الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء العشرين) –لوط وبناته وأصل اسطورة لوط وبناته–

ابرام لويس حنا

2024 / 4 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


اعترض سيلسوس على القصة الواردة في التوراة بخصوص لوط و بنـاته، وقد ظّن أوريجانوس أن سيلسوس لعله كان سيكون مُصيباً لو كان يرفض القصص الفاضحة بكونها خيال، إن كان حقاً قبل القصص الأخرى البارة، لكنه هاجم كل الروايات الكتابية، رافضًا إياها، كالتالي:-

(بالرغم إن سيلسوس كان يمكن له أن يحترم ويقبل أمانة مؤلفي الاسفار الإلهية الذين لم يخفوا الاحداث المخزية ويقبل القصص الاستثنائية بكونها روايات حقيقية لكنه فعل العكس، كقصة لوط و بناته بدون رؤية المعني المجازي من وراءها او حتى المعنى الحرفي، قائلاَ انها أكثر شراَ من اثم ثيستيس Thyestes، لكن لا توجد حاجة في الوقت الحالي لمناقشة المعني المجازي للعبارة او شرح ماذا تعنيه سدوم او ماذا كان يعـنيه الملائكة حينما قالوا اليه ان يهرب من هذا المكان ، قائلين: "لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ، وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدَّائِرَةِ. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلاَّ تَهْلِكَ"، او شرح ماذا كان يقصد عندما جعلت بنـات لوط اباهم يسكر لكي يصبحن أمهات بعد ان اصبحت زوجته عمود ملح بعد ان استدارت للخلف) (1).

وهنا نرى أوريجانوس إستشهد بقصة ثيستيس الذي ولد مِن ابنته، والتي يُمكن ذكرها بإختصار كالتالي:

(كان هناك صراع بين (أتريوس Atreus وثيستيس / ثايستيس / ثويستيس Thyestes) وبين أخيهما (خريسيبوس Chrysippus)، حيث إتفقت معهم أمهما (هيبوداميا Hippodamia) على قتل أخيهما (خريسيبوس Chrysippus)، وبعد موته هربا الأخين خوفا من بطش أبيها (بيلويس Pelops)؛ ثم تتابعت الجرائم في منزل (تانتالوس Tantalus) والد بيلوبس (أي منزل الجد)؛ فأغوى ثيستيس (أيروبي (Aerope زوجة أخيه أتريوس ثم ضاجعها وتحايل عليها حتى عرف منها مكان فروة الحمل الذهبي الذي كان هدية من الإله هرمس Hermes لأتريوس؛ وسرقها بعد أن أقنعها بأنها تعود له وملكه وأن أخاه أتريوس هو مَن سرقها منه، وبعد أن سرقها، تصارع الشقيقان، إلا أن ثيستيس استطاع أن يستولى على الحكم؛ ولكن أتريوس لم يهدأ له بال وكذلك الآلهة لأنها لم تكن تريد أن يتوقف الصراع عند هذا الحد، و بمساعدة زيوس استولى أتريوس على الحكم وقام بنفي شقيقه؛ ولكن ثيستيس بدوره لم يهدأ له بال في منفاه لأنه كان يود الانتقام من أخيه؛ فدعا (بليثينيس Pleisthenes Πλεισθένης) ابن أخوه أتريوس والذي رباه كما لو كان ابنه وحرضه على قتل أبيه أتريوس بعد ان نفاهم من أرجوس، فذهب بليثينيس إلى أبيه إلا إن أتريوس ذبحه (2) معتقداَ إنه ابن اخيه غير مُدركاَ أنه قتل ابنه) (3) وبهذا أخذ ثيستيس ثأره من أتريوس الذي قتل أبناءه، فبعدما علم أتريوس بالعلاقة الغير شرعية لأخوه مع زوجته، قرر الانتقام منه؛ فأرسل له رسولًا في المنفى يقنعه بالعودة، واعداً إياه بأن يمنحه نصف المملكة ففرح ثيستيس وقرر العودة؛ ولكن أتريوس كان يخطط لشيء جلل، قابضاً على أبناء أخيه الثلاثة ذابحاً إياهم جميعا وقطع أطرافهم وفصلها عن اللحم، وضع اللحم في ماء مغلي ليعد وجبة لأخيه، وأكل ثيستيس لحم أبنائه ثم كشف له أخوه عن محتوى الوليمة؛ فصب اللعنات على نسل أخيه أتريوس:-

(الجد أتريوس رب الثأر
أخوه ثيستيس ذو الزنار
اغوى الى فراشه اللعين
زوجته الجميلة الخنون (الخائنة)
و أتريوس صمم انتقاما
مروعا محرما حراما
دعا الأخ الشقي لوليمة
وجهز الصحاف للجريمة
أجهز خلسة على أطفاله
ليطعم البائس من عياله
ثم شوى الأطفال كالخراف
قدمهم للأب في الصحاف ‎٠‏
‏و حين أكل الأب الملعون
لحم بنيه لاثه الجنون
وحلت اللعنة في أرجوس
و لوثت أسرة أتريوس ‎
أطفال ثيستيس الشقي صاحوا
أمام عيني أعولوا و نوحوا

لك السلام يا ضياء الشمس
جئت الينا اليوم بالقصاص
الآن أستطيع ان انادى
جماعة الارباب في علاها

مجرية العقاب في الانسان
تبصر من سمائها العزيزة
أثام هذه الارض غير راضية
لكنها تبصر في رضا
جثمان هذا الرجل المجندل..

قد جرت دماؤه وفاء
لما جنت يدا أباه الفاسق
أبوه أتريوس كان حاكما
على بلادنا بالاغتصاب
أراد الاستنثار بالسلطان
نفى ابى ثايستيس العظيم
وهو اخوه وشريك عرشه

و ثايستيس التعيس الشقي
عاد الى بلاده مسترحما
لكى يموت في ثرى أرجوس
فلا يجر اللعنة القديمة
لو مات في المنفى فعلى رءوسكم

تظاهر السفاح أتريوس
ابو أجاممنون بالسعادة
لما رأى أبي قد عاد ضارعا
و أولم الوليمة الفظيعة
واطعم الوالد ببنيه
فقطع الاوصال في عناية
بحيث لا يميز الشقي
ان كان ما يأكل لحم بشر
أم لحم شاة شويت في النار
وأكل الوالد لحم ولده
فلوث الاسرة و الأصلابا
لكنه بعد قليل أدرك ...
الهول في الجريمة المروعة
فأطلق الصرخة كالمجنون
وارتد في الخوان يتقيأ
دماَ، وصب لعنة مُجلجلة
على رءوس نسل أتريوس
وكل صلب جده بيلويس

من أجل هذى اللعنة القديمة
هوى أجاممنون منذ ساعة
أمامكم مجندلا صريعا
يدفع دين آلهة القديم

أنا الذى بالعدل قد ديرت
مصرعه لأنه نفاني
مع والدى من وطني الحبيب
وكنت لاأزال في القماط
أنا الثالث عشر من أطفاله
وبعد أن كبرت عدت ثانيا
لبلدي أدبر انتقامي

ها هي ذي يدى أداة العدل
قد بلغته رغم بعد المشقة
أنا الذى من خارج المدينة
حكت خيوط الفتنة الحزينة
و فرحتي بالثأر والجزاء
و شرفي المغسول بالدماء

لو مت، لتمت ماجدا مجيدا
حرا، قرير العين وسعيدا) (4)

وبعد ذلك ذهب ثيستيس إلى معبد أبوللون ليسأله عما يفعل فنصحه الإله أن يتزوج من (بيلوبيا Pelopia) ابنته؛ وسوف ينتقم الولد الذي سيولد من هذه العلاقة من أتريوس، فذهب إلى بيلوبيا واغتصبها في الغابة فحملت وهي لا تعلم أن الذي اعتدى عليها هو أبوها، التي كان تعتقد إنها إبنة الملك ثسبروتوس Thesprotus ملك سيكيون Sicyon.

وبعد ذلك تقابل أتريوس مع الملك ثسبروتوس وتزوج من بيلوبيا ابنة أخيه ثيستيس، وكانت بيلوبيا في ذلك الوقت حاملا من أبيها ثيستيس، وبعدما وضعته ألقت به في العراء لتتخلص منه لأنه ولد من الزنا فوجده أحد الرعاة وقام بتربيته وأرضعته العنزات وكان هذا الطفل هو أيجيسثوس Augustus الذي يعنى اسمه "قوة العنزة"، ولكن أتريوس لم يقبل أن يُلقى ابن زوجته فبحث عنه حتى وجده ورباه وكأنه ابنه، وعندما كبر أجاممنون ومينيلاوس Menelaus إبني أتريوس أرسلها أبوهما للبحث عن عمهما ثيستيس، فوجداه في دلفي وأعاداه معهما، فأمر أتريوس بسجنه وأرسل أيجيسثوس ليقتله، وحينما دخل أيجيسثوس على أبيه الحقيقي ثيستيس ليقتله؛ رأي ثيستيس السيف في يديه وهذا السيف الذي نسيه ثيستيس مع بيلوبيا وهو يغتصبها فعلم انه ابنه وأخبره بالحقيقة، وطلب منه أن يحضر أمه بيلوبيا فأتى بها وحينها علمت حقيقة الأمر قتلت نفسها بنفس السيف فأعطى ثيستيس السيف لابنه وهو يقطر دمّا؛ وطلب منه أن يذهب به إل عمه أتريوس ويقتله، ويقول له إن الدماء التي بالسيف إنما هي دماء ثيستيس، وفعل أيجيسثوس ما طلبه منه والده وقتل عمه أتريوس بنفس السيف، وهكذا مات أتريوس بالخديعة كما عاش بالخديعة، لذا أنشد ثيستيس قائلاً:

(كل هؤلاء سأهزمهم بجرائمي انا ثيستيس، غير أن أخي سيهزمني إذ دُفنت ممتلئاَ بأولادي الثلاثة أكلا لحمي نفسه، فلم يُدنسي القدر بهذا فقط بل جعلني مُتجاسراً على جريمة أعظم من تلك إلى عناق إبنتي المحرم... حتى يمتد سلطاني على كل ذريتي، جابراً ابنتي على أن تلد لي أبن جديراً بأن يسميني أباً....غير أن وعد النبوءة الغامضة تم لي في النهاية رغم مجيئه متأخرا وبعد مماتي...) (5)


كما قام أوريجانوس بالرد على سيلسوس معتمداَ على الافكار الرواقية كالتالي:-

(ومع ذلك دعونا باختصار نخفف من وطأة سمات القصة المُخزية، من خلال اليونانيين الذين شرحوا طبيعة الافعال سواء كانت افعال خير او شر او حيادية / غير مؤثرة / غير فارقة، قائلين إن الدافع وحده هو الذي يُحدد ماذا الفعل خَيّر ام شر، في حين الافعال التي تم القيام بها/ ارتكابها هي افعال غير فارقة/ حيادية، فعندما تكون الافعال خيرة يُمدح الدافع/الحافز، في حين إن كانت الافعال غير ذلك فيستحق الدافع/الحافز الملامة، اما فيما يتعلق بالأشياء اللافارقة (الافعال الحيادية)، فهي كالأمثلة اللافارقة اللاخلاقية مِن قيام المرء بإتمام العلاقة الجنسية مع بناته، الا انه غير مسموح بفعل هذا الشيء في المجتمع المُتحضر، فإن تُرك رجلاَ حكيماَ مع بناته بمفردهم مع هلاك باقي البشرية، يصبح متوافقاَ مع القانون الاخلاقي بأن يقوم الاب بإتمام العلاقة الجنسية مع بناته ليتجنب هلاك الجنس البشري ، كما في مثالنا هنا) (6).

حيث قسم الرواقيون القيم لثلاثة : خير و شر و قيم غير فارقة، الغير فارقة هي التي ليست بشر او بخير، وهذه بدورها تنقسم الى ثلاثة انواع مُفضلة و غير مُحبذة أو مرفوضة وغير فارقة تماما وهي التي لا تتوافق مع طبيعتنا وليست في الوقت مناقضة لـطبيـعتنا اي ليست مُحبذة أو مرفوضة (7).

وهنا يجب على أن أشير إلى أصول الإسطورة، فكما عرفنا إن اليهود يُشبهون أنفسهم بالنجوم مثل قوله (وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكَ جَمِيعَ هذِهِ الْبِلاَدِ، وَتَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ) (تك 26: 4)، (اَلرَّبُّ إِلهُكُمْ قَدْ كَثَّرَكُمْ، وَهُوَذَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ) (تث 1: 10)، وعلى هذا فإن أسرة (إبراهيم) يجب أن تكن مِثل النجم، ولكن قد يسقط أحدهم في الظُلمة (والظلمة توشحه وتطليه) بالظلمة من كل جانب، وهو ما يُشار له بإسم (لوط) وهو مِن الإسم المصري القديم (rwd) أي (يسود على) (8) فاللون الأسود يسود ويعظم على ذات السماء و على نور النجوم، ومنه (اللِّيطَةُ : قشرةُ القصبةِ والقَوسِ والقناةِ وكلِّ شيءٍ له متانة) (9) و (ولطّ عنه الخبرَ وعليه: كَتمَه وأَظهر غيرَه) (10) و (ولَطَّ على الشي وأَلَطَّ: ستَر، والاسم اللَّطَطُ، ولَطَطْتُ الشيءَ أَلُطّه: سترتُ وأَخْفيته)، (وأَنشد أَبو عبي للأَعشى: ولَقَدْ ساءها البَياضُ فَلَطَّت بِحِجابٍ مِنْ بَيْنِنا، فكل شيء سترته قد لَطَطْتَه) (11)، ومن المعروف أن النجم يهرب وينخفض من نور الشمس، لذا فهو (يحتمي في الأسفل) أو (يهبط للداخل) لذا إحتمي في (المُنخفضة) كقوله: (هُوَذَا عَبْدُكَ قَدْ وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ، وَعَظَّمْتَ لُطْفَكَ الَّذِي صَنَعْتَ إِلَيَّ بِاسْتِبْقَاءِ نَفْسِي، وَأَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَهْرُبَ إِلَى الْجَبَلِ لَعَلَّ الشَّرَّ يُدْرِكُنِي فَأَمُوتَ، هُوَذَا الْمَدِينَةُ هذِهِ قَرِيبَةٌ קְרֹבָ֛ה لِلْهَرَبِ إِلَيْهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ מִצְעָ֑ר، أَهْرُبُ إِلَى هُنَاكَ، أَلَيْسَتْ هِيَ صَغِيرَةً מצער؟ فَتَحْيَا نَفْسِي، فَقَالَ لَهُ: «إِنِّي قَدْ رَفَعْتُ وَجْهَكَ فِي هذَا الأَمْرِ أَيْضًا، أَنْ لاَ أَقْلِبَ الْمَدِينَةَ الَّتِي تَكَلَّمْتَ عَنْهَا، أَسْرِعِ اهْرُبْ إِلَى هُنَاكَ لأَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئًا حَتَّى تَجِيءَ إِلَى هُنَاكَ، لِذلِكَ دُعِيَ اسْمُ الْمَدِينَةِ «صُوغَرَ צוער») (تك 19: 19 -22) (12).

فالله أرسل الله نوره (الملاكان) ليهدي من أضل ومن غشاه الظلمة، كإنما لو أرسل له (نورين: القمر ونجم الزهرة) ليتهدي بنورها، ويخرج من ظُلمته إلى النور ويحتمي في ثغر الله وسعيره (צֹֽעַר) ويتواضع تحت نور الإله، ولذا تُركز الرواية على توقيت ذهاب الملاكان للوط (فَجَاءَ الْمَلاَكَانِ إِلَى سَدُومَ مَسَاءً، وَكَانَ لُوطٌ جَالِسًا فِي بَابِ سَدُومَ. فَلَمَّا رَآهُمَا لُوطٌ قَامَ لاسْتِقْبَالِهِمَا، وَسَجَدَ بِوَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ) (تك 19: 1)، مع تشبية لوط بالنجم الواقف على باب السماء.

فملامح أسطورية القصة ورمزيتها موثوقة، لإنه مِن المفترض أن الحريق لا يصل مداه إلى الجبل وهو ما نصح إياه الملاكان به لوط قائلين : (وَكَانَ لَمَّا أَخْرَجَاهُمْ إِلَى خَارِجٍ أَنَّهُ قَالَ: «اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ. لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ، وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدَّائِرَةِ. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلاَّ تَهْلِكَ») (تك 19: 17)، في حين القرية كانت قريبة وصغيرة ومن المفترض أن تلحق بها لو كانت النيران بالفعل حرفية كقوله (هُوَذَا الْمَدِينَةُ هذِهِ قَرِيبَةٌ لِلْهَرَبِ إِلَيْهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ. أَهْرُبُ إِلَى هُنَاكَ، أَلَيْسَتْ هِيَ صَغِيرَةً؟ فَتَحْيَا نَفْسِي») (تك 19: 20)، فلو كانت بعيدة لكنا قد قُلنا إن لوط على حق، لكنه أختار قرية صغيرة وقريبة من النيران، لكن من الواضح أن القصة ذات معنى رمزي (أسطوري)، إذ لوط هرب إلى المُنخفضة (القرية الصغيرة القريبة) لانه كالنجم من المفترض أن ينزل ويسقط في مسكنه الصغير القريب منه، كما إن الرواية تُدلل على إننا (كالنجوم) يجب علينا السجود والإنخفاض لنور الإله، كما يجب علينا الإرتفاع والصعود على جبل الإله من بعد الخروج من الظلمة، بالإخص إستحالة (الجسد) إلى (عمود/ نصب ملح) هو أمر غير ممكن، وهو أمر أسطوري رمزي، فزوجة وقريبنة النجوم هي الظلمة، تلك الظلمة التي شخصت بصورة (زوجة لوط) التي تمسكت بظلامها قوله (وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ) (تك 19: 26)، ومِن ثم طهرت النيران والنور الظُلمة لتستحيل الظلمة إلى ملح، فكأن الظلمة عندما حل عليها النور أصبحت ذاتاً طاهرة كالملح الذي يحمل قوة النور في التطهير لذا كان يٌستخدم ومازال يُستخدم في تطهير الجروح.

لهذا كان ركزت الرواية على خروج (لوط/ النجم) قبل شروق الشمس لكي لا يحترق (وَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ كَانَ الْمَلاَكَانِ يُعَجِّلاَنِ لُوطًا قَائِلَيْنِ: «قُمْ خُذِ امْرَأَتَكَ وَابْنَتَيْكَ الْمَوْجُودَتَيْنِ لِئَلاَّ تَهْلِكَ بِإِثْمِ الْمَدِينَةِ») (تك 19: 15)، (وَإِذْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ عَلَى الأَرْضِ دَخَلَ لُوطٌ إِلَى صُوغَرَ، فَأَمْطَرَ الرَّبُّ عَلَى سَدُومَ وَعَمُورَةَ كِبْرِيتًا وَنَارًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ مِنَ السَّمَاءِ) (تك 19: 23- 24)، مع مُلاحظة أن إسم المدينة (سدوم סדם) وهو إسم إله (سماء الليل في مصر القديمة سد/ ست) ومنه أشتق (ساد، سود، أسود)، أما إسم (عمورة עֲמֹרָ֖ה) فهو مِن (עֹ֖מֶר) (13) أي (الحزمة)، فالنيران تشتعل في (كل في ما هو مُظلم) وفي (الحصاد كالشعير والحِزم)، أو من (غَمر) (14)، وإن كان هذا رأي مُحتمل قوي فمثلما تُنطق (العين) في (صعر צוער) (غين) كالتالي (صُوغَرَ) هكذا من المحتمل أن تُنطق كذلك (العين) في (عمرة עמרה) (غين) كالتالي (غمرة) أي (المغمورة بالظلمة والمياة) فالسماء قديماً (ظلمة وماء).

ولان لوط (كالنجم) فهو يلزم أن يخرج من مخدعه أو من مِنخفضه ليعلو مرة أخرى ويرتفع وهو ما عبرت عنه الرواية كالتالي (وَحَدَثَ لَمَّا أَخْرَبَ اللهُ مُدُنَ الدَّائِرَةِ أَنَّ اللهَ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَرْسَلَ لُوطًا مِنْ وَسَطِ الانْقِلاَبِ. حِينَ قَلَبَ الْمُدُنَ الَّتِي سَكَنَ فِيهَا لُوطٌ، وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ، وَابْنَتَاهُ مَعَهُ، لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ، فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ) (تك 19: 29- 30)، فصعد (النجم) للأعلى على جبل الله مع (إبنـتاه) (الظلام)، تلك الظُلمة التي مَدت يداها وسقت نورها (أباها) مِن سوداها (خمرها) ليسقط في ظِلامها وينجب مِنها وهو ما عبرت عنه الرواية بقولها (وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلًا». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أَيْضًا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلًا». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا، فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا) (تك 19: 21- 36).

فكانت بنـتاه عوضاً عن زوجته التي كانت كذلك (كالظلمة)، لذا فإن أولاد لوط من بناته هي أسماء تحمل معنى أسطوري وهما (النور والظلمة) كالتالي: (فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوآبَ מוֹאָ֑ב»، وَهُوَ أَبُو الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ، وَالصَّغِيرَةُ أَيْضًا وَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ عَمِّي בֶּן־עַמִּ֑י»، وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ) (تك 19: 37- 38)، فمؤاب (מוֹאָ֑ב) يعني (الذي من الأب) مِن (من מו + أب אב) للإشارة إلى أنهم من نور أبيهم أو من خطية (زواج غير شرعي) من (من الأب وبناته) وهكذا (العمونيين نسبة لـ בֶּן־עַמִּ֑י إبن العمي) أي (الظلمة والخطية وظُلمة لوط وعماه) لذا شددت الرواية على قوله (وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا) (تك 19: 33، 35)، وكان كِلاهما قدحاً في (المؤآبيين والعمونيين).

وعلى هذا فبالرغم إن القصة أسطورية لكنها كذلك إستخدمت للقدح في نسب المؤابيين والعمونيين بإنهم من أبناء زنى مثل قصة زني ثيستيس مع بنته.


المراجع والحواشي:
===============
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 45.
(2) لعل بليثينيس ساق أباه أتريوس الخمر لكي يستطيع قتله.
(3) غايوس جوليوس إيجينوس Gaius Julius Hyginus ، الحكايات Fabulae ، المقطع 85، 88.
(4) إسخيلوس Aeschylus (525 ق.م - 456 ق.م)، أجاممنون Agamemnon، ترجمة : لويس عوض ، ص 118، 158- 160.
(5) سينيكا Seneca، أجاممنون Agamemnon ، ترجمة امين سلامة (1989 م) ،ص 376 – 377.
(6) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 45.
(7) http://people.wku.edu/jan.garrett/stoa/stovals.htm
(8) A Concise Dictionary of Middle Egyptain", Raymond O Faulkner, Page 148.
(9) معجم الرائد، الوسيط، اللِّيطَةُ.
(10) معجم الوسيط، لَطّ.
(11) لسان العرب، لطط.
(12) كقوله (وَإِنْ تَكُنْ أُولاَكَ صَغِيرَةً מצער فَآخِرَتُكَ تَكْثُرُ جِدًّا) (أيوب 8: 7).
(13) كقوله (ثُمَّ تَحْسُبُونَ لَكُمْ مِنْ غَدِ السَّبْتِ مِنْ يَوْمِ إِتْيَانِكُمْ بِحُزْمَةِ التَّرْدِيدِ עמר התנופה سَبْعَةَ أَسَابِيعَ تَكُونُ كَامِلَةً) (لاويين 23: 15).
(14) عمورة: اسم كنعاني معناه " غرق " بلدة في غور الأردن (تك 10: 19 و 13: 10) (قاموس الكتاب المقدس - مجمع الكنائس الشرقية - الصفحة ٦٤١).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي