الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة - الزمكان في اليابان

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 4 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٧٣ - فلسفة الفراغ

وفي الواقع أن معنى مقولة الـ"ما" اليابانية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسياق الجملة التي يوضع فيها الكانجي 間. على سبيل المثال، بالنسبة للموسيقي، يشير هذا المبدأ إلى الزمان أو المكان الزمني الذي يفصل أو يربط بين صوت وآخر، بينما بالنسبة للمهندس المعماري، فهو يمثل المسافة بين الأشياء، بين الغرفة والخارج، بين الباب والنافذة، أو العلاقة بين الأجزاء المختلفة للبناء، وكل ما يتعلق بالفضاءات المعمارية. وفي هذه الحالة يمكن أن يعني مفهوم الما البعد الفضائي أو الفضاء ذاته. وكذلك إذا نظرنا إليه من زاوية الزمن، ففي هذه الحالة يمكن أن يعني MA أيضًا الوقت نفسه أو بُعد الزمن، وكذلك الفاصل الزمني بين لحظتين، وهو تقسيم زمني مرتبط بإيقاع الموسيقى. وبالتالي يرتبط مفهوم MA ارتباطًا وثيقًا بمفهوم المكان والزمان كمفهوم واحد يمكن تسميته بـ "الزمكان"، أي تصور الفراغ أو المكان ككيان محسوس ومتغير وغير ثابت. إن هذا التنوع في المعاني المضمنة في تعبير موجز واحد هو الذي يجعل MA مفهومًا فريدًا من نوعه ويصعب ترجمته أو شرحه لغير أصحاب الثقافة اليابانية، لا مثيل له إذا قارناه باللغات الأخرى المستخدمة في جميع أنحاء العالم. بالتعمق في المفهوم في مجال الهندسة المعمارية، نحن نعرف أن تصور الفضاء يختلف باختلاف الثقافات وبإختلاف الأفراد داخل نفس المجتمع، حيث أن مفهوم الفضاء والزمان "تجارب" شخصية يعيشها الفرد بعقله وخياله وجسده، وبالتالي يستحضر الإنسان الخيال والرمزية على ضوء معنى التغيير والإيقاع والحركة، ولكل فرد علاقته الخاصة بأماكن معينة وبلحظات معينة.
مفهوم الما MA، الذي تم تحليله يتوافق مع تصور الفضاء والزمن ويشير إلى المسافة الطبيعية بين شيئين موجودين ضمن استمرارية أو الفاصل الزمني بين ظاهرتين أو أكثر تحدثان على التوالي. لقد سمحت العلاقة بين المكان والزمان، التي تم تقييمها ضمن منظور واحد، بتطور مفهوم متعدد الأبعاد للهندسة المعمارية بعيدًا عن المفهوم ثلاثي الأبعاد الذي يميز الثقافة الغربية. يربط MA البعد الزمني بالأبعاد الهندسية الثلاثة، وبالتالي فإن الإدراك نفسه يصبح بدوره متعدد الأبعاد. يُنظر إلى "الغرفة" أو الحجرة على سبيل المثال في الثقافة الغربية على أنها صندوق شبيه بالمكعب، محاط بأسطح داخلية تحدد المساحة التي يتحرك فيها الفرد. في الثقافة اليابانية، ترتبط ازدواجية المكان/الزمان بثنائية الكائن/المكان، بإعتبار الإرتباط الأنطولوجي بين الإنسان والزمان كبعد أساسي للوجود الإنساني وهو ما يسمى بالدازاين في الفينومينولوجيا. ولذلك فإن مفهوم المكان باعتباره فارغًا يتم إدراكه وتجربته مرتبطا بالزمان في كل مرة من قِبل الفرد الذي يعيش هذه التجربة. لا يتم إنشاء وتكوين الـ MA بواسطة الأسطح أو الجدران أو الحواجز التي تحد الفضاء، أي بواسطة العناصر المكونة له، ولكنه ينشأ من "إدراك" من يعيشه ويختبره وجوديا في لحظة زمنية معينة. بهذا المعنى يمثل MA "مكانًا تجريبيًا". وهذا المعنى مهم لفهم قيمة الفضاء المبني وعلاقته بالزمنية. في الواقع، يبدو أنه في الثقافة اليابانية، لم تكن هناك أبدًا فكرة عن الفضاء ككيان مادي واحد.
الما هو تعبير شائع في في اللغات المعمارية، يستخدم عمومًا لتحديد الترتيب الوظيفي الداخلي للمنزل، والذي يرتبط به البحث عن الانسجام والمفهوم الأساسي للفكر والجماليات اليابانية وبشكل عام فيما يسمى بالثقافات الشرقية. لا يتم تحديد ترتيب المساحات من خلال متطلبات وظيفية فقط أو لتلبية عوامل "جمالية" بحتة؛ كما أنه يسعى إلى تحقيق غايات لا يمكن تفسيرها بسهولة بهذه المصطلحات الوظيفية. فهذه، على سبيل المثال، مساحات مخصصة للتفكير والتأمل والصمت، مثل الشرفة الأرضية أو الكوة، وأخرى مخصصة للقاء الجماعيوأخرى للأكل أو السهر.. إلخ. البناء الهندسي وتقسيم الفراعات ليس عرضيًا، بل تمليه الحاجة إلى تحقيق انسجام الكل الذي ليس هندسيًا فحسب: إنه أيضًا انسجام الوجود وإندماج الجسد في الفضاء الذي يحتويه ووعيه به، الفضاء أو المكان الخاص بكل فرد لكي يعيش ويدرك "الفراغ" الذي يجد نفسه فيه. هذه الحاجة إلى إدراك العلاقة الحميمية الخاصة بالفرد تتعزز أيضًا من خلال شخصية الإنسان وإرادته وبرنامجه الوجودي. في المنزل الياباني، في الواقع، يمثل MA المساحة الروحية حيث يمكن للفرد أن يريح عقله، ويظل منعزلاً عن العالم وفي انسجام تام مع ما هو موجود وما هو غير موجود، بين ما هو مرئي وما هو غير مرئي. لا يتم تحديد المساحة في المنزل الياباني بالجدران والفواصل الصلبة، ولكن فقط بالأعمدة أو العوارض التي تحدد شكله. ترتبط المساحات الداخلية إرتباطا حيويا بالخارج عن طريق الشرفات أو الفتحات أو الممرات المفتوحة لخلق اندماج بين الخارج والداخل، وتشكيل سلسلة متصلة مكانية نموذجية للمكان المخصص لبعض الأنشطة والطقوس الخاصة مثل طقس الشاي على سبيل المثال. إن الاستمرارية بين الفضاء العام والفضاء الخاص، بين الداخل والخارج، بين المحاط والمفتوح، الذي لا يلجأ ولا يهتم بالوظيفة وحدها، قد فتحت آفاقا جديدة للتجريب المعماري والفني، بحيث جعل وعي MA العمل المعماري أكثر مرونة وأكثر انفتاحًا لتلقي التأثيرات من ثقافات اخرى. ففي العمارة اليابانية، يلعب الفراغ الداخلي دورًا أساسيًا في علاقته بالطبيعة، وقبل كل شيء يمثل مكانًا للتأمل كما سبق القول. كل هذه المفاهيم هي أساس التبادلات الثقافية التي، على الرغم من الصعوبات الكبيرة، بدأت تظهر في المجال المعماري، حتى في الغرب، في السنوات الأولى من القرن العشرين. حيث بدأ العديد من المهندسين البحث عن تصاميم مشاريع جديدة قادرة على الحوار بشكل متناغم مع النماذج الثقافية الشرقية، وإعادة النظر في مفهوم الشكل المرئي la forme visible الذي لا يُعترف به دائمًا كحقيقة، بل يُنظر إليه على أنه الصورة التي تتشكل في ذهن كل شخص. وللسبب نفسه، لم يعد البعد الحضري la dimension urbaine أيضًا يظهر ككيان مادي، بل يُفهم على أنه "مكان تجريبي" حيث يصبح الفراغ الحضري للمدينة نفسه عبارة عن توليفة أو بناء جمالي داخلي تشكله مجموعة من الرموز. الثقافة الغربية تصور المدينة على أنها سلسلة من العناصر التي لها وظيفة محددة وترتيبها في الفضاء يحدد شكل المدينة كواقع معماري يتجسد في جانبه الخارجي. بالرجوع إلى الثقافة الشرقية، ليس من الصعب التحقق من الكيفية التي يقود بها مفهوم الـ"ما" وتأثيره على تقييم المراقب لإدراك السياقات الحضرية وتحولاتها كعناصر "فارغة" تتجاوز "المرئي - visible". هذا المفهوم الياباني MA، الذي يهيمن في الحقيقة على أغلب عناصر الثقافة البوذية، يقود الإنسان إلى الارتباط المستمر بالطبيعة في صيرورتها الدائمة والتي تعتمد عليها علاقة الإنسان بالفراغ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا تلوح بإرسال قوات إلى أوكرانيا دفاعا عن أمن أوروبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يعقد اجتماعا بشأن عملية رفح وصفقة التب




.. بايدن منتقدا الاحتجاجات الجامعية: -تدمير الممتلكات ليس احتجا


.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تغلق شارعا رئيسيا قرب و




.. أبرز ما تناولة الإعلام الإسرائيلي بشأن تداعيات الحرب على قطا