الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلماني جذور نفسية وتأريخية في الشخصيى الفردية والعامة

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 4 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في الشخصية الأجتماعية دوما هناك ما يعرف بالعمق النوعي أو بالحقيقة المعتمة التي تتداخل مع اللا وعي وبين مباعث التصرف السلوكي الحقيقي، الذي قد لا تفصح عنه كثيرا المعاملات السلوكية العامة نظرا لمحاولة عدم ‘ظهارها أو حتى عدم ملاحظتها نتيجة الأعتياد، ولكن بالتأكيد تظهر هذه الطبيعية تدريجيا عندما تتحرر الشخصية من الضغوطات والقيم الملجئة التي قد تسبب في غياب حرية التعامل معها بشكل طبيعي، فهناك ما يعرف بـ (الترسب التكويني الأساسي للشخصية) ومصدره بالتأكيد تاريخي بيئي معرفي متراكم ومستقر بعيدا في أعماق العقل الباطن لها، هناك أمثلة كثيرة وظواهر مدروسة أجتماعيا ونفسيا تبين حقيقة هذا الترسب التكويني التي تظهر لاإراديا في تصرفات الإنسان مع قليلا من الحرية، لكنها تعيب وتختفي بشكل ملاحظ عندما يقف العقل المختار والمؤطر حارسا لسلوكياتنا حتى لا تتنافر ولا تتناشز مع الجو العام.
من الدراسات المهمة التي أهتمت بهذا الترسب التكويني ما ذكر عالم الأجتماع العراقي المرحوم الدكتور علي الوردي في توصيف الطبيعة العامة للمجتمع العراقي، كوحدة ديموغرافية كبرى ذات بعد جمعي أكثر من كونها طبيعية عامة تطلق على ظاهر السلوك الكلي، فقد لاحظ من خلال البحث والتأمل والأستنباط حقيقة (أن المجتمع العراقي كان له طابعا علمانيا، وأنه معروف، عبر تاريخه الطويل، بانفتاحه على الأديان المتعددة والمذاهب المختلفة حتى صارت هناك أديانا ومذاهبا في العراق فقط دون دول العالم الأخرى كالأيزيدية والشبك والكاكائية وغيرها)، هذه العلمانية تعمل عميقا في الذات العراقية مما يمنحها وصفا عاما بأن العراقي "ودود أكثر من اللازم مع الغريب أو المختلف"، لكنه شديد مع نفسه والقريب، هذا الترسب لم يأت من فراغ وليس بالتأكيد حالة طارئة كما قلنا في المبحث السابق، أساسه الرغبة في التجريب وعدم إيمانه بأن ما موجود هو منهى ما يمكن أن يكون في الوجود، هذه القاعدة لم تدرس بشكل معمق ومر عليها الاجتماعيون مرور الكرام.
من الأمثلة الأجتماعية التي يلاحظها الإنسان العادي ويصفها بأنها جزء من الموروث الأجتماعي الطبيعي، بينما يصنفها الباحث الأجتماعي بأنها مردودة لعمق الشخصية الفردية والجمعية له، هي ظاهرة الكرم المفرط خاصة مع الغريب والتقاليد المتعلقة لحماية المستجير والأفراط في نصرة الدخيل، وهي مظاهر كانت وما زالت تلتصق بالمجتمع الأقرب للقروي والبدوي أكثر مما تظهر في المجتمعات المدنية، مردها للوعي القيمي للشخصية العراقية الجذرية التي ترى في نفسها في موضع الأخر وتقارن وتقارب الحال، هذه الشخصية الحرة والمسئولة وإن كانت سلفية في تقليدها وسلوكها فهي ومن وضعت لنفسها مبدأ الحرية والدفاع عنها بأي ثمن، وأساسها البعيد من خلال تمتعها الأصلي بالحرية وعدم قابليتها للتفريط بها، قد ينسب هذا الأمر وإن كان محمودا للطبيعة البدوية المتأصلة للعراقي، والحقيقة نعم ولكن ليس من الجانب السلبي لها الذي يعمم دوما دون أن نفهم قيم البداوة، فالبدوي حر والحر غير مقيد عادة إلا بما يرتضيه ويصنعه من قيم، حتى قيم الدين يتعامل معها البدوي على أنها قيم وافدة مجبر عليها، لذا يتعامل معها بالحد الأدنى جدا الذي يمثل أقل درجة من درجات الأمتثال، لذا فهو غير جاهز نفسيا أن يكون متدينا ويستبدل قيمه بقيم الدين.
من هنا نفهم طبيعية الشخصية العراقية من خلال دراسة الجذور التكوينية الأولى له، والتي ترسخت من طبيعة العوامل الما حولية والذاتية المصنعة تجريبيا وتربويا، النفطة الثانية والتي صاغت الشخصية العلمانية العراقية هو عمق التجربة التاريخية مع الأديان وما تركته من أثار حقيقية على القيم المثالية وعلى طبيعة تعامله مع الاخر المختلف والموافق، فالمعروف بشكل مؤكد أن غالب بل ومعظم الأديان بكافة تصنيفاتها ولدت أو نشأت وتكونت في أرض العراق القديم، وحتى الدين الإسلامي عندما خرج من الجزيرة العربية كان وجهته الأولى العراق قبل غيره من المجتمعات والتجمعات السكانية، هذا التنوع وهذا الأمتداد التاريخي والصراعات التي حدثت على أرضه والحروب والأهتزاز الأجتماعي الذي ولدته الأديان، عكس في ذات الشخصية العراقية نوعا من عدم التقيد الجدي بها، أما نتيجة التناقضات بين مؤديات وقواعد وأشمال التعبدات وأسس الدين والتي تظهر بينها، أو نتيجة الدعوة لترك القديم والتجديد مع الجديد فيما القديم يضمحل وتقوى شوكة البديل، أو نتيجة المآسي والارتدادات النفسية للضغط والإجبار الذي يصاحب التبشير الديني عادة، نلاحظ اليوم وبشكل ملفت أن المؤسسة الدينية مع كل جبروتها والدور الكبير الذي تلعبه في بناء الخلفية الثقافية للمتدين، إلا أننا نشاهد أرتداد عكسي أكبر يتمثل في ظاهرة الإلحاد أو اللا دينية أو على الأقل العلمانية المدنية التي سببها الضغط الديني المتزايد.
هذه العلمانية الأصيلة في الذات العراقية عززت من تماسك المجتمع في وجه الغزوات الدينية والحروب المذهبية على مر التاريخ، والتي خرج منها العراق في غالب الأحيان سالما بالقدر الذي يوازن بين الخسائر وبين ما تحقق من حفظ للهوية العراقية، ومع ذلك تبقى هذه العلمانية أيضا مصدر قلق وأضطراب حين ينجح الديني في تأجيج مشاعر جزئية مقابل الحس العلماني الطبيعي ليرجح نوعل من الفئوية والعنوان الفرعي مدعوما بسلطة أو واقع طارئ، وقد نجح في مراحل عدة لكن النهايات دائما تشير إلى أن المدخل لخراب العراق هو ضرب علمانيته الطبيعية.
وبالرغم من أن هذا الأمر يمثل قوة نفسية وأجتماعية تعبر عن قدرة المجتمع على التحرك بإيجابية مع ذاته العقلية والفكرية، إلا أنه يشكل أيضا نقطة ضعف أساسية يمكنها تدمير المجتمع إذا ما سخرت بالنحو العاطفي والشخصي الذي لا يؤمن بالتعدد أو التسامح، ومن هنا يمكننا تأشير هذه الحالة تماما من خلال التركيز على التناقض الطبيعي في صيغة الفهم الجزئي للمكون الواحد داخل النسيج العلماني، فيسعى لأضعافه وتحطيمه والسيطرة عليه، وخير مثال معاصر وما زال معاشا ونشهد أثاره على الواقع، هو ما يمكن تلخيصه بعبارة (أن فهم إيران للمجتمع العراقي جعلها تستفيد من الإطاحة بنظام صدام أكثر بكثير من الأميركيين)، هذه الحقيقة يجب أن لا تنكر وأيضا أن لا تمر بدون تحليل ودراسة لأنها أعتمدت بالأساس على مقابلة العنوان الفرعي وجعله بمستوى العنوان العلماني الجامع .
الطابع الأجتماعي الإيراني مختلف تماما عن هذا الميل الذي نستطيع أن نسميه علمانية الشخصية العراقية في جوهرها العميق، وتفترق تبعا لذلك حتى في فهمها للعلمانية أو الدين بشكل أساسي، فالشخصية الإيرانية عبر التاريخ شكلت مع أختلاف جذورها الفكرية والعنصرية وحتى في تنوعها الحضاري ما يمثل شكل خلية النحل أو خلية النمل، فهي شخصية تعتمد الترتيب الطبقي الهرمي دون أن تحاول أن تنوع في خياراتها تجاه السلطة، بشرط أن هذه السلطة تخاطب مكنونها الأثيري، لذلك فهي لا تريد الخروج عليها إلا ببديل مماثل ولا تفهم العلمانية ولا تخضع لها إلا إذا كان الحاكم الرمز الأعلى علماني، وهذا ما لم يحصل تاريخيا حتى في فترة الشاه القاجاري محمد رضا بهلوي، لأن المحرك الأساسي في الشخصية مع وجود التمرد على السلطة بقى الولاء الأوحد للنموذج المطاع، بغض النظر عن عنوانه ديني أو غير ديني لأنه يركز في الأول والنهاية على تعظيم ونفخ الشخصية الأستعلائية.
يعود هذا السبب في تقيد الشخصية الإيرانية دوما بالرمز الذي يمثل سلطة المجتمع وعنوان عظمته كما يعتقدون وينسبون ذلك إلى طبيعة الإيمان في الديني العميق في الذات الإيرانية، فكل الأديان الإيرانية القديمة جدا منها والتي ساهمت بشكل فعال وقوي في تكوين الوعي لدى هذه الشخصية كان الرمز فيها واحد دوما ومقدس حتى لو كان دنيويا وليس دينيا، وكان الإيمان فيها يعتمد على فكرة أنها أفضل ما يمكن أن يعبد لأنها غاية المنتهى في التمام والعظمة، تماما نجد هذا الحال عند الهندوس وعند الأديان الشرقية القديمة عموما، أضافة إلى أن الدين نفسه غير متاح للجميع إلا من خلال التدرج الهرمي للمؤمنين به، جاء الإسلام وقبله المسيحية واليهودية التي لم تجدا صدى لهما في المجتمع الإيراني بالشكل الذي ظهرا به في مجتمعا أخرى، لتجعل من الدين خبزا للفقراء دون أن تربط الإيمان برمز عظيم كما هو عند الديانات الأسيوية، بل ربطته بالله رب العالمين وعن طرق الرسل الذين كانوا يرسلون على فترات تاريخية متكررة، الديانات الأسيوية لها إله واحد ومبشر واحد ولها رمز واحد وطريقة واحدة لا يمكن أن تثنى أو تتعدد، لذا فالقالب المثالي للوعي الديني عندهم بقى موحدا وثابتا، مما أضفى نوع من اليقين التام به مع مرور كل الأزمنة والتحولات الكبرى في الوعي الديني والأجتماعي.
العلمانية في جوهرها الغير معلن وهو الذي تسعى له بشكل حثيث هو عدم حصر الخيارات العامة للمجتمع في أتجاه تقليدي واحد، لذا فأرتباط الحرية بالعلمانية هو أرتباط جدلي لا يمكن الفكاك بينهما، لا يوجد مجتمع علماني يؤمن بالعبودية، كما لا يوجد مجتمع عبودي يؤمن بالعلمانية، وهذه الحقيقية هي التي تؤسس لعداوة الفكر الديني وتناقضه الدائم مع العلمانية بشكل خاص، الموضوع إذا ليس فصل السلطة الدينية أو الفكر الديني من وعن التأثير وتحديد الواقع السياسي والأجتماعي في المجتمع، القضية الأساسية للعلمانية هي منح الشخصية العامة والفردية الحق في تعدد الخيارات بحرية، وبالتالي إلغاء الفردية والهيمنة الوحدانية على العقل والسلوك الفردي والجماعي للناس.
من هذا المنظور الجذري لمفهوم العلمانية نفهم لماذا لا يتمسك العقل الإيراني التقليدي ولا من خلال إنعكاس الشخصية فيه وعليه على مبدأ الحرية، ويعتبرها تضحية بمقوم الشخصية الأساسي لديه، لذا فهو مستكين وتقليدي وغير متمرد ويسير على وتيره واحدة حتى عندما يكون في أسوأ الظروف، وهذا ما ينطبق عليه وصف الشخصية (الجارديان) وفق توصيفات عالم الشخصية "لورانس برافيا" *، لكن عندما يدخل دين السلطة في حراك المجتمع نراه من اليسر والسهولة أن ينقاد حتى لو عكس السائد، والدليل أن الصفويين قلبوا تدين الشعب الإيراني من حال إلى حال لمجرد أن تغير مذهب الملك، وكذلك نرى هذا التحول عندما دخلت فارس كلها في دين الإسلام لمجرد هزيمة كسرى وبسط سيطرة دينية جديدة على الواقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* لوراني برافيا في كتابه علم الشخصية قسم الشخصية البشرية وفق لمعيار لفعل ورد الفعل وأثرهما على السلوك العام والخاص إلى ستة مجموعات من (الجارديان: هؤلاء الناس حذرون ومتحفظون ويركزون على الأمن والسلامة. سيفعلون كل ما في وسعهم لتجنب الصراع).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التعبئة الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين تمتد إلى مزيد من ا


.. غزة لأول مرة بدون امتحانات ثانوية عامة بسبب استمرار الحرب ال




.. هرباً من واقع الحرب.. أطفال يتدربون على الدبكة الفلسطينية في


.. مراسل الجزيرة: إطلاق نار من المنزل المهدوم باتجاه جيش الاحتل




.. مديرة الاتصالات السابقة بالبيت الأبيض تبكي في محاكمة ترمب أث