الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كانغيليم: الفلسفة وخارجها (الجزء الاول)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 4 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تقديم:
يحيل العنوان أعلاه على الفصل الثاني من كتاب "تجربة المفهوم: ميشال فوكو بين الإبستيمولوجيا والتاريخ" لصاحبه لوقا بالترينيري. "تجربة المفهوم" هو الاسم الذي اطلقه الكاتب على "شكل" فكر ميشيل فوكو، بين نظرية الإبستيمولوجيا والتاريخ: شكل صندوق أدوات ذو صلة خاصة بالتحليل التاريخي لنشوء المفاهيم في المجال العملي، يرغب المؤلف في "جعل استخدامه ممكنا لنا اليوم". في ما يلي محاولة لترجمة هذا الفصل إلى العربية عبر حلقات.
إن نقطة البداية للبحث الذي يجب أن ينتقل من التاريخ الإبستيمولوجي لجورج كانغيلام إلى "أنطولوجيا ذواتنا" الفوكوية لا يمكن إلا أن تكون العلاقة بين الفلسفة وأوجه "خارجها" العديدة. سواء كان الأمر يتعلق بالطب أو العلوم البيولوجية، بالنسبة لكانغيلام، أو بالطب النفسي، يالأدب بالاقتصاد ولكن أيضا بالسجون والتمارين الروحية، بالنسبة لفوكو، كل شيء يحدث كما لو أن النشاط الفلسفي لم يعد من الممكن فهمه ببساطة من خلال تقليد يخترع نفسه ويعلن نفسه على أنه فلسفي "على نحو أصيل". لم يعد يجب على الفيلسوف، أو لم يعد يستطيع، أن يقرأ الفلاسفة الآخرين فقط: عليه أن ينغمس في الأرشيف وفي راهنية عمل لم تعد حداثته تعترف به على أنه "فلسفي".
هكذا، يرى كانغيلام أن «الفلسفة هي تفكير بالنسبة إليه كل مادة غريبة جيدة، ونقول عن طواعية، بالنسبة إليه كل مادة جيدة غريبة». هذه العبلرة ليست زائدة عن الحاجة، فهي تشير في الوقت نفسه إلى أن الفلسفة ليست تأملا، "خلف أبواب مغلقة"، جاز التعبير، لا تتغذى إلا على نفسها ومفاهيمها، بل إنها منفتحة بنيويا على الخارج، الذي يضع أمامها باستمرار سلسلة من المشاكل، الأسئلة، العقبات. إذا كان هناك تحول في الفلسفة، وإذا كانت هناك إعادة صياغة متواصلة لتساؤلاتها، فلا يحدث ذلك من خلال نوع من الرحلة المستقلة والتقدمية نحو الحقيقة التي تُطرح وتُكشف، بل بسبب انفتاحها البدائي على عالم الممارسات الإنسانية العلمية، السياسية، الجمالية التي تنتج المفاهيم في كل لحظة. إن الفلسفة المنفتحة حقا على الطابع التاريخي للممارسات النظرية لا تتجه نحو ما يشبه الحقيقة المطلقة، بل تبني نفسها من إنتاج الحقيقة الذي يحدث في جميع مجالات النشاط الإنساني. يمكننا أن نجد هنا مبدأ كل الإبستيمولوجيا التاريخية.
1- الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية
بيد أن انفتاح الفلسفة على ما هو خارج عنها يعني بشكل جدي مراعاة نوع معين من المفاهيم: تلك التي، وهي تظهر على شكل ملفوظات علمية، تحمل ادعاء الحقيقة. هذه هي المفاهيم التي تحدد أفق حداثتنا، أفق توجد فيه علاقة متجددة إلى حد ما بين "المعرفة" و"العلم" و"الحقيقة". خلال مقابلة مع آلان باديو، كان كانغيلام قد افترض في الواقع، بطريقة استفزازية إلى حد ما، التكافؤ بين جهات تكوين العبارات الحقيقية والخطاب العلمي، حيث أن العلم هو "المجال الوحيد الذي يمكننا فيه التحدث عن الحقيقة".
لا ينبغي فهم العبارة على أنها حكم قيمة ولا على أنه تأكيد وجودي على وجود الأشياء العلمية باعتبارها "حقائق خارجية"، بل على أنه تحليل للشروط الصورية لاستخدام كلمة "صادق". في كتابه عن "اليقين"، أشار فيتجنشتاين إلى أننا نستخدم كلمة "صادق" في علاقة بنوع معين من العبارات: ليس تلك المتجذرة بعمق في نظام المعتقدات التي تعصب شكل حياتنا، ولكن تلك التي ما يزال الشك بشأنها ممكنا. إن حقيقة عبارة مثل "أعلم أن هذه يد" لا تقول الوجود الفعلي لليد، ولكنها تعني أن الشك الجدي في مثل هذه العبارة يعني بالفعل الشك في صرح يقينياتنا بأكمله ويجعل بأحد الأشكال من الممكن وضع شكل الحياة ككل موضع نقاش. في الواقع، وفقا لفيتجنشتاين، فإن يقين قضية تجريبية لا يعتمد على تجربتنا في العالم، ولكن على الشروط النحوية لاستخدامها؛ أي أن القضية "تنتمي إلى منظومتنا المرجعية" التي لا تكون فيها حقيقة عبارتنا ضمانة من العالم الخارجي، بل مجرد وسيلة للتحكم في فهمنا للعبارة.
إن الحقائق البديهية التي أشار إليها جورج إدوارد مور باعتبارها "أدلة" على العالم الخارجي لا تستند إلى الوجود الذي لا يقبل الشك لواقع خارجي، لكنها تشكل صرحا من القضايا الداعمة؛ إنها جزء من "سقالات جميع طرق رؤيتنا". في الواقع، تشكل معتقداتنا نظاما: قدرتها على الاندماج في النظام تمنحها قيمة اليقين. وبهذا المعنى، فإن بعض القضايا التي تظهر على أنها تجريبية تشكل في الواقع "قضبانًا" تنزلق عليها جميع القضايا التجريبية، أي أنها تؤدي الوظيفة المنطقية لقواعد اللعبة: فهي مثل قاع النهر الذي، بطريقة معينة، ينظم التدفق اللغوي.
من ناحية أخرى، من ضمن لعبة اللغة العلمية أن نتمكن من تعريف قضاياها بأنها "صادقة" أو "كاذبة"، وذلك على وجه التحديد لأن هذه الملفوظات ليست جزء من صرح اليقينيات لدينا والشك فيها ما زال قائما. انطلاقا من وجهة النظر هاته، تكون القضايا العلمية موجودة على «سطح» النهر: وطريقة تثبيتها تقضي بأن الشك في صدقها أو كذبها ما زال ممكنا بالنسبة إليها، دون أن يؤثر ذلك على قاع النهر. ولهذا السبب بالتحديد يؤكد إيان هاكينج أن العبارات العلمية هي تلك "التي يمكن تصويرها على أنها صادقة أو كاذة"، أو بعبارة أخرى، تقدم نفسها على أنها "مرشحة" محتملة للصدق أو الكذب . وما يميز الملفوظ العلمي عن الملفوظ التجريبي هو في الحقيقة هذا الطابع المشكوك فيه الذي يدل على أن الملفوظ لا يمكن أن يكون صادقا أو كاذبا إلا بشرط الانتماء إلى أسلوب معين من الاستدلال يحدد هو نفسه شروط وطرق الاستدلال في شأنه: "[.. .] إن (القضايا) المرشحة للصدق أو للكذب ليس لها وجود مستقل عن أساليب التفكير التي تحدد ما الذي يكون صادقا أو كاذبا في مجالها.
الشيء المهم الذي يتعين ملاحظته في التحليل الفيتجنشتايني
لهاكينج هو أنه قبل أن نتمكن من تعيين قيم الصدق، يجب علينا أن نعرف كيفىنستدل وفقا لأسلوب معين من الاستدلال. في مقالته عن جاليليو، عبر كانغيلام عن هذه الفكرة بالضبط من خلال التأكيد على أن جاليليو كان "على حق" قبل قول الحقيقة، ليس لأن تجاربه أكدت حساباته أو لأنه استبق الحقيقة بطريقة ما، ولكن لأنه ادرك أن "النظرية الجديدة للحركة، أي الديناميكا الجاليلية، قدمت نموذجا للحقائق الفيزيائية التي ما يزال يتعين الترويج لها، وهي حقائق من شأنها أن تؤسس لعلم الفلك الكوبرنيكي باعتباره دحضا جذريا ومتكاملًا للفيزياء والفلسفة الأرسطيتين. بمعنى آخر، كان جاليليي على حق لأنه استدل ضمن أسلوب معين من الاستدلال، وجدت أقواله شروطها من الصدق والكذب ضمن مجال الاستقرار، وكانت مفاهيمه في علاقة “تماسك منطقي مع مجموعة من المفاهيم الأخرى ". قال فوكو لاحقا إن الشيء الذي يعرّفه العلم بأنه خارجي ليس خاطئا بالمعنى الدقيق للكلمة، "لأن الخطأ لا يمكن أن ينشأ ويتم تحديده إلا ضمن مجموعة من الممارسات". إن أساليب الاستدلال لدى هاكينغ، و"علوم" كانغيلام، وإبستيميات فوكو، هي أنظمة ذاتية التحقق، تحدد هي نفسها حقائقها الخاصة والتي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر خارجي، أي طريقة للحكم على صدق قضية لا تتوقف على نظام القضايا الذي تنتمي إليه. وبهذا المعنى، أمكن لكانغيلام أن يؤكد أن العلم – دين الحداثيين – والعلم وحده، هو البحث عن الحقيقة، وبالتالي، لا يتطلب بأي حال من الأحوال "أساسًا" انطلاقا من الفلسفة، لأن العلم يعطي الحقيقة من تلقاء ذاته. هكذا يستطيع أن يتحدث عن "أولوية المغامرة الفكرية على العقلنة" وعن أولوية متطلبات الحياة والعمل فيما يتعلق بما "ينبغي علينا معرفته والتحقق منه". وبعبارة أخرى، فإن تطور الفكر العلمي لا يستجيب للمتطلبات الوظيفية التي تحددها الفلسفة، بل للممارسات والإجراءات التنظيمية والقرارات المتعلقة بتنظيم الحياة البشرية: وكما قال فيتجنشتاين، الخطاب العلمي لا أساس له من الصحة باعتباره مظهر لسلوك إنساني هو في حد ذاته "طريقة غير مؤسسة في التصرف".
إذا تخلى الخطاب الفلسفي عن أي هدف تأسيسي، فإنه يتخذ على وجه التحديد هذا البحث العلمي عن الحقيقة كموضوع للتأمل: يبدأ الفيلسوف عمله بالضبط حيث ينتهي عمل العالم. وبالتالي، فإن الفلسفة، بحسب كانغيلام، ليست في “تنافس” مع العلم، كما اعتقد سارتر عندما قال: “في حضارة تكنوقراطية، لم يعد هناك مكان للفلسفة، اللهم إلا إذا تحولت هي نفسها إلى تقنية". على العكس من ذلك، يمكن للفلسفة أن توجد على وجه التحديد لأن المفاهيم العلمية المعقدة والمحددة بشكل متزايد تولد، تتغير وتنتشر من منطقة معرفية إلى أخرى، وتخلق دائما شبكات مفاهيمية جديدة: هذه هي الترتيبات التي تمثل في الواقع شروط التفكير في الحقيقة. وما دامت الفلسفة تفكيرا في الحقيقة العلمية، كيف يمكن للمرء بالفعل إثبات حقيقتها دون اللجوء إلى ما وراء الفلسفة، وفقا لعملية الازدواجية اللامتناهية التي سخر منها فيتجنشتاين، حيث رأى هناك جوهر الفلسفة السيئة؟ إذا لم تكن هناك "حقيقة الحقيقة"، فلا يمكن القول بأن الخطاب الفلسفي بدوره "ليس صادقا ولا كاذبا": لا وجود للحقيقة الفلسفية.
لكن، إذا لم تكن هناك حقيقة فلسفية بل حقيقة علمية فقط، فلماذا لا تقتصر المقاربة الكانغيلامية ببساطة على المقاربة الوضعية الجديدة التي تكون فيه الوقائع العلمية هي تلك التي تتعامل معها الفلسفة؟ إن النظرة الأخرى التي يلقيها الفيلسوف على الحقيقة العلمية تسمح له برؤية ما لا يستطيع العالم رؤيته، أي أن الحقيقة، في الممارسة العلمية نفسها، ليست موضوع تأمل أصلي وغير زمني، بل نتاج نشاط تكون سمته الرئيسية هي التصحيح الدائم، كما يؤكد باشلار في ما يتعلق بالحقيقة العلمية، أو نتاج "صراع"، نوع من المواجهة بين من يعرف وموضوعه، كما أكد أيضا فوكو تلذي سار في أعقاب نيتشه. بمعنى آخر، من خلال التشكيك في الشروط التي يمكن من خلالها اعتبار المفهوم علميا، يأخذ الفيلسوف حتما في الاعتبار التاريخية الضرورية للمفاهيم العلمية. ولذلك، فمن خلال "إبستيمولوجيا جهوية"، التي تُفهم على أنها دراسة نقدية لمبادئ ومناهج ونتائج علم معين، يُقاد الفيلسوف إلى تسليط الضوء على الشروط التي يمكن من خلالها تحديد بعض العبارات كعبارات علمية، كعبارات "صادقة" أو "كاذبة". وللقيام بذلك، سيكون من الضروري التخلي عن وجهة النظر العالمية المتمثلة في "التاريخ الفلسفي" والاعتراف ليس فقط بوجود العديد من العقلانيات الجهوية، ولكن أيضا بوجود العديد من التواريخ التي تناسب كل واحد من هذه المجالات وكل مفهوم. ومع ذلك، فإن هذا المعيار الإبستيمولوجي الذي يسبق المهمة التاريخية ينطوي على التوائية فريدة في نشاط مؤرخ العلم والعلاقة بموضوعاته.
(يتبع)
المصدر: https://books.openedition.org/psorbonne/104052?lang=fr








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟