الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الثامن عشر) –برج بابل وتزوير الأساطير اليونانية وأصل إسطورة برج بابل–

ابرام لويس حنا

2024 / 4 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هاجم سيلسوس رواية برج بابل التوراتية فبالنسبة له الرواية التي تزعم تطهير العالم بالطوفان مُشابهة لرواية برج بابل (التكوين 11 : 1-9)، فنقل عنه أوريجانوس قوله:

(يمكن مقارنة سقوط برج بابل بالطوفان الذي طهر الارض حسب تعليم الكنيسة، فرواية البرج الموجودة في التكوين لا تحمل أي معنى خفي الحرفية، وبالرغم من تطهيره لكن الإله لم يُطهر العالم حقاً، ُمعتقداً ان موسى الذي كتب تلك الامور الخاصة بالبرح وبلبلة الالسنة يُزيف ما روايات الالویدیین / الألويادي Aloeids) (1).

أما إعتباره بأن بلبلة الألسنة هي بِمثابة تطهير للألسنة هو مُعتقد شائع بين اليهود، كما نرى قول فيلو السكندري اليهودي، إذا يقول:

(إن بلبلة الالسنة جعلتهم مُتفرقين وفرقت إتحادهم على فعل الشر، تلك البلبة التي هي بمثابة علاج للخطية) (2).

وكعادة أوريجانوس في دفاعه والمدافعين في دفاعهم وبدون أدنى دليل يَعدون موسى هو الأقدم وأصل الأفكار وهو ما صرح به أوريجانوس بصورة صريحة قائلاَ:-

(انا لا اعتقد بوجود أي شخص قبل زمن هوميروس قام بذكر ابناء ألويس Aloeus، كما إني مقتنع بأن ما يتعلق بالبرج المُسجل من قبل موسى هو أقدم بكثير من الذي سُجل من هوميروس بل وحتى اقدم من اختراع الحروف بين الاغريق، لذا؛ فمن هم اذا الذين حرفوا سرديات الآخرين؟ هل الذين حركوا قصة الألويادي هم الذين نحلوا التاريخ أم الذي سجل رواية البرج و بلبلة الالسنة هو الذي نحل قصة الألويادي؟ إن المستمع المحايد يدرك أن موسى أقدم بكثير من هوميروس، حتى الهلاك بالنار أي هلاك سدوم وعمورة بالنار الذي كان نتيجة لآثامهم والتي سجلها موسى في التكوين يقارنها سيلسوس بقصة فايثون Paethon، كل تلك التصريحات تنتح من خطأ أكبر وهو عدم أخده في الاعتبار العصور القديمة العظيمة لموسى بل الذي يرون قصة فايثون Paethon يدرون انها أحدث من هوميروس الذي بدوره أحدث كثيراَ من موسى) (3)

اما عن اسطورة ابناء ألويس (الألويادي - الالویدیین) التي قام بذكرها سيلسوس فنجد ذكرها في أوديسة Odyssey هوميروس وهي كالتالي:

(ورأيت ﺇيفيميديا Iphimedeia زوجة ألويس Aloeus الذي اعلن أن زوجته إضجعت مع بوسيدون وحملت منه ابنين التي كانت حياتهم قصيرة؛ أوتوس Otus شبيه الآلهة و إفيالتس Ephialtes الأكثر شهرة من بين البشر على الارض، الاطول من أي شيء ربته الارض والاكثر جمالا مع أوريون Orion ، فعندما كانوا في سن التسع كان عرضهم تسع اذرع و قامتهم تسع اذرع، مٌهددين بإقامة حرب ضد خالدي أوليمبس، وبالفعل كسدوا جبل أوسا Ossa على جبل الأوليمبوس Olympus على جبل بيليون Pelion حتي يتمكنوا من تسلق السماء، غير ان أبوللو بن ليتو Leto من زيوس ذات الشعر الذهبي قضي عليهما قبل ان تخضر سوالفهما) (4).

ويتفق الإمبراطور يوليان Julian the Apostate في اعتراضه مع سيلسوس على أوجه الشبه بين الاسطورة الاغريقية والتوراتية بل إعترض على سردية قصة برج بابل كلها، كالتالي:

(تعال واخبرني لماذا القلط والجرمان عنـيفين بينما الهيلينيون والرومان بصفة عامة يمـيلون للحياة السياسية والانسانية وهم في ذات الوقت عـنيدين ومحاربين؟ لماذا المصريين أكثر ذكاء وأكثر حرفية ؟ و السوريين غير ماليين للحروب ومخـنثين الا انهم في نفس الوقت أذكياء، سريعوا الغضب، مغرورين وسريعوا التعلم ؟ فإن كان شخص لا يري منطقاَ من الاختلافات الموجودة بين الامم، ونجده يقول ان هذه الاختلافات قد وقعت بصورة طبيعية، قم بسؤاله كيف يمكن إذا أن يؤمن أن العالم تديره العناية الإلهية؟ ولو هناك شخص يرى أن هناك حِكم من تلك الاختلافات ، فدعه - باسم الخالق نفسه- يرشدني اليها، لأنه من الواضح أن قوانين البشر وضعها البشر لتتلاءم مع شخصياتهم الطبيـعية –وليست العناية الإلهية-، فمثلا وضعت القوانين الدستورية والإنسانية لمن متأصل فيهم النزعة الانسانية قبل كل شيء، في حين وضعت القوانين الوحشية لمن تتواري الوحشية بداخلهم....اما بالنسبة للاختلاف في اللغة، فقد قدم موسى تفسيراَ خرافياَ قائلاَ ان بني البشر تجمعوا مع بعضهم البعض لبناء مدينة وبرج عظيم بها، إلا ان الله قال انه يجب عليه ان ينزل و يُبلل ألسنتهم ، ولكي لا يظن احداَ اني اختلق تلك الاشياء عليه ، دعوني اقرا لكم من كتاب موسي :" "وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ». فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالْعَمَلِ. وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ الْمَدِينَةِ،"

ثم تطلبون منا ن نصدق تلك الرواية؟ في حين انكم انفسكم لا تصدقون قصة هوميروس للألویدیین الذين خططوا لجعل ثلاث جبال فوق بعضها البعض "لكي يصلوا /يتسلوا الى السماء" اما من جهتي فإن هذه الرواية خرافية مثل الأخرى، فإن قبلت أنت الرواية الأولى فلماذا اذا بحق الآلهة ترفض اسطورة هوميروس؟، لأنه يجب علىَّ ان اقول الحقيقة للرجال الغير عالمين مِن أمثالكم، وهي انه حتى ولو كان هناك لكل سكان العالم لسان واحد، فلن يكونوا قادرين حتى على بناء برج يصل للسماء، حتى ولو حولوا كل الارض الى قوالب طوب، فمثل هذا البرج يحتاج الى عدد لا يحصي من القوالب، كل واحد منها ضخماً للغاية، هذا ان ارادوا الوصول لمدار القمر فقط ... وهل تعتقدون يا من تؤمنون بأن هذه الخرافة صحيحة بأن الله كان خائفاَ من العنف الوحشي للبشر؟ ولهذا السبب نزل للأرض ليبلل السنتهم؟! هل مازالت تتفاخر بمعرفتك بالله؟) (5).

وكذلك فيلو الاسكندري Philo كان على استعداد القول بوجود تشابه بين الاسطورة الاغريقية وبين التوراتية كالتالي:-

(أولئك الساخطين على الدستور الذي كانت ابائنا تعيش تحت ظلاله، كانوا دوماَ على استعداد لإلقاء اللوم ولعن القوانين، ولكونهم اشرار، استخدموا مثل تلك الجمل لتبرير شرهم قائلين: "هل انتم دوماَ تـتبجحون بتعاليمكم، كما لو كانت تحمل قواعد الحقيقة ذاتها؟ فالكتب التي تسمونها مقدسة تحتوى كذلك على خرافات /اساطير، التي اعتدتم على الضحك عليها عندما كنتم تسمعون احدهم يحكي مثل تلك الخرافات، لكن ما فائدة تكريس أوقاتنا لجمع تلك الخرافات المتفرقة في اماكن عديدة من التاريخ بخصوص الشريعة، كما لو كان لدينا اوقات فراغ للنظر في كل تلك الافتراءات، وكأنه ليس من الافضل الاكتفاء بما هو بين أيدينا وامامنا، الا انه بكل تأكيد تُشبه اسطورة الألويادي الذي حكي عنهم هوميروس الذي هو اعظم وأجل الشعراء الذين كانوا يُريدون ردم أعلى ثلاث جبال فوق بعضها البعض لبناء كتلة واحدة لعمل طريقاَ لتسلق السماء) (6).

كما رأي فيلو الاسكندري أنه من المعصية القول بأن الله ينزل ويجئ للأرض قائلاً:

(أما عبارة "فنزل الله ليري المدينة و البرج"، يجب ان تفهم بالمعنى المجازي....فكل الاوضاع والحركات هي للحيوانات، فالتفكر في إن الإله عرضه للتحرك الفعلي ...هو معصية يستحق قائلها النفي الى ما وراء البحار والعالم) (7).

إلا انه لم يكن كل القدماء على اتفاق بأن بناة برج بابل هم ابناء ألويس، فمثلاَ نقرأ في القطع المتبقية من إيبوليموس الأبوكريفية Ps. Eupolemus والتي نقلها يوسابيوس عن لوسيوس كورنيليوس الكسندر بوليهستور Lucius Cornelius Alexander Polyhistor أن بناة البرج كانوا هم العمالقة وأن احداَ منهم كان يُدعى بيلوس Belus، كالتالي:-

(يقول الكسندر بوليهستر Alexander Polyhistor وهو رجل يتمتع بذكاء عظيم ومعرفة غزيرة، ومعروف بشدة عند الاغريق الذين جمعوا ثمار المعرفة بطرق غير سطحية وفي عمله الخاص باليهود ...يقول "قام إيبوليموس Eupolemus في كتابه الخاص بيهود آشور أن مدينة بابل تأسست أولاَ على يد الذين نجوا من الطوفان وانهم كانوا عمالقة وأقاموا هناك البرج المعروف تاريخياَ ولكن عندما سقط هذا البرج على يد الله تفرق العمالقة في كل الارض...ويقول البابليين ان اول رجل كان هو بيلوس Belus الذي هو كرونوس Kronos ..) (8).

(إلا إننا نجد في بعض الاعمال المجهولة أن أصول ابراهيم ترجع للعمالقة، وانهم اقاموا بالمنطقة البابلية Babylonia إلا انه بسبب معصيتهم اهلكتهم الآلهة إلا ان واحد منهم يُدعي بيلوس Belus هرب من الموت و اقام ببابل Babylon، وعاش في برج اقامه هناك والذي كان يُدعى بيلوس نسبة لمن بناه) (9).

أما بالنسبة لرؤيتي الخاصة عن أسطورة (برج بابل) فيجب أن تعلم أولاً أن الألسنة هي بمثابة (نار) وهو ما يشهد له التقليد اليهودي كما هو نجده في الإناجيل اليهودية/ المسيحية كالتالي:

(ولما حضر يوم الخمسين، كان الجميع معًا بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا) (أع 2: 1-4).

ففي الرواية الأولى أي الرواية التوراتية كان الجميع ذات لسان واحد إلى قام الإله بتفريق البشر، في حين في الرواية الثانية أي الرواية الإنجيلة كان الجميع ذات نفس واحد وذات لسان واحد كذلك وحلت عليهم الألسنة كأنها ألسنة مِن نار، وعلى هذا فإنه كان يتم تشبيه اللسان كأنما لو كان لسان من نار أي كإنما لو كان جَمر مِن نار تتجمع في مكان واحد كالمَجمرة والمبخرة ليشع نورها بداخلها.

ومن المعلوم أن الملوك العظام كانوا يبنون مُدن لتخليد إسمهم وذِكراهم، إلا إن تلك المُدن لم تَعد موجودة وبالتالي إسمهم لم يعد يُذكر، كما كان نتيجة لعدم إتحاد الملوك مع بعضهم البعض هو سرعة إزلة مَمالكهم، وكان سبب في بُعد مَمالكهم عن بعضها البعض هو تفرقة اليم (دجلة والفرات) كذلك بين ممالكهم، فالقصة تُصور لنا إنه في البداية كانت توجد مَملكة واحدة ذات إسم خالد، ثم فتق الله بِمياهه أرض (شنعار/ الأسد) مثلما فتق شمشون فم الأسد بيده، فتفرق نورهم وبَردت نارهم وتفرقت ممالكهم، لهذا دُعيت بإسم (بابل) كقوله (لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا «بَابِلَ» لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بَلْبَلَ لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ، وَمِنْ هُنَاكَ بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ) (تك 11: 9)، تلك المدينة التي هي في الأصل تُنطق (ببل בבל) مِن (بَلَّ و بَلَّلَ בלל) أي (رطبه بالماء أو الندي بأي سائل) (10) وهو ما يُركز عليه النص بقوله (لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُهَا بَابِل/ ببل لأَنَّ الرَّبَّ هُنَاكَ بلل בלל لِسَانَ كُلِّ الأَرْضِ) (تك 11: 9).


المراجع والحواشي:
============
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 21.
(2) فيلو، على بلبلة الالسنة De confusione linguarum، الجزء IV، المقطع 9-13.
(3) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 21.
(4) Homer, Odyssey, Book 11, 305, by A. T. Murray, p.409.
(5) يوليان ، ضد أهل الجليل Against the Galileans، الكتاب الاول، المقطع 347 – 351.
(6) فيلو، على بلبلة الالسنة De confusione linguarum، الجزء II، المقطع 2-4.
(7) فيلو، على بلبلة الالسنة De confusione linguarum، الجزء XXVII ، المقطع 134.
(8) يوسابيوس القيصري، الإعداد للإنجيل Praeparatio Evangelica الكتاب التاسع، الفصل 17.
(9) يوسابيوس القيصري، الإعداد للإنجيل Praeparatio Evangelica، الكتاب التاسع، الفصل 18.
(10) ففي العِبريّةِ نرى أن الفِعلُ בָּלַל (بالَل) bālal بِمَعنى "ندَّى بالماءِ ونَحوِهِ/ لَتَّ بالزيتِ"، وهُوَ يُوافِقُ الفِعلَ العَربيَّ (بَللَ) مَبْنًى ومَعْنًى؛ ومِنْ مَجيئِهِ بِمَعنَى (لَتَّ) ما وَرَدَ في سِفرِ الخُروجِ: "מַצּת בְּלוּלֺת בַּשֶּׁמֶן"؛ أي (وَخُبْزَ فَطِيرٍ، وَأَقْرَاصَ فَطِيرٍ مَلْتُوتَةً بِزَيْتٍ" (سفر الخروج 29: 2) (שמ כט,ב).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي