الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الوجود واللغة والضجر

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 5 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عادة ما نقول في اللغة العربية عن الحجر المُلقى في الطريق إنه "موجود"، ونقول عن الإنسان الذي يلتقط هذا الحجر أيضًا إنه موجود، ولكن من المؤكد أن هناك فرقًا أساسيًّا بين الإنسان والحجر. إن الأوَّل «وجود في ذاته»، والثَّاني «وجود من أجل ذاته»، وبرغم الصعوبة الظاهرية التي قد يجدها القارئ في هذه المصطلحات، فإن الفكرة واضحة كل الوضوح، إذا أستعملنا لغة الفلسفة بدلا من لغة الصحافة أو الأدب، فالأشياء "كائنة في ذاتها" بمعنى أنها منطوية على نفسها، تستهلك كامل كينونتها في تلك الصفات التي تكون عليها في أي لحظة معينة، أمَّا الإنسان فهو "كائن من أجل ذاته"، فلا يمكن أن تستنفد جميع أبعاده في أي لحظة بعينها، ولا يمكن أن تحدد سماته كلها من خلال مجموعة من الأوصاف الجاهزة المعدة سلفًا؛ ذلك لأن الإنسان هو - قبل كل شيء - «مشروع» يتجه نحو المستقبل ويستهدف تحقيق غايات يرسمها مقدَّمًا، وهذا الاتجاه الدائم نحو ما لم يتحقق بعد، هو سمة أساسيَّة تميز وجود الإنسان، وتفرق بينه وبين وجود الأشياء، فوجود الإنسان غير مكتمل، وعدم اكتماله هذا صفة إيجابية فيه وليس مظهرًا للنقص؛ لأنه لو كان مكتملًا لأصبح كالحجر الذي اكتسب جميع صفاته ويستحيل أن يغير فيها شيئًا، فالإنسان كما يقول سارتر " هو ما ليس هو، وليس هو ما هو". ونحن في حياتنا اليومية لا نحتاج لممارسة الفكر ولا الفلسفة ولا لمقولات أرسطو للجلوس في المقهى وشرب قهوة مع الأصدقاء والحديث عن السياسة والفن والمجتمع والحياة عموما، حيث نستعمل اللغة لممارسة الحديث العادي للتواصل بين البشر. وفي زحمة الحياة العادية، ليس لدينا الوقت الكافي، بالإضافة أنه ليس هناك ضرورة للتدقيق في الألفاظ والمفاهيم، مما يجعلنا في الكثير من الحالات نضفي حالة "الوجود - existence"، بدلا من "الكينونة - être" على كل الأشياء المحيطة بنا .. غير أن الفلسفة علم من العلوم الدقيقة له مصطلحاته ومفاهيمه التي يجب إستعمالها في مدلولها المناسب والصحيح إذا أردنا الإيضاح والدقة والتمييز بين الوجود والكينونة.
إذا هناك العالم وهناك الإنسان، هناك الكينونة وهناك الوجود. العالم هو كل ماهو ليس الإنسان، السماء والأرض والبحر والشمس والقمر والنجوم والكواكب والمجرات، أي عالم الكائنات بأكمله، الكائنات الطبيعية من حيوان ونبات وجماد، وأيضا الكائنات التي أبدعها وخلقها الإنسان من كائنات مادية أو فكرية. والإنسان مكون من مكونات هذا العالم وليس مقابلا له. التقابل "إنسان - عالم" يفرضه العقل التحليلي الذي يريد أن يفهم ويسبر أغوار الأشياء المحيطة به فيحول العالم إلى موضوع. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له هذه القدرة الخارقة المسماة بالوعي consciousness - conscience والذي يجعله يعي ذاته ويعي العالم في نفس الوقت، ويعي كونه يتأرجح بين الكينونة والوجود. أما العالم، فإنه هو كما هو عليه، ليس له أية إمكانية لوعي ذاته أو لتجاوز هذه الذات المغلقة والإنفلات منها إلى الخارج، فالحجر في ذاته ليس له داخل ولا خارج ولا لون ولا ملمس، إنه كتلة صماء من الكينونة المطلقة. ذلك أن الموت والحياة والفناء والزمان والمكان والفراغ والجمال والقبح .. إلخ، هي مقولات تأتي إلى العالم عن طريق الإنسان الذي يضيفها إلى مكوناته، أما الأشياء فإنها "كائنة" فقط ولا غير.
ولكن هناك علاقة غريبة وشبه سحرية بين الإنسان وبين هذه الكائنات المتعددة والتي لا تكف عن التكاثر والتي تزاحمه الحياة وتشاركه في كينونته وتضيق عليه فضائه الحيوي. فهذه الملايين والمليارات من الأشياء، لا بد للإنسان من معاينتها وتحديدها وترتيبها ليتمكن من التعامل معها واستخدامها في أغراضه المختلفة، فاختلق اللغة لهذا الغرض وأعطى إسما لكي شيْ. ولا ننسى أن الأساطير الدينية أعطت لله هذه القدرة على تسمية الأشياء { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ]، أما في التوراة ( تكوين 2 : 19 ) فيبدو أن آدم هو الذي سمى الأشياء بأسمائها " وكان الرب الإله قد جبل من التراب كل وحوش البرية وطيور الفضاء وأحضرها إلى آدم يرى بأي أسماء يدعوها ، فصار كل اسم أطلقه آدم على كل مخلوق حي اسمًا له ". وفي الأدب المعاصر هناك العديد من الأعمال التي تعالج هذه العلاقة الثلاثية بين الإنسان واللغة والأشياء. ففي رواية بول أوستر Paul Auster، الروائي الأمريكي المنشورة سنة ٢٠٠٦ بعنوان Travels in the -script-orium والتي تتابع قصة السيد بلانك Mr. Blank، والذي يكتشف نفسه محجوزا في غرفة بلا نوافذ وبها القليل من الأثات، فاقدا للذاكرة، لا يعرف شيئا عن تاريخه الشخصي ولماذا هو في هذا المكان. نذكر هذا العمل الروائي بخصوص معالجته في البداية لمشكلة الأشياء المحيطة بالإنسان وضرورة تدجينها والتحكم فيها بواسطة تسميتها. السيد بلانك بسبب فقدانه للذاكرة، فقد أيضا العلاقة بين الأشياء وبين الكلمات التي تدل عليها، فلجأ إلى استعمال قطع من الأشرطة اللاصقة، والتي يلصقها على الأشياء المحيطة به كاتبا أسمائها، جدار، تلفون، كتاب، كرسي، طاولة، سرير إلخ، والمثير في الأمر أننا لا نعرف ما إذا كان السيد بلانك قد نسي "الكلمات" التي تدل على هذه الأشياء كالطاولة والكرسي والسرير، أم أنه يتذكر الكلمات ولكنه لا يعرف ما تدل عليه. ونذكر أيضا بهذا الخصوص القصة القصيرة للكاتب السويسري بيتر بيشسل Peter Bichsel بعنوان A table is a table والتي تتعلق بهذا الرجل المتقاعد والذي يبدو عليه التعب والإرهاق من السنين الطويلة التي عاشها في هذه المدينة الصغيرة، ويبدو عليه الملل من هذه الحياة المتكررة كل يوم بدون أي شيء جديد تحت الشمس. وبقي وقتا طويلا وهو يفكر كيف يغير حياته الروتينية ويجعلها أكثر إثارة مما تعود أن يفعله في كل يوم، النوم والإستيقاظ وتناول الإفطار وقراءة الجريدة الصباحية، ثم الخروج للتمشي في الحديقة المجاورة وتحية الجيران وتبادل نفس الكلمات يوميا ثم العودة ثانية إلى شقته لمعاودة الروتين اليومي إلى ما لا نهاية. وبينما هو يفكر، نظر حوله في أنحاء الحجرة ليجد نفس الأشياء تحدق فيه كما هو الحال منذ سنوات، نفس الطاولة ونفس الكرسي ونفس المنبه ونفس الجريدة ونفس النافذة ونفس السرير ونفس السجادة .. وهنا جائته الفكرة المضيئة التي ستنقذه من ملل الحياة وسأمها وكأنها وحي من السماء، لتغيير هذا العالم المحيط به ما عليه سوى أن يغير أسماء هذه الأشياء، لماذا لا يسمي الكرسي جريدة، والجريدة سرير، والسرير منبه، والمنبه طاولة، والطاولة سجادة، والسجادة مرآة، والمرآة دولاب .. إلخ وبالفعل منذ هذه اللحظة تغيرت حياة الرجل، وأصبحت حياته أكثر إثارة وبدأ في تعلم اللغة من جديد، وبدأ في تدوين هذه اللغة الجديدة وأنشأ قاموسا ضخما خاصا به. وبعد وقت من الزمن بدأ ينسى لغته الأصلية، وتدريجيا لم يعد يفهم ما يقوله له الناس الذين لا يعرفون لغته، والناس بدورهم لا يفهمون ما يقوله، رغم إستعماله وإستعمالهم لنفس الكلمات. وانتهى به الأمر إلى الصمت المطلق ولم يعد يقول أي شيء لأي أحد. القضية في هذين المثالين تتعلق بما يسمى بـ" الدلالة" Signification. الكلمات تدل على أشياء حقيقية، مادية أو غير مادية، الكرسي والطاولة والسرير هي أشياء نستعملها في حياتنا اليومية للجلوس والكتابة والنوم. الدلالة هي العلاقة التي نتجاوز فيها أحد الحدين - الدال - إلى ما يدل عليه. فكلمة كلب مثلا، توجه إنتباهنا إلى الكلب الحقيقي الذي ينبح ويعض و ويحرك ذيله فرحا ويتبع سيده، وتجعلنا نتجاوز هذه الحروف أو الأصوات المكونة للكلمة. وهذه الحروف والأصوات ما هي إلا عملية إتفاقية بين أعضاء مجموعات إجتماعية وثقافية محددة. فاللغة الإنجليزية تستعمل كلمة Dog والفرنسية كلمة Chien واليونانية كلمة σκύλος والأمازيغية ayeddi أو أغرزول للدلالة على الكلب. فكل هذه العلامات المختلفة تشير إلى نفس الحيوان الأليف صديق الإنسان كما يقال. فالدلالة إذا هي علاقة متفق عليها تجعل شيئا ما حاضرا يحل محل شيء آخرغائبا كان أم حاضرا. فاللغة إذا هي مملكة الدلالات بلا منازع، حيث تعلم الإنسان منذ العصور البدائية أن يشير إلى الأشياء التي تملأ العالم بواسطة علامات صوتية في البداية ثم بواسطة حروف منقوشة تمثل هذه الأصوات، وذلك من أجل التواصل بين البشر وبناء الحياة الإجتماعية وتنظيمها. غير أن الإنسان لا يكتفي بتسمية الأشياء والإشارة إليها بواسطة اللغة، وإنما يبحث عن معنى هذه الأشياء، والمعنى Sens يختلف إختلافا جوهريا عن الدلالة. فهذه الأشياء المحيطة بنا تنضح وتزخر بالمعنى، وهذا المعنى رغم غموضه وصعوبته على الإستقراء فإنه يرجع بالدرجة الأولى إلى الإنسان، المصدر الوحيد لمعنى العالم والأشياء والظواهر. فليس هناك معنى قبلي يسكن نواة الأشياء قبل أن تلتقي بالإنسان، وليس هناك عمليات جيولوجية يقوم بها الإنسان ليكتشف أعماق هذه النواة وليس هناك عملية تقشير أو تعرية أو غوص في أعماق الأشياء كما يدعي الشعراء والمتصوفة. المعنى إذا لا علاقة له باللغة. فمعنى الشيء ليس ملتصقا به ولا مدسوسا أو مخبأ في أعماقه خارج الإرادة الواعية للإنسان، فهذه الشجرة أو هذا الكرسي أو هذا الجزء من الشاطيء أو هذا الشارع له معنى بالنسبة لي أنا، فأنا الذي أزود هذه الأشياء بالمعنى الذي سيكون كينونتها وجوهرها. وربما إتخاذ مثال يتعلق بالأعمال الفنية سيجعل الأمر أكثر وضوحا. ففيما يتعلق بالفنون التشكيلية وبالذات الموسيقى، والتي في صميمها عمل غير دلالي، عادة ما يتسائل المشاهد أو المستمع عن معنى هذه اللوحة أو هذه الصورة أو معنى هذه القطعة الموسيقية، ونتسائل نادرا عن دلالة اللوحة أو السيمفونية. مع العلم أنه في الغالب ما يخلط هذا المشاهد والمستمع بين المعنى والدلالة. فالمعنى هو أن الشيء أو الظاهرة أو الواقعة الحاضرة تشارك بكينونتها كينونة شيء أو ظاهرة أخرى، حاضرة أو غائبة، مرئية أو غير مرئية، أي أنها تمثل وتجسد حقيقة تتجاوزها، ولكننا لا نستطيع الإحاطة بها خارجها أو بمعزل عنها، ولا نستطيع، ولا يمكن التعبير عن هذه الحقيقة بأي نظام لغوي مهما كانت درجة دقته. إن معنى الشيء هو حقيقته التي تتجاوزه لتشمل العالم أو العصر بأكمله، فأي لوحة فنية أو قطعة موسيقية على سبيل المثال، فإنها شيء كلي متكامل لا يمكن فصل معناه عن القطعة ذاتها، ولا " تدل" ولا تعني أي شيء آخر غير ذاتها كقطعة موسيقية. معنى الصورة أو المنظر الطبيعي أو اللوحة أو القطعة الموسيقية هو كينونتها في هذا الزمان والمكان وأمام هذه الأعين التي تشاهدها، ولا تشير إلى أي شيء خارجها. وهذا لا يعني عدم وجود دلالة لبعض الأعمال الفنية، وبالذات الرمزية منها. فعندما نتمعن في لوحة غيرنيكا Guernica لبيكاسو، فإن دلالتها واضحة ومعروفة بسبب الظروف التي رسمت فيها هذه اللوحة وهدف بيكاسو الواضح للتعبير عن موقفه ضد الحرب والعنف والهجوم النازي والفاشي الذي قام بقصف هذه المدينة الصغيرة في بلاد الباسك بالطائرات في ٢٦ أبريل سنة ١٩٣٧ أثناء الثورة الإسبانية. وفي هذه الحالة تتحول اللوحة إلى رمز أو إشارة للدلالة على شيء آخر غير اللوحة ذاتها، مثل الوقوف ضد الحرب والعنف أو مساندة الثورة أو الإنسانية إلخ، وتفقد بطريقة ما جزءا من هويتها الفنية والجمالية.
ومن ناحية أخرى يمكن إعتبار فوسكا، بطل رواية سيمون دو بوفوار الذي ذكرناه سابقا، النقيض الموضوعي لجلجامش الذي تعذّبه فكرة الموت والفناء وفكرة أن الدود والتراب سيأكلون جسده كما حدث لصديقه إنكيدو. أما فوسكا فإنه وصل مرحلة فقد فيها إنسانيته ولم يعد قادرا على الحياة رغم أنه لا يستطيع الموت، وهو معذب نتيجة أن الحياة لا تتغير والأيام كلها متشابهة والبشر كلهم سواء، لأنه عاش أكثر من خمسة قرون متتالية، بكل بساطة لقد أصابه الملل من كثرة الحياة تماما مثل المتقاعد بطل قصة Peter Bichsel "الطاولة هي طاولة". 
أما جراهام جرين Graham Greene، الكاتب والجاسوس الإنجليزي فقد عالج بدوره إشكالية الملل، وحاول طيلة حياته قتل الملل والضجر من الحياة، حيث سافر مبتعدًا عن إنجلترا، نحو ما سماه الأماكن الموحشة والنائية في العالم قلب الظلام - «heart of darkness»، حيث أدت رحلاته العديدة إلى تجنيده في جهاز الاستخبارات البريطاني على يد أخته إليزابيث، التي عملت في الوكالة، ولذا، نُقل إلى سيراليون خلال الحرب العالمية الثانية. كان كيم فيلبي، الذي كُشف لاحقًا بوصفه عميًلا سوفيتيًا، مشرفًا على جرين في الوكالة وصديقًا له وكتب جرين مقدمة لمذكراته. في 1935 قام برحلة عبر ليبيريا، وصفها في كتابه " رحلة بلا خرائط Journey Without Maps". وهي رحلته الأولى خارج أوروبا، وكانت المناطق الداخلية من ليبيريا في ذلك الوقت غير معروفه للأوروبيين وبدون خرائط (كانت خريطة الحكومة الأمريكية تمثل المناطق الداخلية في ليبيريا بمساحة بيضاء كبيرة مكتوب عليها جملة "آكلة لحوم البشر - "cannibals"، ولذا فقد اعتمد على المرشدين المحليين والحمالين للقيام برحلته. وقد أكتشف أثناء هذه الرحلة حقيقة بسيطة لم يكن يعرفها من قبل على ما يبدو وهي "حب الحياة"، وهو الشيء الذي افتقده فوسكا. وفي مقالة كتبها جراهام جرين بعنوان "المسدس في خزانة الزاوية"، يحكي كيف أنه حينما كان صبيا كان يحب اللعب بالموت لأنه لم يكن يعرف ماهيته الحقيقية. لقتل الضجر والملل من الفراغ، كان يلعب بمسدس أخيه لعبة الروليت الروسية Russian roulette هي لعبة الصدفة أو الحظ، خطرة ومميتة نشأت في روسيا القيصرية. يقوم الشخص الذي يود القيام بها بوضع رصاصة واحدة في المسدس، ثم يقوم بتدوير الإسطوانة التي يمكن أن تحمل ست رصاصات عدة مرات بحيث لا يعرف مكان الرصاصة، ومن ثم يوجه المسدس نحو رأسه ويسحب الزناد، احتمال إنطلاق الراصة هو 1 من 6. لعبة البوكر الروسية التي تختلف عن لعبة الروليت الروسية في أن اللاعبان فيها يقوم كل منهما بتوجيه المُسدس إلى رأس اللاعب الآخر، أما في الروليت الروسية فيقوم اللاعب بتوجيه المُسدس إلى رأسه هو نفسه. وفي كتابه "طرق للهروب - Ways of Escape"، فإنه يحلل أفعاله في الحياة، من الرحلات والكتابة والتجسس والمغامرات المختلفة كوسيلة للهروب من الضجر "أتساءل أحيانا كيف يمكن لأولئك الذين لا يمارسون الإبداع - سواء الأدب أو الرسم أو الموسيقى - أن يهربوا من الجنون والكآبة والذعر المتأصل والملازم للوضع الإنساني ". أما مالون، بطل بيكيت التراجيدي اللامعقول، والذي يتحدث عن حياته الماضية الغريبة، حيث كان سائلا في البداية ثم تحول إلى شيئ ما يشبه الوحل، أو حين كاد أن يضيع في ثقب إبرة: " ولكن ما الفائدة ؟ سواء ولدت أو لم أولد، عشت أو لم أعش، ميت أو في سبيلي إلى الموت. سأمضي فيما أفعله كما أعتدت أن أفعله دائما، دون أن أعرف ما الذي أفعله أو من أنا أو أين أنا أو إذا كنت أنا هو أنا "
أما تشسترتون Chesterton الكاتب الإنجليزي مبدع شخصية القسيس المحقق Father Brown، فإنه على العكس من بيكيت يرى أن "اللاشيئية" ما هي إلا نوع من سوء الهضم الروحي المرتكز على الكسل والوهم الذاتي. ولا شك أن "اللاشيئية" تغطي مفاهيم عديدة في فكر تشيسترتون المؤمن والداعي المتحمس للمسيحية الكاثوليكية، مثل العدمية والعبثية واللامعقول .. إلخ 
هذه القرائن المستقية من الفكر الأوروبي المعاصر تذكرنا بأهمية الموضوع الذي نعالجه وتسربه في كافة النشاط الفكري والإبداعي، ويدعونا لضرورة محاولة إعادة السيطرة على هذه المفاهيم المتشعبة وزيارتها من جديد وإسترجاع خطوطها ودوائرها وتشعباتها المتعددة، وذلك من أجل توضيحها وتنقيتها من شوائب المثالية وتنظيفها من آثار الفكر الرجعي الذي يجذب المجتمعات الإنسانية نحو الهاوية، هاوية الغيب والميتافيزيقا لنسقط في دوامة التلفيق ودمج الأسطورة بالتاريخ ومضغ الأحلام القديمة وإجترارها على مدى القرون.
إن أغلب المفاهيم المرتبطة بالنفي والسلب والرفض والخواء واللاشيئ والملل وعدم القبول وعدم اليقين، كالعدمية والعبثية والإرتيابية والوجودية والضجرية واللامبالاة وغيرها، هي محور وقلب الإنسان الواعي الذي يطمح في التحكم في حياته بحرية مطلقة، وهي بالضرورة تشكل مستقبل هذا الإنسان وحاضره، ومنبع كل إمكانياته الخيالية والفكرية وعليه أن يبني حياته ويشيد مشروعه الوجودي-الإجتماعي إنطلاقا من هذه المفاهيم وأن يعطيها مضمونها الخلاق وكل إمكانياتها الإبداعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا لست إنترنت.. لن أستطيع الإجابة عن كل أسئلتكم-.. #بوتين


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضغطه العسكري على جباليا في شمال القطاع




.. البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان يزور السعودية


.. غانتس: من يعرقل مفاوضات التهدئة هو السنوار| #عاجل




.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح