الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورج كانغيلام: الفلسفة وخارجها (الجزء الثالث)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 4 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


3- من تاريخ العلم إلى الفلسفة
هكذا يتمثل عمل كانغيلام في تأصيل النشاط العلمي ضمن سياق فريد ودقيق، وهو أولاً وقبل كل شيء سياق مجتمع معين في لحظة تاريخية معينة: "دراسة العلوم وفقا لتاريخها" تعني بالتالي أن "العلم يجب أن يظهر في عالم يجعله ممكنا"، أي مجموعة من الممارسات، التقنيات والمفاهيم التي يتم صياغتها للاستجابة للمشاكل الحالية. وهذا لا يعني أن إبراز «الظروف الخارجية» وشروط الحقيقة التاريخية يؤدي إلى تأكيد اعتمادها الكلي على قوانين مفترضة ذات طبيعة سوسيولوجية.
من وجهة نظر المؤرخ الإبستيمولوجي، تؤدي النزعتان الخارجية والداخلية في الواقع إلى معارضة زائفة بين "سوسيولوجيا طبيعانية للمؤسسات"، تهمل ادعاء الحقيقة من قبل الخطاب العلمي وتؤدي إلى تنسييه الكامل، من ناحية و"تاريخ بلا نظرية" للواقعة العلمية يتمثل في تن تطبق على النظريات العلمية نفس المعايير (النماذج الإرشادية، الفرضيات) التي يطبقها العلماء على موضوعاتهم، منىناحية اخرى. وفي كلتا الحالتين، يتم مماثلة موضوع تاريخ العلوم مع موضوع العلم. وبعبارة أخرى، سواء اعتبرت الحقيقة العلمية نتيجة لشروط "خارجة" عن النظرية، أو باعتبارها ملاءمة للموضوع الحقيقي - الذي تم الحصول عليه عن طريق منطق الفكر الخالص - فمن خلال النموذج النحوي من النوع السببي التمثيلي يتم نناول التفسير التاريخي. في المقابل، تبين النزعة الوضعية الواضحة في عبلرة كانغيلام، "لا حقيقة إلا وهي علمية"، أنها ضد كل نزعة علموية، ليس فقط لأن كانغيلام يؤكد بقوة استقلال عدد معين من القيم عن الحقيقة العلمية، ولكن أيضا لأنه يندد باختزال العلم إلى واقعة لا ينبغي فهمها إلا انطلاقا من الخطاب العلميىذاته:
"من خلال رغبتها في اختزال نشأة العلم ومعناه في الوقائع العلمية، تجعل العلموية نفسها غير قادرة على فهم قيمة ما تسعى إلى تصوره. تحول في الواقع يحول ما هو عمل ومجموعة منظمة من العمليات، التي ليس لها معنى إلا إذا وجدت في تجربة لم يقوموا بها شيئا يتعين فعله. العلموية تجعل العلم مستحيلا من خلال رغبتها في جعله إلزاميا".
وبعبارة أخرى، فإن البديل الخاطئ لـ “ترادف الباطنية-الخارجية” يمنع السياق التجريبي من أن يؤخذ بعين الاعتبار بشكل جدي، ليس فقط لأنه شرط لإمكانية الخطاب العلمي، ولكن أيضا كهدف للخطابات العلمية "النقدية والتدريجية لتحديد ما يجب اعتباره حقيقيا في التجربة". ومن وجهة نظر "تاريخ الحقيقة"، فإن عملية العقل ذاتها يجب أن تُفهم "كقوة لمؤسسة العلاقات المعيارية في تجربة الحياة أقل مما هي قوة لمؤسسة العلاقات المعيارية في واقع الأشياء أوفي العقل".
لكن المشكلة والتحدي الذي تطرحه الحقائق العلمية، باعتبارها التعبيرات الوحيدة عن الحقيقة في عصرنا، هما أن هذه الحقائق تُعطى لمجمل التجربة تحت نمط علاقة العالم بموضوعه. إنها تظهر في أشكال كونية نهائية وخالدة. علاوة على ذلك، لكي يتمكن العلم من تعريف نفسه على هذا النحو في لحظة معينة من تطوره، يجب أن يكون قادرا على التحقق من صحة حقائقه. وبما أن هذه الحقائق هي استجابات علمية لمشاكل نشأت في أماكن أخرى، في المجالات غير العلمية للممارسة السياسية، الاجتماعية والأخلاقية، إلخ..، فإنها تقدم نفسها باعتبارها استجابات معيارية ومجزية في هذه المجالات نفسها. وهكذا تقدم الحقيقة العلمية نفسها على أنها "وهم دوغمائي" مهيمن في مجال التجربة الإنسانية برمته، عندما يتم تصدير النموذج التفسيري الذي يميز الإجراءات "التأسيسية" للعلم إلى المناطق التي يفي فيها تقييم الحياة البشرية بمعايير غريبة عن الواقعية العلمية. إن "الصراع الحتمي" بين الحقيقة العلمية التي تقدم نفسها كإجراء مهيمن للتثمين والقيم الأخرى للحياة الإنسانية يشير بلا شك إلى المعركة النيتشوية بين التأويلات ولكنه يمكن أن يذكر أيضا بالنقد الفتجنشتايني ضد الحضارة الحديثة وما تقتضيه من "مكننة" الحياة. بالنسبة إلى كانغيلام، لا يمكن النظر إلى هذا الصراع إلا من التموقع على مستوى آخر، المستوى الفلسفي:
"لا مصلحة لنا في أن نطالب للحكم بالتقادم بشكل الحكم العلمي، ما دمنا لم نثبت أن شكل الحكم العلمي هو وحده الشكل الصحيح أو الصادق للحكم. ولكن من السهل أن نرى أن دراسة هذه المشكلة تتطلب تجاوز وجهة النظر العلمية الصارمة. التحقق من صحة الحكم العلمي يعني جعل الحكم العلمي يعتمد على حكم قيمة. لكن العلوم المعيارية تقترح العكس".
إن مسألة "التحقق من صحة الحكم العلمي"، وبالتالي رهان تفكير في الحقيقة، تعني أن مشاكل الفكر لا تختزل في مشاكل علمية وأن أحكام القيمة لا ترد إلى أحكام علمية. إن مبدأ عدم التنافس بين العلم والفلسفة على وجه التحديد هو الذي سمح لكانغيلام بتحديد مهمتين لمشروع فلسفي يتميز بوضع الحقائق العلمية في منظورها الصحيح في علاقة بمجمل الحياة البشرية: أولاً، يجب على الفلسفة، وفقا له، مواجهة لغات الخاصة، رموز خاصة، مع ما يظل ساذجا بشكل أساسي وجوهري في التجربة المعاشة. وثانيًا، الفلسفة هي “المكان الذي تواجه فيه حقيقة العلم قيما أخرى مثل القيم الجمالية أو القيم الأخلاقية” .
وفقًا لكانغيلام، تبدأ الفلسفة على وجه التحديد من "افتراض الكلية" التي هي غريبة عن تخصص الشعبة العلمية لأن هدفها هو "معرفة كيفية تحديد قيمة الحقيقة في ما يتعلق بالقيم الإنسانية الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار "جذورها الحيوية المشتركة"، أي تجربة ما تزال غير قابلة للاستيعاب أو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشملها الحقيقة العلمية. لا يتعلق الأمر إذن بـ"تحديد" الحقيقة العلمية باسم شرعية ترغب في طرح نفسها على أنها كونية، بل يتعلق بإظهار أن الحقيقة العلمية "ليست القيمة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يكرس نفسه لها". إن تاريخ العلوم إذن هو تاريخ فلسفي لأنه يوضح أن الحقيقة العلمية هي نتاج لقاء: لقاء العلم مع اللاعلم، أي الظروف السياسية، الاقتصادية والاجتماعية للعقلانية العلمية، وبشكل أعم مجموعة كاملة من الأنشطة والتجارب البشرية التي ليست غابتها المعرفة. وفي ما يتعلق بهذه الأنشطة المتعددة الأوجه، "فإن وجهة النظر العلمية هي وجهة نظر مجردة تعكس اختيارا وبالتالي إهمالًا". لكن هذا الاختيار بالتحديد هو الذي يسمح للحكم العلمي بأن يطرح نفسه كحكم على الواقع، وهذا الاختيار مرة أخرى هو الذي يسمح للعلم بأن يتشكل كشعبة. ومع ذلك، بالنسبة للفلسفة، فإن المهمل هو ما يثير الاهتمام، أي كل ما يبقى تحت "القطيعة" المقامة في الواقع من خلال اختيار الأشياء العلمية:
"من الناحية الفلسفية، فإن ما يرفضه العلم لا يقل أهمية عما يخطط للقيام به. رفض العلم، يسميه العلم باطلاً ولا يعترف له بأي قيمة. لكن هذا الباطل الذي يضعه المنطق في معارضة دائمة معرالحق، يجب على الفلسفة أن تطالب، إذا جاز التعبير بحقوقها فيه".
تتمثل وجهة النظر الفلسفية في تاريخ العلوم في تقييم الوظيفة المهيمنة للحقيقة العلمية في مجال من الأنشطة الإنسانية من خلال فحص التشكل التاريخي لكل ما رفضته هذه الحقيقة ذاتها، وبالتالي لا يجد ذاته أكثر "مؤسسا في الحاضر" بقدر أكبر: خطأ، وحش، "حطام" تاريخ العقلانية. لذلك لا يمكن وصف التاريخ الكانغيلامي للمفاهيم لل كعلم ولا كتاريخ للعلوم، بل كتفكير فلسفي في العلم، في الطريقة التي تبني بها العلوم موضوعاتها بفضل شبكة من المفاهيم التي ينطوي تطورها التاريخي على تأثيرات التكوين، التداول، الإقصاء: "من التاريخ إلى العلم، كموضوع للتساؤل الفلسفي، أي منىحيث تكوين، إصلاح وصياغة المفاهيم، تنشأ فلسفة العلم".
إن الدور الذي يخصصه كانغيلام للفلسفة ولعلاقتها بالعلم يكشف بالتالي كل غموض الإرث الكانطي في تفكيره. من ناحية، سنكون قد أدركنا الإلهام المتعالي عادة للفلسفة التي لا تمثل فهما مباشرا للموضوع، قصدا مستقيما تجاه الموضوع، بل بالأحرى بحثا عن شروط إمكانية المعرفة. بهذا المعنى، تتميز المقاربة الفلسفية للعلم بالقصد المائل في ما يتعلق بالموضوع، وهذا يعني أن الفيلسوف الإبستمولوجي يهتم بشكل أساسي بالأدوات المفاهيمية التي يستخدمها العلم لمعرفة الأشياء. من ناحية أخرى، سنلاحظ أنه عندما يذكر استحالة وجود حقيقة من النوع الفلسفي، يرفض كانغيلام ادعاء حقيقة التحليل الكانطي المتعالي، الذي حدد المتعالي بأشكال قبلية من المعرفة. نحن نعلم في الواقع أن قسما كبيرا من الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، بدء من فوكو إلى باشلار، ورجوعا إلى برونشفيغ، سعوا إلى اتباع البرنامج الكانطي المتمثل في تسليط الضوء على ما يتعالى على المعرفة ويسبقها، بينما يسعون إلى أرخنة المتعالي من أجل أن يكونوا قادرين على أن يأخذوا في الاعتبار بجدية "تاريخية هي في آن واحد تاريخية المفهوم والحقيقة، تجعل من الممكن الإبلاغ عن كيف ترى النور في كل مرة حقيقة أخرى تستعمل مفاهيم أخرى". بمعنى آخر، إذا كانت الفلسفة لا تستطيع التدخل إلا بعديا دون تحديد حقائق العلم، فذلك لأن هذه الحقائق ذاتها هي نتاج تاريخ، تتخلله عوائق تجريبية وقطائع إبستيمولوجية، وليست مجموعة من المقولات الثابتة والمشكلة قبلا التي اكتشفتها الفلسفة. إن مفهوم "القطيعة" الإبستيمولوجية عند باشلار لا يقول شيئا آخر. يتم بعد ذلك استبدال فكرة أن العلم نسق بمفهوم العلم كعملية.
الجانب الآخر من الإرث الكانطي في فلسفة كانغيلام هو دعوتها النقدية الصريحة: ضد العلموية التي ترغب في توسيع مبادئ المعرفة العلمية لتشمل سائر مجالات النشاط الإنساني، يتعلق الأمر على وجه التحديد بالقيام ب"نقد فلسفي"؛ أي تحديد حدود المعرفة العلمية باانسبة إلى جميع القيم الأخلاقية، السياسية، الجمالية، إلخ.. وهكذا فإن الفلسفة الكانغيلامية تقدم نفسها بالفعل على أنها هذا النشاط النقدي الذي سيتناوله فوكو لاحقا على حسابه: “لا يمكن للفلسفة ألا تكون موقفا نقديا، بالنسبة إلى جميع الوظائف الإنسانية التي تنوي الحكم عليها، لأنها تسعى من خلاله إلى المعنى مه إعادة دمجه في امتلاء الوعي". بهذا المعنى بغير شك، دعا كانغيلام إلى إنشاء "نقد للعقل الطبي العملي" الذي يمكن أن يتعرف في ظاهرة الشفاء على التعاون بين المعرفة العلمية التجريبية واللا معرفة للقيم الحيوية التي أنشأتها العضوية في حوار مع بيئتها. علاوة على ذلك، تظهر الفلسفة، في انفتاحها على جميع الأنشطة الإنسانية، ومن خلال سعيها إلى فهم روابطها مع التجربة المعاشة، دعوتها "الشعبية"، وتظهر نفسها على أنها "شأن الجميع، وليس فقط الفلاسفة".
ومن ناحية أخرى، ينصب نقد الفلسفة المتعالية الكانطية على العجز عن التفكير في تاريخية العلوم باعتباره عجزًا عن التفكير في التحول – الذي يقوم به العلم أيضا – في أطر التجربة الإنسانية. يتصور كانط المعرفة المتعالية تماما كما يتصور العالم موضوعه: فهو يدرس المعرفة القبلية كمجموعة ثابتة من المقولات والمفاهيم التي أمكن تحديدها بالمقولات الرياضية والفيزيائية في عصره. إذا كان الماقبلي مغلقل ونهائيا، فمن الطبيعي أن توفر الحساسية مواد جديدة لمفاهيم التجربة، لكنها لن تكون عندئذ اختراعا بل اكتشافًا، لأن ما يتغير تاريخيا هو على وجه التحديد التجربة وليس أشكال التجربة. وكما سنرى لاحقا، فإن الإرث
الصدامي للكانطية داخل التيار الإبستيمولوجي الفرنسي أدى، عند فوكو، إلى نقد المشروع الفينومينولوجي. كان هذا المشروع، في نظره، غير قادر على التفكير في تحولات شكل التجربة على ضوء تحولات المعرفة العلمية.
لتلخيص ذلك، يمكننا القول أن العلاقات بين العلم والفلسفة عند كانغيلام تتميز بانفتاح مزدوج. فمن ناحية، من خلال الانفتاح على عالم الحقيقة العلمية كنتيجة للتصحيح الدائم، تتوقف الفلسفة عن كونها تتنبأ بالحقائق الأبدية والخالدة. وهكذا يُظهر العلم، في تطوره التاريخي، للفلسفة حدودها وإمكانياتها الخاصة. ومن ناحية أخرى، الفلسفة هي التي تفتح العلم على عالمه الخارجي، من خلال إظهار كيف أن مفاهيمه ليست انعكاسا بسيطا لواقع خارجي، حيث تكون المعرفة "متوافقة معه"، ولكنها تستجيب لاستخدامات وظيفية ومفيدة ولشروط الإمكانية المتجذرة في مجموعة معقدة من الأنشطة البشرية.
يجب على المؤرخ الفيلسوف بعد ذلك أن يدرك في نفس الوقت كيف ولماذا تكون المعرفة نتيجة لظروف لا تقع ضمن نظام المعرفة، ولكن يجب عليه أيضا أن يفهم كيف تنطوي الحقيقة العلمية على سلسلة كاملة من التأثيرات على الممارسات غير علمية. تتمثل مهمة الفلسفة، بالنسبة لكانغيلام، في دراسة عقلانية المشروع العلمي - وخاصة نشاط العلوم البيولوجية والطبية - أنطلاقا من "آخره"، أي الطرائق غير العلمية لتثمين الحياة البشرية، وعلى وجه التحديد انطلاقا من معيارية الكائن الحي.
وهكذا تجد نفسها المفهمة الجارية في العلوم في مواجهة آخرية يعيد المؤرخ الإبستيمولوجي باستمرار طرح إشكاليتها كحدث لعقلانية بصدد خلق وتحديد ذاتها كذلك. ونتيجة هذه الحركة المزدوجة، والتي هي أيضا في استمرارية كاملة مع التقليد الإبستيمولوجي الفرنسي، هي أن تاريخ العقلانية الكانغيلامية يرتبط دائما بخارج تقني سياسي، بيولوجي، يتكون أيضًا من العديد من الممارسات بالإضافة إلى الأجسام الحية. بل أيضا من علاقات القوة، ولكن دون “التخلي عن قيم عقلانية، موضوعية وكونية الفكر العلمي”. وفقا لكانغيلام، إذا كانت هناك وجهة نظر فلسفية صحيحة تتكون من ربط حقيقة العلم بمجمل القيم الإنسانية الأخرى، فيجب أن تقع بالضبط بين هذين القطبين: الخبرة الذاتية كمركز للتقييم الذي لا يمكن تجاوزه وضرورة تقييم المفهوم الذي يوازن ويبرر باستمرار الأولى باسم العقلانية الموضوعية.
(يتيع)
المصدر: https://books.openedition.org/psorbonne/104052?lang=fr#tocfrom1n4








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة