الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أثر الجغرافية البيئية والبيئة الجغرافية في صياغة الشخصية الفردية

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 4 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقسم سطح العراق حسب معظم الجغرافيين العراقيين إلى اربعة اقسام رئيسية وهي السهل الرسوبي والهضبة الصحراوية والمنطقة الجبلية والمنطقة المتموجة، تمتد الهضبة الصحراوية علي طول المنطقة الواقعة غرب نهر الفرات وتمتد إلى صحراء سوريا والأردن والسعودية، وهي منطقة جافة في معظم فصول السنة ويسكنها البدو والرحل وقليلا من المجموعات الثابتة على أطرافها أو بالقرب من منبع المياه والعيون، ويشكلون هؤلاء ظاهرة أقتصادية أكثر من كونها ظاهرة ديموغرافية أو أجتماعية، والغالب فيها أنتشار الكثير من الوديان والتي يصل طول بعضها إلى 400 كم، وتشكل الأمطار الساقطة في الشتاء في بعض الأحيان فيضانات تهدد البدو الساكنين فيها لتتحول في الربيع وبعده إلى مناطق للرعي والأستيطان المؤقت.
تصل مساحة المنطقة الجبلية إلى 92،000 كم مربع ويبدأ جنوب مدينة كركوك بجبل حمرين ويمتد شرقا إلى إيران وغربا إلى سوريا وشمالا إلى تركيا، تبدأ منطقة السهل الرسوبي جنوب بغداد وتمتد إلى الخليج العربي وهي المنطقة التي يمر فيها نهري دجلة والفرات حيث يرتبط هذان النهران بمجموعة من القنوات المائية والجداول والمبازل لتشكل شبكة من الممرات المائية العميقة والضحلة، تصلح للزراعة الديمية الموسمية وتربية الثروة الحيوانية والسمكية التي تشكل عماد أقتصاد العراق والمنطقة بالذات، وكما تضم هذه المنطقة مجموعة من الأهوار التي يعتبر بعضها دائميا والبعض الأخر موسميا، سميت المنطقة بالسهل الرسوبي لترسب كميات كبيرة من أملاح نهري دجلة والفرات وترسبات الرمل والطين في المنطقة، وتوجد بحيرة في جنوب غرب بغداد باسم بحر الملح إشارة إلى كثافة الترسبات الملحية والتي يصل سمكها إلى 20 سنتمتر، ويوجد أيضا بحيرتين شمال بحر الملح وهما بحيرتي الحبانية والثرثار.
المنطقة المتموجة عبارة عن منطقة وسطى بين السهل الرسوبي والمنطقة الجبلية حيث يبدأ مستوى الأرض بالارتفاع تدريجيا. تبدأ هذه المنطقة بين نهر دجلة شمال مدينة سامراء ونهر الفرات شمال مدينة هيت وتمتد إلى سوريا وتركيا، وتعرف أيضا بالجزيرة لوقوعها بين النهرين، تجاورها من الشرق دائما المنطقة الصحراوية المفتوحة غربا وجنوبا، تغطي الصحراء الأجزاء الغربية والجنوبية الغربية من العراق بشكل رئيسي، وهي تتكون من تلال من الحجر الجيري والكثبان الرملية التي تمتد إلى داخل بادية سورية والأردن وصحراء المملكة العربية السعودية، وتنتشر في هذه الصحراء الأودية الجافة التي تمتلئ بالمياه بعد سقوط الأمطار.
هذه هي صورة مبسطة للجغرافية الطبيعية للعراق والتي يظهر من خلالها النقاط التالية:.
أولا_ أن العمق العراقي الحقيقي في الغرب والجنوب وهو عمق مفتوح وسهل عبوره، كما أن هذا الأنفتاح سبب ليكون العراق محط هجرات باعثها دوما العامل الأقتصادي، وفرة المياه مع خصوبة التربة مع عدم القدرة على أن تحمي الجغرافيا هذا المجتمع جعلها قبلة لكل طالبي الحياة الافضل، فالصحراء الواسعة مع محرى الأنهار وقلة عدد سكان العراق مقارنة بالإمكانية الأقتصادية له جعله مستقرا للهجرات الجماعية والفردية التي هي مسئولة عن التنوع الحضاري والثقافي والآثني وحتى الديموغرافي الفريد فيه، لذا فالعراق يعتبر مجتمع ناشئ بأستمرار وقادر على الأستيعاب والتجدد والتنوع مما ولد فيه قابلية الانفتاح والتعامل مع الغريب بطبيعية ملحوظة، وليس مجتمع منغلق على نفسه أو ذا خصوصية التحفظ على الوافد الجديد أفرادا أو ثقافات، المجتمعات المنغلقة أو صعلة التعامل مع الغريب غير قادرة على التحرر من أطرها التقليدية وقوانينها ذات الطبيعة المحلية الصرفة.
ثانيا_ التنوع الجغرافي أنتج تنوعا أقتصاديا وثقافيا وحضاريا مما ساهم في أن تكون الشخصية العراقية ذات أمزجة متنوعة بالإجمال، هذا مرده أصلا تنوع المناشئ يولد تنوعا في الأذواق (فبيئته قد وفرت له إمكانيات لعيشه مريحة وسهلة بتنوع الإمكانيات القادرة على تعدد وتنوع الأنتاج، ثانيا هذا التنوع المرتبط أيضا بالمناخ وظروف الطقس التي وفرت له دورات أقتصادية متعددة، هذه البيئة مشكلتها إنها متقلبة تخبئ له الكثير من المفاجأة المنغصة التي تجعله يعيش في ضغط نفسي ما بين كدرٍ وسرور وبالتالي عدم الأستقرار كما يحدث في الأقاليم المنتظمة طقسيا ومناخيا معتمدة على نمط زراعي محدد وثابت)، ومن المؤكد إن ذلك ترك أثره الواضح الفاعل في عمق الشخصية الفردية، وهذا التصور متأتي من وحي نظرية توينبي في الاستجابة والتحدي (إذ تكون البيئة هي المسيطرة على الإنسان وعليه أن يحصل على بعض المهارات التي تمكنه من تحدي ظروف بيئته الطبيعية) .
ثالثا_ التنوع البيئي الجغرافي بالغالب يبدو عليه الانبساط وعدم التعقيد والأختلاف الشديد بين مكوناتها، مما إنعكس على طبيعة الشخصية العراقية المتسمة بعدم الأختلاف الجذري بين مكونات المجتمع، فأبن المنطقة الجبلية يمكنه التعايش مع بقية أجزاء العراق بقترة بسيطة، مما ولد شخصية بسيطة غنية سريعة الحركة واضحة يمكن قراءة فعلها وردة فعلها بصورة مباشرة، لذا فهي لا تحتاج إلى تحريك الدوافع العاطفية لتستولي على تفكيرها لفترة ما، لكن عند مرور فترة زمنية يبدأ العامل الذاتي في التحرك نحو التغيير بشكل تدريجي، هذا الذي يفسر أحيانا سكون طويل على أوضاع لا تحتمل بشكل طبيعي متعللين بتحمل الشخصية العراقية للصبر بأنتظار اللحظة.
معظم الدراسات الأجتماعية والسيسيولوجية تؤكد أن فعل عوامل الجغرافية والمناخ لها تأثير كبير في تكوين شخصية الإنسان وتحديد أسلوب تفكيره وطريقة معالجته للأمور... فبفحص دقيق يمكننا أن نرى أن الإنسان الذي يولد في منطقة تحيط به إمكانيات أقتصادية أساسية قابلة للإستغلال والأستثمار (مياه ونباتات وحيوانات) كالبيئة العراقية بتنوعها ووفرة المياه والأراضي الخصبة، ستكون حركتها أقل وتفكيرها سيكون أكثر استرخاء فيما يخص إيجاد حلول ذكية من أجل الحصول على أساسيات حياته من شخص آخر يولد في منطقة مقفرة لا ماء فيها ولا نبات، إذ أن هذه البيئة القاسية تفرض عليه أن يعمل من أجل إيجاد مصادر المياه (سواء بالبحث عن المياه الجوفية أو تخزين المياه القادمة من مرات قليلة في السنة تمطر فيها السماء أو تنظيم مجاري الأنهار وبناء السدود)، أو أن يبتكر وسائل نقل تمكنه من الحركة باتجاه المناطق التي (بحسب الفترة من العام) تتوفر فيها مياه ونباتات وربما حيوانات، لذا فشكان هذه البيئة الصعبة والمعقدة لديهم شخصية حذره لا تجازف وغير مسترخية ومشدودة مع الطقس والمناخ أنها تتعامل مع قضية وجودية أصلا.
‌أ. المناخ والطقس البيئي العراقي.
إننا إذا ما حللنا تأثيرات البيئة الطبيعية يصبح من الممكن فهم المميزات العامة للشعوب وتحديد النظم والقوانين الملائمة لها، فمونتسكيو مثلاً يعتقد إن المناخ هو السبب الرئيسي في تشكيل المميزات الفيزيقية والحضارية للمجتمعات المختلفة، كما إن الفروق بين الأجناس ترجع لتأثير البيئة الطبيعية على الإنسان نفسياً وعضوياً وذلك وفقاً لما يؤكده العالم الألماني هردر ، وهناك من يعتقد أن هذه الحياة الصعبة بل الشاقة إلى حد ما تعطي الإنسان القدرة على التحمل والصبر أكثر من غيره وتمنحه عقد نفسية عميقة حذرة وخائفة ومترددة على الدوام، وتجعله أكثر جموداً في أفكاره من الناحية العاطفية مقارنةً بغيره ضمن شعوب أخرى، ولكنها في نفس الوقت تمنحه إمكانية التفكر والإبداع اللغوي الذي يعكس حالة نفسية تحاول المراوغة والتفلت الغير مباشر من المواجهة، وهذا أمر معروف عن الأشعار الجميلة التي ينظمها أفراد هذه الجماعات في أنحاء مختلفة من العالم ومنها مثلا الأبداع اللغوي والشعر في المجتمعات العربية الموسومة بالبدوية.
الأمر المثير للتفكير في هذا الموضوع هو أنه وبالرغم من الأصل الواحد للعنصر البشري ونشوئه في أزمان ساحقة، فقد تمكن البشر من غزو كل بقعة من بقاع الأرض دون أن يحدد مناطق أو يشترط توافر ضروريات الحياة التي نطلبها اليوم سوى الماء بشكل أساسي له ولحيواناته أو لغرض توفير الحد الأدنى من مستلزمات المعيشة، وبذلك تأقلموا مع الظروف والعوامل البيئية السائدة في ذلك الموقع الجغرافي الذي عاشوا فيه ليس هذا فحسب، بل وتمكنوا أيضاً من تطويع المعطيات المحيطة بهم لصالحهم ولصالح استمرارهم في الحياة وتطويرها وتحسين ظروفها بما يضمن توفير أسس أفضل لأجيالهم القادمة، لقد لعب المناخ دورا مزدوجا في حياة البشر فهو منحه القدرة على أن يعيد نظامه الأجتماعي حسب ما تفرضه ظروف المناخ والطقس، وثانيا عمق لديه القدرة على الأبتكار والتأقلم مع الأزمات والظروف الغير مواتية بما فيها تطويع الطبيعة لتخدم أيضا مشروع وجوده.
في الواقع العراقي لعب المناخ المتنوع والذي يصفه غالب الجغرافيون بأنه حار جاف صيفا بارد ممطر شتاء، على صياغة الشخصية العراقية التي تتسم بنوع من التناقض والحدة المتأثرة بتناقضات الطقس والمناخ، كما أن طول فترة الصيف في العراق التي تقارب النصف سنه مع قلة فترة الربيع وقصر فصل الشتاء ساهم أيضا بنوع من الجفاف السلوكي الخالي من رؤية متعددة، فالشخصية العراقية في الغالب هي صاحبة خيار "أما وإما" التي قليلا ما تفكر بالخيار الثالث الوسطي او التفكير خارج صندوق الثنائية المغلق، لذا يتهمها دارسوا علم الأجتماع بالشخصية الحدية العصبية التي لا تتميز بالمرونة الكافية والدهاء بعيد المدى كما نجده مثلا عند الشخصية الإيرانية.
‌ب. دور الماء في تكوين الجغرافية البشرية والأقتصادية العراقية.
يعتبر الماء وتوفر مصادره من أهم العوامل التي جذبت البشر للاستقرار والاستيطان والزراعة والازدهار، ولأن الماء مصدر الحياة بكل جوانبها وأشكالها وهو العامل الأساسي في تسهيلها والسماح باستمراريتها... إذاً من المنطقي القول إن البشر في تاريخ وجودهم الطويل على الأرض هي قصة الماء تحديدا، فقد استقرت الأقوام القديمة والمؤسسة للوجود البشري فقط حول مصادر المياه، وعلى ضفاف الأنهار وبجانب البحار والمحيطات وحول البحيرات الكبرى أو في الواحات الخضراء وصاغوا واقعهم الأجتماعي والأقتصادي بناء على نوع المياه وطبيعتها، حتى الشخصية الفردية تكيفت مع تأثيرات الشكل الذي تتوفر فيه المياه في كل جوانبها المعرفية والنفسية أيضا،...
لكن هذا الاستنتاج تنقصه الدقة على ما يظن البعض، فيعترضون أن الإنسان قد تمكن من استيطان الصحارى بحرارتها المرتفعة وبشح الماء فيها، وتمكن أيضًا من الاستقرار في أجزاء قريبة من القطب الشمالي ببرودة بيئتها، وتمكن في كل الحالات من إيجاد السبل التي تكفل دوماً حياته وتحسينها، الرد على هذا الأعتراض هو أن الإنسان في محاولته التأقلم يبحث عن السبب الأول الذي يجعله قادرا على التكيف وهو الماء حتى في الحدود الدنيا، فقد يضطر تحت عوامل مختلفة أن يلجأ لسكن الصحراء أو في القطب الشمالي ليس تبطرا ولكن لما جعله مضطرا لها بشرط توفر الحد الأدنى من المياه، والدليل أن مساحات شاسعة من البراري لا يمكن أن تسكن لعدم توفر المياه بالقدر الذي يضمن القدرة على التكيف مثل صحراء الربع الخالي.
في الواقع العراقي لعب الماء دورا أساسيا في أولا أستقرار غالب المجتمع العراقي في وحول أماكن المياه نهري دجلة والفرات والأهوار وبحيرات المياه ومساقط المياه في المنطقة الجبلية، هذا الأستقرار المبكر أعاد للشخصية العراقية نوعا من حرية الأختيار في بناء الأقتصاد وفقا للظروف المناخية وتهدد الدورات الأقتصادية، جعل ذلك من العراق أرض معطاءة لا ينفذ عطائها فأمتلك العراقي مساحة كبيرة إذا للتفكر والتأمل والأبداع الذي أنتج أهم وأقدم وأكبر الحضارات في التاريخ، ثانيا تعدد شكل تواجد المياه فوق وفي باطن الأرض ساهم في تنوع أقتصادي وأجتماعي وثقافي بناء على تعدد طرق الأنتاج والتوزيع والموسمية، كل هذه العوامل خففت من غلواء الخوف من الأضطراب المناخي والطقسي إلا فيما يتعلق بالفيضانات الموسمية التي تسبب أضرارا أقتصادية لكنها في نفس الوقت تصلح من طبيعة التربة وتساهم في تجديد الخصوبة فيها.
كل ذلك ساهم في أستقرار أجتماعي ونفسي وأقتصادي في المجتمعات العراقية المتنوعة وساهم أيضا بأمتلاكها القرار فيما يتعلق بطاعتها أو تمردها على السلطة، لأن السلطة تعتمد دوما في تمويلها على الجباية والضرائب، فليس للدولة مورد مالي غير ما يدفعه المجتمع لها حتى ظهور النفط في بداية القرن العشرين، عندها تغيرت المعادلة وأصبح المجتمع والمواطن هو من في حاجة للدولة وأموالها من خلال العمل لديها وبأجهزتها، التي تؤمن نفقاتها من خلال سيطرة الدولة على الموارد الأساسية من النفط والمعادن والثروات الأخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ماذا عن إصدار محكمة عسكرية حكما بالسجن سنة بحق المعارض


.. مشاهير أمريكا. مع أو ضد ترامب؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الولايات المتحدة وإسرائيل ..الدعم العسكري| #التاسعة


.. ما هي التقنيات الجديدة لصيانة المباني الشاهقة؟




.. حماس تتهم إسرائيل بقطع الطريق على جهود الوسطاء | #غرفة_الأخب