاوية ابن يجبش ولفظ الزاوية ما زال متداولا لحد الآن وبات يطلق على درب بكامله يوجد في الحي الجنوبي لتازة، ولم تظهر فروع الزوايا المعروفة بالمدينة إلا عند بدايات القرن التاسع عشركالزاوية الوزانية ( الطيبية ) والزاوية التيجانية ( زنقة القلوع ) والزاوية الدرقاوية ( باب الزيتونة ) والزاوية الناصرية ( التوزانية ) والزاوية القادرية بدرب مولاي عبد السلام .
أما الزوايا في عهد المرينيين فكانت أقرب إلى نزالات المسافرين، حيث كانوا يستريحون ويتزودون بمؤونة الطريق ليتابعوها بعد ذلك، قبل أن يتحول دورها إلى الجهاد ثم العبادة والذكر والأوراد مع إطعام أبناء السبيل أحيانا ومنه زاوية النساك بسلا وقد ورد ذكر الزاوية العنانية بتازة في حوالة حبسية تمثل ما أوقفه السلطان أبو عنان المريني عليها، وبالفعل فوجود هذه الزاوية خارج الأسوار وبمحاذاة الطريق السلطاني القديم نحو الشرق يؤكد فرضية الزاوية كمكان إيواء أولا وقبل كل شيء، وأصل اللغز هنا هو موضع الزاوية، إذ لا توجد أي مؤشرات عليها حاليا اللهم إلا بقايا أسوار قرب فندق فريواطو موضوع عليها ألف علامات استفهام، وإن كان الفضاء الممتد بين أسفل باب الجمعة وواد أنملي هو الذي يحتمل أن تكون الزاوية قد أقيمت فيه، أما الأسوار الدائرة بفندق فريواطو فهي حديثة العهد نسبيا لا تتجاوز القرن الثامن أو التاسع عشروهذا يظهر من شكل البناء وطبيعته، ويبدوأنه امتداد للفضاء المسمى " جنان السلطان " .
ونعود إلى الخلط الواقع بين مدرسة أنملي والزاوية التي تحمل نفس الإسم، فلايبعد طبعا أن تكون للزاوية نفسها خصائص تدريسية غير أن مسألة الإشراف على هذه الزاوية من قبل الشيخ زنوف التازي الذي عاش خلال أواخر العصر السعدي وله كتيب " مختصر الأفاريد " في ألعاب وتسليات متنوعة موجهة إلى الطلبة الأفاقين بفاس حسب العلامة محمد حجي وبأسلوب هزلي، أقول مسألة الإشراف هذه تحتاج إلى برهنة ولا يكفي أن ترد عند أحدهم في بعض كتاباته - رحمه الله - حتى نعتبرها مسلمة تاريخية، ثم إن أوضاع كثير من المآثر التاريخية لا تسمح بِلَيِّ نصوص وإشارات من أعناقها وسحبها على أماكن وفضاءات لم تتضح حتى معالمها سوى ما وصلنا عبر بعض الحوالات الحبسية التي وإن كانت تثبت وجود زاوية عنانية بتازة ونفس الشيء يقال عن مارستان تازة فهي لا تفيد أكثر من ذلك، ونكرر بأنه لم ترد في المصادر أو حوليات العصور الوسطى التي ذكرنا بعضها أي إشارة لهذه المنشأة المرينية .
نطل أخيرا على لغز فريد بتازة نلتقطه ضمن ألغاز متعددة، كدارالدبغ ومصانع الصابون ( الشهير بصابون تازة ) ودار سك النقود وباب الجمعة التحتية وقصبة تازة القديمة وقصبة بيت غلام مما سنعود إليه في فرصة قادمة بحول الله، نطل أخيرا على ثريا تازة الشهيرة التي وضعت في المسجد الأعظم سنة 694 هــ وتعتبر فريدة من نوعها في العالم الإسلامي لا تقترب منها إلا ثريا جامع الأندلس في فاس، ولعل السؤال يطرح عن أسباب وضع هذه التحفة في اتجاه محراب المسجد الأعظم، فنستطيع أن نفترض أنه عرفان لموقع تازة وما لعبه من أدوار خلال الفترات الصعبة الأولى لقيام دولة بني مرين، بحيث كانت أولى معاركهم مع الموحدين بهذا الرباط سنة 613 هـــ ولن نعيد أبرز سمات هذه الثريا كوزنها ( 32 قنطارا بمعيار الفترة المرينية ) وعدد كؤوسها ( 514 كأسا ) وطبيعة النحاس الذي صنعت منه .
نمعن النظر فقط في أمرين أساسيين أولهما صاحب القصيدة التي كتبت في قاعدة الثريا إلى جانب آيتين قرآنيتين وهي القصيدة العصماء التي استهلها صاحبها بالبيتين الشعريين :
ياناظرا في جمالي حقق النظرا..... ومتع الطرف في حسني الذي بهرا
أنا الثريا التي تازا بي افتخرت.....على ىالبلاد فما مثلي الزمان يرى
والقصيدة مجهولة من حيث صاحبها، فنبادر إلى القول أن هذا تقليد فني كان شائعا في تلك الفترة ولنا نماذج على ذلك في مساجد ومدارس مماثلة وخلال نفس الفترة، غير أن كل هذا لا يخفي الفضول البشري لضرورة معرفة صاحبها فنلتقي بإسم شاعر أندلسي هو ابن رشيق المرسي والمثير في الأمر أنه مثلما يورد العلامة الراحل محمد بن شريفة في كتابه " ابن رشيق المرسي – حياته وآثاره / دراسة وتحقيق " توفي بتازا سنة 696 هـــ حين كان متوجها في وفد أهل سبتة نحو السلطان أبي يعقوب يوسف في مناسبة ما وهي نفس السنة التي شيد خلالها القصر السلطاني بتازة كما أنه لا يفصله عن وضع الثريا إلا سنتين، لكن للأسف حين تصفحي لكتاب الأستاذ بن شريفة لم أعثرولو على بيت لقصيدة الثريا، ولو أن الكتاب اشتمل على أشعارتشبه فيما تشبه قصيدة الثريا، فيبقى صاحبها لغزا تاريخيا وأدبيا آخر من ألغاز تازة، وحين نفكرفي أمر إخراج هذه الثريا في تلك الحلة البديعة تتبادر إلى أذهاننا أسئلة متعددة، أين صنعت هذه التحفة الفنية البديعة ؟ في فاس أم بالاندلس ؟ وكيف نقلت إلى تازة في ذلك الزمن ؟ والحديث ذوشجون ولنا عودة للموضوع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب