الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناقض بين العلمانية ومفهوم الطاعة للمقدس... الحرية معيار

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 4 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


غالبية التصورات العامة عند السواد الأعظم من الناس تتمحور عند علاقة الإنسان مع الدين والمقدس شكلها ومداها نوعية المفردات الرابطة وقدرة هذا الدين والمقدس على التأثير في سلوكيات الشخصية، وصولا لرسم الأثر العام في الواقع الأجتماعي وروابطه في العام وعلى العام، والعلمانية كواحدة من أبرز المفاهيم التي تدور في الطرح الفكري الثقافي والسياسي الأجتماعي والديني على أنها ند أو ضد للتقديس والتعظيم الديني، ما هى إلا تصورات شائعة لا تساعد في فهم العلاقات المتغيرة التي توجد بين هذه الظواهر ومنها ما يترابط ومنها ما لا علاقة له بالأخر، وفي الجزء الأكبر من القرن العشرين كان الحديث حول مصير الدين وعلاقة الإنسان مع عالم الغيب والميتافيزيقيا وأسرار السماء تزداد كلما تسارع الناس وأندمجوا مع التحول نحو العلمانية الحديثة، والتي عكست وجهه نظر سوسيولوجية مفادها أن الحداثة تؤدي إلى تآكل الهويات النوعية الدينية تحديدا ودور النظم والمؤسسات الدينية، وبالنتيجة عندها تضعف علاقة التمسك التاريخي بالموروث الأجتماعي وتزداد معها حالات الشعور بالحق بالحرية وتمتع الإنسان بحقوقه الأساسية في ظل أنظمة سياسية ديمقراطية تعتمد على صيغة أن مقدس سوى الإنسان، وأن الدين مجرد رافد من روافد صيانة هذا المقدس وحمايته وليس هو المقدي بذاته لذاته.
تلقت المجتمعات التقليدية ظاهرة العلمانية المعاصرة وكأنها فتح أجتماعي مستجد على الطبع البشري جاء بديلا من السماء عن أفكارها السابقة، والحقيقة أن العلمانية بمفهومي الخاص الذي يرتكز على أنها واحدة من خيارات البشر نحو الحرية والتمرد، وعدم الخضوع التام للوضع الأجتماعي السلطوي والعقيدي عندما تسنح الفرصة للتعبير أو يمكن فعل ذلك، إذا هي جوهر طبيعي في بعض تقاليد الشخصية المجتمعية في مجتمعات متعددة، بل وحتى أنها طبع بشري غالب إلا من حالات أختيارية محدودة، الخضوع والتقيد الحرفي وأحيانا المتطرف لعقيدة دينية أو فكرية أو حتى سياسية بأعتبار أنها جزء من تكوين وجداني لهذه الشخصية، لا يمكن إصلاحه عبر الدعوات والمبادرات الفوقية والتثقيف بأهمية العلمانية، ما لم يكن عنوان الحرية وحق الإنسان في الخيار متوفر وأن يتجذر هذان المفهومان عبر ممارسات تحمل روح الخيار الحر بالواقع وتؤمن به عميقا، عندها يمكن للشخصية الفردية والمجتمعية أن تتعامل مع العلمانية على أنها الفسحة التي تعطي كل عنوان حقه وبما يتناسب مع مفهوم التطور الحتمي الوجودي.
واجهت المجتمعات التقليدية التي تخشى التغيير أو تخاف من نتائج الحرية على قاعدة (الشر الذي تعرفه خير من الخير الي لا تعرفه)، وواجهت المد العلماني أو لنقل إشاعة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بأساليب متعددة، منها الوقوف الضدي المباشر وأعتبار العلمانية وحملة رسالتها والمبشرين بها يمثلون أعتداء على القيم الجمعية الرأسية، ولا بد من حماية المجتمع عبر التمسك بالثوابت والمحافظة على الواقع مهما كانت الخسائر على المستوى العام والخاص، هذا المفهوم نجح في مجتمعات "الجارديان" ومنها المجتمع الإيراني كمثال حي، لكن المجتمع العراقي وقبل أن تطغى عليه المؤثرات الدينية المذهبية وعلى قراره ولليوم، ونظرا لخاصية الشك والريبة المتلازمة فيه مع عدم وجود رموز دينية كبرى تمثل عراقته التاريخية، وقف موقف متردد بين التمسك بما يعتقد أو أنه يحاول التجريب للتجريب، لكنه محسوم في النهاية لصالح الروح العلمانية الكامنة فيه عميقا بما فيه من أنه لا بد أن يجرب ما يمكن أن يجعله أقرب لحالة الشك منها لحالة التسليم، كونه مجتمع متمرد أصلا لا يقر له قرار طالما أنه لا يثق بالسلطة ولا ينتمي لها.
العلمانية في بعض جوانبها إضعاف لمركزية السلطة وتوهين للخطاب الواحد الموحد، خاصة الخطاب الذي يتلبس بلبوس القداسة ومنه الخطاب الديني التي فيه المركزية واحدة من أسواء ما أنتجه العقل البشري عن الدين، حتى في الأديان التي نؤمن بها لا مجال فيها للمركزية بمعناها المعمم، نعم هناك تركيز على مركزية الهدف ومركزية الإيمان دون مركزية القيادة التي تعني ما عناه فرعون "إني أريك ما أرى وأنا ربكم الأعلى"، هذه ليست مركزية قيادية أجتماعية بل فرض سلطوي ناجم عن تضخم الذات فوق الطبيعية فوق قدرة الإنسان على الإحاطة، فحيث وجدت المركزية والصوت الواحد والرمزية الجمعية تضعف تأثيرات العلمانية على الشخصية الفردية، مما يضعف معها الشعور بالرغبة في التحرر والسعي لنيل الحقوق الأساسية التي تعد لوحدها وجها من أوجه العلمانية الأجتماعية والسياسية، في المجتمع العلماني الحقيقي الحرية للدولة كمؤسسة اجتماعية تدير النظام وفق منهج واضح ومعلن وبين ومقر من قبل طرفي العقد الأجتماعي، وبالتالي الحرية الممنوحة لهذه المؤسسة ممنوح أصلا للمجتمع المنظم كوحدة تفاعلية وليس خضوع للسلطة، هذا الفهم العلماني لا ترغب به المجتمعات التي ترى في قوة السلطة وجبروتها وهيمنتها مصدر قوة وعظمة لها، ويعتبر عندها نوع من الصد والتصدي للأخر المختلف، إذا هاجس الحرية الفردية للسلطة المطاعة بالذات المتشخصنة لا يأتلف مع مبدا الحرية والديمقراطية للجميع.
من المفاهيم التي تنظر للعلمانية نظره شمولية تصل للعمق الروحي للشخصية وللفرد هو تعريف المفكر العربي محمد أركون، الذي ربط بين الروح العميقة ومفهوم العلمانية (العلمنة بالنسبة لي، هي موقف للروح، وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة" *، لكن المفكر العربي المسيري أفصح عن تفسير أكبر في الدلالة وأكثر وضوحا عندما عرفها بأنها (ليست العلمانية بهذا الاعتبار وصفة أو صيغة جاهزة قد تختار جماعة تاريخية معينة تطبيقها أو رفضها، بل هي جملة عمليات موضوعية في التاريخ ومنه.. )**، إذا للتاريخ فيه ومنه دور في رسم الشخصية العلمانية وإمكانية تتبعها من خلال حركة المجتمع خارج رؤية المركز والسلطة والمقدس.
ما نراه في مضامين المفهوم المتداول عند العقل العربي والمسلم وهنا أقصد العقلية الجمعية الغير متخصصة، تحصر المفهوم بما يعرف وشائع بفكرة (الفصل بين الدين والسلطة)، أي تجعل العلمانية في زاوية أفتراق تبتعد عن الحقيقية التاريخية للهوية الفردية، فهي تنظر للعلمانية من منظار إجرائي جزئي مخصوص بالضدية وليس بالقبول العام لمبدأ الأختلاف على أساس الحرية للجميع، وبهذا فهي تكون مبتعدة بذلك عن أرتباط العلمانية بالخيارات السيسيولوجية والنفسية للمجتمع، وبذلك أيضا يمكن وبحسب هذا التصور أن قرارا من جهة تملك حق التقرير بإمكانها أن تجعل من العلمانية واقع حقيقي بتشريع قانونية الفصل بين الدين والسياسة أو الدين والسلطة، هذا الإجراء سطحي لا يصنع ديمقراطية ولا يمنح حرية نوعية حقيقية والتي هما عماد مفهوم العلمانية بشكلها الحقيقي، إذ أن المفاهيم لها بنيانها النظري دون الواقع العملي تكون طوباوية تماماً، كما هو حال مع أي معطى وجودي آخر أو أي منجز ثقافي فلا بد له من جذر ومقدمة وأسس ضرورية وحتمية تنشأ في حاضنتها الطبيعية وتمد فيها طولا وعرضا.
فليس صعباً أن تعمل على رصف التصورات إلى بعضها بعضاً، وتجمعها في سياق تواتر فكري يعطي الصورة النهائية في حدود المعروف، لكنه يبقى أفتراضا بحاجة إلى مبرر عميق وتاريخي وأصيل، ومن الصعب أن تتحول تلك المفاهيم إلى نسق ينضد العالم بأشيائه لمجرد توفر إرادة فارضة أو مقررة، ومستنده بتفاصيلها إلى نواظم صارمة يصعب تخطيها دون أن تستحضر بروحها وتفاعلاتها وضروراتها الحقيقية، وتالياً ليس في المتاح أن تقر بهامش الحرية والانفتاح ما لم يكن هذا المتاح طبيعي نابع من تقدير الذات والحاجة له، باعتبار اللازم منطقياً من المواضعات الأولى التي استهللت بها تأسيسها، وهذا ما أنعته بالتبعة الوجودية والأخلاقية والإنسانية للمقول أياً كان.
العلمنة المطلوبة اليوم هي التي يمنحها التاريخ والمعرفة والسيكولوجيا الذاتية واقع حداثي ضروري لا يتناقض مع قدرة هذا المجتمع على تمثيل العلمانية ومسايرة قواعدها وقوانينها، صحيح أن فهمنا للعلمانية يتطور تدريجياً منذ عشرات السنين ويكثر مع أشتداد مركزية السلطة وتسلطها بما فيها الجانب المرتبط بشدة مع المؤسسة الدينية ويستجيب لها في كل مناحي الحياة، وهو خط يسير بموازاة العلمانية السياسية الجزئية، ويضع المجتمعات على طريق التقدم والسلم الاجتماعي، فعلمنة الواقع الاجتماعي إذاً هي ما تفرضه التغيرات الاجتماعية والتي تضع هذه الدول على حافة الانفجار بسبب التعارض الصارخ بين الحرية المفرطة للسلطة وبين التضييق المستمر على المواطن بحجة حماية النظام والدفاع عنه من جهة، وبسبب هذا التناقض المتزايد بين الأطر السياسية الاستبدادية والمفاهيم الدينية الاجتماعية التقليدية من جهة أخرى، وهي حقيقة واقع الحياة الاجتماعية المُمارسة حقيقة على الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عبد الوهاب المسيري وعزيز العظمة: العلمانية تحت المجهر، سلسلة حوارات لقرن جديد، دار الفكر، سوريا، ط01، 2000، ص 160
**عبد الوهاب المسيري: إشكالية تعريف العَلمانية، مجلة رؤى، باريس، العدد 23/24، 2004، ص (13/14) بتصرف.
يرى المفكر عبد الوهاب المسيري العَلمانية: "رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافزيقية) بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى مركز الكون، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكوّن أساساً من مادة واحدة، ليس لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت، هذه المادة تشكل كلاً من الإنسان والطبيعة..."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استطلاع رأي: الإسرائيليون يفضلون إبرام صفقة تبادل عن اجتياح


.. -الجديد شديد-.. ليفربول يرفق صورة لقميصه الجديد بعبارة سودان




.. سيناتور ديمقراطي يحذر من تحول الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لل


.. المتحدث باسم الكرملين: بيان ماكرون -خطير للغاية-




.. إسرائيل: -القبة السبرانية- أحبطت 800 هجوم سيبراني إيراني منذ