الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفنّ والعمارة في بلاد الرافدين

عضيد جواد الخميسي

2024 / 5 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تُعدّ المنجزات الفنية والمعمارية الرافدينية من بين الأقدم في العالم، حيث يعود تاريخها إلى أكثر من 7000 عام . وقد ظهر العمران لأول مرة في شمال بلاد الرافدين قبل فترة العُبيد (حوالي عام 5000-4100 قبل الميلاد) ثم تطوّر في الجنوب خلال فترة أوروك (عام 4100-2900 قبل الميلاد) في سومر؛ مهد أول حضارة في التاريخ .
وحسب رؤية بعض العلماء، فإن الأعمال الفنية والمعمارية في حضارة وادي السند (حوالي عام 7000 ـ 600 قبل الميلاد) كانت قد سبقت بلاد الرافدين في هذا الجانب ؛ إلا أن معالمها لم تتبلور إلاّ في فترة هاراپان المبكرة (حوالي عام 5500-2800 قبل الميلاد)؛ رغماً من أن بلاد الرافدين كانت المتفوقة عليها عمراناً وفنّاً في الفترة نفسها . كما تبرز الأعمال الفنية والبناء المُبكر في شمال بلاد الرافدين من خلال مواقع مثل "يوبيكلي تپه" (حوالي عام 10,000 قبل الميلاد) ، و"أتّالهويوك" ( حوالي عام 7500 قبل الميلاد)؛ وكلاهما في تركيا ، و"تل برك" (حوالي عام 6500-5000 قبل الميلاد) في سوريا .
تطوّر النشاط العمراني بعد ذلك عبر الأزمنة التالية ، رغماً من عدم تناول الفترتين الحثّية والكيشية ؛ لضيق مساحة النشر:
فترة العُبيد – عام 5000-4100 قبل الميلاد .
فترة أوروك – عام 4100-2900 قبل الميلاد .
فترة الأسرات المُبكرة – عام 2900-2334 قبل الميلاد .
الفترة الأكدية – عام 2334-2218 قبل الميلاد .
فترة أور الثالثة – عام 2047-1750 قبل الميلاد .
الفترة البابلية القديمة – عام 2000-1600 قبل الميلاد .
الفترة الحثّية – عام 1700-1200 قبل الميلاد .
الفترة الكيشية – عام 1595 ـ 1155 قبل الميلاد .
الفترة الآشورية – عام 1307-912 قبل الميلاد .
الفترة الآشورية الجديدة – عام 912-612 قبل الميلاد .
الفترة البابلية الجديدة – عام 626-539 قبل الميلاد .
الفترة الأخمينية (الفارسية الساسانية ) عام 550 قبل الميلاد ـ عام 651 ميلادي .

لقد تضمنّت الأعمال الفنية ؛ النقوش ، النحوت ، التماثيل المعدنية ،السيراميك ، المجوهرات ،الأختام الأسطوانية ، النُصب التذكارية ، المسلاّت ، واللوحات الجدارية . كما تجسّدت العمارة الأثرية لبلاد الرافدين في بناء الزقّورات . وكان السومريون أول من شيّد القصور والمعابد ، بالإضافة إلى التخطيط العمراني، البناء المقوّس، قنوات الرّي والسدود، تنظيم المساحات الخضراء ذات المناظر الطبيعية (البستنة)، والزخرفة المعمارية ، الطرق الداخلية والخارجية . وباتت تلك الاختراعات المُبكرة أكثر دقّة وجودة في المنطقة خلال الفترات اللاحقة ؛ والتي بدورها قد أثرّت على نهوض الحضارات وتوسّع الثقافات في منطقتي الشرق الأدنى والبحر الأبيض المتوسط .

المواقع القديمة والمواد المستخدمة
على الرغم من أن موقع يوبيكلي تپه يعود تاريخه إلى نحو عام 10,000 قبل الميلاد ؛ إلا أن الاعتقاد السائد عن تلك المستوطنات الدائمة الأولى في المنطقة قد تم إنشاؤها في وقت أبكر، وربما لغرض خاص لبناء الهيكل الذي يعتقد معظم العلماء أنه كان معبداً. كما يُعدّ يوبيكلي تپه من بين أقدم المواقع إلى جانب مواقع أخرى مثل "نيڤالي چوده" ( في تركيا)، التي تتميز بالهندسة المعمارية الأثرية ؛ بما في ذلك أقدم المگليثات Megaliths (صخور أو حجارة ضخمة على هيئة صروح ) المعروفة في العالم ، بالإضافة إلى النقوش البارزة .

من الناحية الهندسية؛ يتكون موقع يوبيكلي تپه من مناطق دائرية ومباني مستطيلة ذات أعمدة من الحجر الجيري على شكل حرف T، بعضها منحوتاً لصور الحياة البرّية و بنقش بارز متباين الملامح . بيد أن هناك القليل من الأدلّة على النشاط البشري في المنحوتات التي يبدو أنها تؤكد على الطبيعة وعن علاقة الناس بآلهتهم في بعض التفسيرات . كما يربط بعض العلماء الموقع بمستوطنة أتّالهويوك التي جاءت بعدها؛ على الرغم من أن هذا الرأي قد اُعتُرض عليه . لأن تصميم موقع يوبيكلي تپه واللُقى التي عُثر عليها فيه تختلف عن التي في موقع أتّالهويوك . وأيّاً كان الغرض من وجود يوبيكلي تپه في الأصل؛ فإنه يعدّ موقعاً مشتركاً مرتبطاً بالطقوس، بينما كان أتّالهويوك موقعاً سكنياً بالكامل . إلا أنه لم يُعثرعلى أي مبانٍ عامة في الموقع ، الذي يتكون من مساكن مترّاصة من الطوب الطيني؛ حيث يمكن الوصول إليها عن طريق السلالم أو الدرجات من فتحة في السقف . كما تشمل الأعمال الفنية في الموقع؛ الجداريات والتماثيل ؛ مثل المرأة الجالسة الشهيرة في أتّالهويوك ، بالإضافة إلى الأعمال البسيطة من السيراميك . ويبدو أن العمل الفني يركز على عالم الطبيعة ومفهوم الخصوبة ؛حيث تمثلت عدة قطع أثرية برموز جنسية انثوية وأخرى ذكرية .

استخدم سكان أتّالهويوك الطين والحجر الجيري والرخام ومواد أخرى لصناعة تماثيلهم ، وطلاء من مواد طبيعية. وعادةً ما يتم تفسير التماثيل والمنحوتات والجداريات على أنها ترمز لمفاهيم دينية؛ لكن هذا الرأي غير مقبول علمياً ولا تاريخياً ؛ إذ لا يوجد دليل على التخطيط الحضري في الموقع . ويبدو أنها قد تطورت بشكل أساسي مع المباني المرتبطة ببعضها البعض والأشخاص الذين يستخدمون سطوح المنازل للأنشطة والحركة الجماعية ؛ حيث لا توجد شوارع أو أروقة وممرات أو ساحات عامة .

العُبيد وأوروك
يُعتقد أن شعب العُبيد هم سكّان المنطقة المحيطة بـ أتّالهويوك الذين هاجروا جنوباً قبل هجرة الأقوام المجهولة الذين عاشوا في الجبال ثمّ انتقلوا إلى سهول بلاد الرافدين حوالي عام 5000 قبل الميلاد . ويتميز فنّ فترة العُبيد بشكل رئيسي بصناعة الخزف المزخرف بالأشرطة الدائرية والمتعرجة المطلية ، بالإضافة إلى صور الحيوانات . كما تشمل الأعمال الأخرى ؛ التماثيل والأختام البدائية ، والتي هي حسب رأي بعض العلماء، كانت أقدم شكل من أشكال الختم الأسطواني .
من بين الأختام الأكثر شهرة تلك التي تم اكتشافها في أنقاض مدينة گيرسو السومرية القديمة ، والتي تصور شخصية بشرية وذراعيها ممدودتين نحو هيئة حيوان على كلا الجانبين . ويُعتقد أن هذا التصميم يرتبط بمفهوم الآلهة التي تؤسس للنظام من خلال تربية الحيوانات والسيطرة على الأراضي الغير مأهولة . وقد عُثرعلى هذا الطراز من الأعمال الفنية في جميع مناطق الشرق الأدنى، بما في ذلك بلاد النيل ، و حضارات البحر الأبيض المتوسط ​​مثل اليونان وروما .
تُشبّه أبنية العبيد بأبنية أتّالهويوك في المساكن المستطيلة المشيّدة من الطوب الطيني ( اللّبِن) أو القصب، بيد أن شعوب هذه الفترة شيّدوا المباني العامة لأول مرّة بما في ذلك المعابد، والتي حسب رأي علماء العصر الحديث؛ ظهرت نسخة مبكرة من البناء المقوّس المستوحى من تصميم منازل القصب؛ حيث تُثنى حزم من القصب لتشكل سقف المنزل، وهو ما قد اُستخدم أيضاً في مداخل المعابد المصنوعة من الطوب الطيني .
يُعتقد أن مجتمعات فترة العبيد أخذوا أيضاً في بناء الزقورات الأولى، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن تطوير هذه الهندسة المعمارية الضخمة قد حصل بشكل كامل خلال فترة أوروك . كما تبدو الهندسة المعمارية في فترة أوروك؛ مشابهة لموقع تل برك من حيث تقنيات البناء والتخطيط الحضري . وخلال فترة أوروك؛ ظهرت المدن الأولى . وحسب سجلات السومريين؛ فقد كانت مدينة أريدو أقدمها ، المكان الذي أنزلت فيه الآلهة الملكية والعالم المنظّم .
كانت القصور والمعابد وورش التصنيع والمباني العامة ومنازل الطبقة العليا خلال فترة أوروك؛ مبنية من الطوب الطيني ، بينما كانت منازل الطبقة الدنيا بناؤها من القصب. وتحيط الأسوار وأبراج المراقبة معظم المدن، كما يظهر استخدام القوس واضحاً في تصاميم الأبنية العامة والمنازل . وكانت الأسوار والمعابد قد تم بناؤها من الطوب الطيني المستدير بنوعيه المفخور والمجفف بأشعة الشمس .
ومن الأعمال الفنية في فترة أوروك ، إختراع الكتابة عام 3500 قبل الميلاد، والأختام الأسطوانية، السيراميك، التماثيل، الألواح المزخرفة، النقوش، والتمائم . ومن أشهر تلك الأعمال ؛ قناع الوركاء ، ومزهرية الوركاء، وكلاهما عثر عليهما في بقايا أطلال أوروك ، وكلاهما مرتبط بالإلهة إنانا . والأعمال الفنية كانت مصنوعة من الطين أو المرمر أو الكوارتز أو أي حجر آخر. ويصوّر بعضها بوضوح روايات تتعلق بالآلهة أو عالم الطبيعة أو كليهما. وتظهر أيضاً تماثيل الإقطاعيين بهيئة الملك الكاهن، وبعضها بتفاصيل أكثر .

الأُسر المبكرّة والأكدية
خلال فترة أوروك؛ أُنشأت قنوات الرّي ومجاري المياه . وكما أسلفنا؛ بدأت المدن في النهوض بزقّوراتها العظيمة. وقد استمرت هذه الفعاليات وأصبحت أكثر انتشاراً خلال فترة الأسرات المبكرة؛ وذلك عندما انفصلت السياسة عن الدين في المسؤوليات والحقوق . كما ازدهر الفنّ وتطورّت العمارة خلال هذه الفترة مثل المجالات الأخرى . وقد ابتكر الفنان سواءً كان مهندساً معمارياً ، أو بنّاءً ،أو نحّاتاّ ،أو أي حرفي و مهني آخر ؛ بعضاً من أكثر الأعمال ابداعاً التي احتفظت بها الذاكرة حتى يومنا هذا . وقد كتب البروفيسور ستيفن بيرتمان التعليق التالي حول شخصية الفنّان الرافديني القديم :
"حاضراً؛ انطباعاتنا عن الفنّان أو الفنّانة في السياق العام ؛ تميل إلى التفكير في شخص بمفرده يستخدم موهبته لغرض التعبير عن الذات ، وهو شخص غير ملتزم عندما يتحدى الأعراف والتقاليد ، وحتى على حساب وضعه المالي . والمتميزون عادة هم معروفون بأسمائهم؛ ولربما يكون هذا صحيحاً بالنسبة للفنانين المعاصرين، إلا أنه لم يكن صحيحاً بشكل عام بالنسبة للفنانين القدامى باستثناء اليونانيون(حيث تألقت المواهب الفردية) . وبدلاً من الفردية وغير المُلزمة ؛ كان معظم الفنانين القدماء ينساقون وراء المجتمع وتقاليده . فقد كان زخم الإقبال على الأعمال الفنيّة يأتي من الدولة، المتمثلة بالمعبد أو القصر ، والباقي يأتي من عامة الناس؛ الذين كانوا يزوّدونهم باحتياجاتهم اليومية. لذلك قد يكون من المفيد أن نتصور فنّاني بلاد الرافدين كحرفيين وصنّاع على أنهم كانوا يضمنون سبل عيشهم من خلال فائدة وجمال الأشياء التي تنتجها مهاراتهم ومواهبهم مثل : الفخّار،التماثيل، اللوحات الجدارية، الفسيفساء، الزجاج،الأختام الأسطوانية، المنحوتات العاجية ، والمجوهرات . وكذلك النحوت والنقوش لتبجيل ملوكهم وآلهتهم . وبسبب اتبّاعهم لمصالحهم؛ بقي فنانو بلاد الرافدين العظماء مجهولين؛ ولكن من خلال أعمالهم الفنّية فقط ؛ حُفظت هويتهم ." (ص 214)

لربمّا كان هذا صحيحاً بشكل عام؛ إلا أن أسماء العديد من الفنانين هي معروفة ومذكورة في أعمالهم المُنجزة ، أو أُشير إليها من قبل الكتّاب اللاحقين؛ حيث كان الفنّ والموهبة عموماً صفات تحظى باحترام كبير من قبل المجتمعات . وقد تجاوزت أعمال فترة الأسرات المبكرة الأعمال الأقدم من حيث النوع والكم ؛ بسبب ازدهار التجارة ، وتطوّر دول ـ المدن في بلاد الرافدين .
من بين الأعمال الأكثر شهرة لهذه الفترة هي؛ جدارية أور، نُصب النسور، كبش الأدغال، عصابة رأس الملكة پواپي (عام 2600 قبل الميلاد)، والكنوز الأخرى التي اُستخرجت من قبرها في أور، بما في ذلك قيثارة الملكة برأس ثور. كما تجسّد جدارية أور مشاهد الحرب والسلام في بلاد الرافدين ؛ وذلك من خلال ثلاث مقاطع أفقية من الشخصيات تحكي فيها قصصاً ؛ وهي تقنية اُستخدمت أيضاً في وقت سابق على مزهرية الوركاء؛ والتي يبدو فيها حجم الملك أكبر من الآخرين ، وبما يدّل على رفعته ؛ وهو نمط فنّي اُستخدم في فترة سابقة لتصوير الآلهة والملوك على امتداد التاريخ الرافديني .
اُستُثمر هذا النموذج للتأثير خلال الفترة الأكدية، وعلى وجه الخصوص في نُصب النصر للملك نارام ـ سين (عام 2261 ـ 2224 قبل الميلاد)، وهو إحدى أشهر القطع الفنّية في تلك الفترة. حيث يصور النُصب الملك العظيم وهو يرتقي جبلاً ، وماشياً على جثث أعدائه المهزومين . ويظهر هذا النموذج نفسه في أعمال فنّية أكدية أخرى مثل لوحة النصر للملك ريموش (عام 2279 ـ 2271 قبل الميلاد)، الذي هو عمّ الملك نارام ـ سين . ومن بين الأعمال الأكدية المشهورة الأخرى ؛ الرأس البرونزي للملك الأكدي الذي فسره بعض العلماء على أنه يمثّل الملك سرگون الأكدي ( عام 2334-2279 قبل الميلاد)، مؤسس الإمبراطورية الأكدية . ويُعتقد أن الرأس كان في يوم من الأيام جزءاً من تمثال بالحجم الطبيعي ، وقد أشير إليه في المؤلفات الأدبية المُدوّنة بما فيها "سرگون وأور زبابا" .

أور الثالثة والفترة البابلية القديمة
بحلول فترة أور الثالثة، كانت القصور ومجمّعات المعابد عبارة عن أبنية متطورة بالكامل ومزينة بتماثيل منحوتة من الحجر أو باستخدام نفس طريقة صبّ الأجسام المعدنية ( النموذج المجوّف) . أمّا فكرة بناء القصور الفخمة ؛ فهي قد تبلورت خلال الفترة الأكدية .
وصف البروفيسور بيرتمان مجمّع القصر كما في المقطع أدناه :
"يتألف [القصر] من ساحتين متصلتين بقاعة العرش التي كانت بمثابة قاعة للاجتماعات. وقد تم استخدام الفناء الخارجي للمناسبات العامة، والداخلي للاحتفالات الخاصة. كما تحيط بالفناء الخارجي غرف بمثابة مكاتب وورش عمل ومستودعات تخزين . وكان يحيط بالفناء الداخلي جناح سكن العائلة المالكة، ومرافق خدمية لاحتياجاتها المنزلية... وقد تكون جدران القصر مزينة بلوحات لمناظر احتفالية... وكان المجمّع بأكمله محاطاً بسور دفاعي خاص به." (ص 198)
كان الملك أورـ نمّو (عام 2047 إلى 2030 قبل الميلاد)، أول ملوك أسرة أور الثالثة، قد حكم من قصر بهذا التصميم الهندسي حيث أمر بتنفيذ العديد من مشاريع البناء التي كانت مزّينة بالحدائق والبساتين القريبة. كما واصل ابنه وخليفته الملك شولگي (عام 2029 ـ 1982 قبل الميلاد)، سياساته ووسّعها؛ حيث قام بشّق الطرق وإنشاء المدارس وبناء أول محطّات استراحة على جوانب الطرق التجارية ، مع حدائق ذات مناظر طبيعية. كما أكمل شولگي أيضاً بناء زقورة أور الضخمة التي أمر بها والده، بالإضافة إلى مشاريع أخرى . وقد ذُكرت إنجازاته في الكثير من المُدوَّنات والأعمال الفنية.
تم تجسيد شولگي ووالده في تمثالين نحاسيين بارتفاع 30 سنتيمتر، ويوصفان بـ"الشخصيات المؤسِسة" . وُيشار الى أن التماثيل الصغيرة توضع في أساسات القصر أو المعبد ( بمثابة حجر الأساس حاضراً) وذلك لتكريم الملك الذي أمر بالتشييد ، أو للإله الراعي للمدينة . كانت هناك أيضاً تماثيل نذرية مجسّمة لشخصيات ملوك أو لكهنة كبار وبأحجام مختلفة ذات عيون كبيرة ؛تُعرف أحياناً باسم "النظرة السرمدية"؛ منتصبة وهي في وضع الصلاة ، والتي ظهرت لأول مرة خلال فترة الأسرات المبكرة، ثم اُتقنت في فترة أور الثالثة.
تلك التماثيل النذرية المُتبرَّع بها إلى المعبد من قبل بعض الأشخاص الأثرياء ، كان يُقصد بها تكريم إله المعبد ، ولتُمكِنهم من ممارسة أعمالهم المعتادة دون الحاجة الى زيارة المعبد وتقديم النذور ، باعتبار أن المتبرّع هو على تواصل مع إلهه من خلال التمثال الذي تبرّع به . ومن بين تلك الأعمال الأكثر شهرة في هذه الفترة؛ التماثيل المتعددة لـ گوديا حاكم لگش (عام 2080 ـ 2060 قبل الميلاد)، والتي تم تصويرها دائماً في وضع الصلاة والتأمل؛ تماشياً مع سمعته كملك متدّين، والذي كانت معبودته نيسابا (إلهة الكتابة) .
كما أن بعض الأعمال الفنية والهندسة المعمارية التي لم تشر بشكل صريح إلى الإله ؛كانت متأثرة أيضاً بالمعتقد الديني . إذ كان يُفهم على أن الملك وكيلاً للإله، وسلطته جاءت من قوّة الإله. وبالتالي فإن التماثيل والنقوش التي تصوّر الملوك ؛ كانت تحمل رسائل دينية من خلال مضامينها . غير أن خلال الفترة البابلية القديمة أصبحت تلك الرسائل أكثر دقّة ؛ خاصة في عهد الملك حمورابي البابلي (عام 1792 ـ 1750 قبل الميلاد) . إذ تصوّر مسلّة حمورابي (شريعته)؛ الملك وهو يتلقّى مرسوم سلطته من شمش ( إله الشمس والعدالة) ، كما تصوّربوضوح تلك النقوش البارزة للإله مردوخ ( الإله الراعي لبابل)، تأكيد سلطته على الشؤون الدنيوية في تلك الفترة .
بحلول الفترة البابلية ؛ أُستبدلت الآلهة السومرية بآلهة بابلية (مثل ناپو بدلاً لنيسابا باعتباره إله الكتابة)، لكن المعيار بقي نفسه بوجود آلهة متباينة مسؤولة عن جوانب مختلفة من الحياة .
في فترتي الأسرات المبكرة وأور الثالثة؛ كان الإلهان الأخَوان (كابتا ومشدما) يشرفان على التصاميم الهندسية والطوب والأساسات وجميع مشاريع البناء. حيث قبل بدء أي مشروع؛ كان ولا بّد من تقديم القرابين والنذور إليهما، وبعد الانتهاء منه ؛ تُتلى صلوات الشكر والامتنان للإله آرازو (إله البناء المكتمل) . وإذا نسي صاحب المشروع تكريم تلك الآلهة أو تجاهل لأحدهما ؛ فإن سوء الطالع سوف يرافقه حتى انهيار منزله. وفي الفترة البابلية القديمة استمر هذا الاعتقاد واستمرت تلك الممارسة، كما يتضح ذلك من شريعة حمورابي؛ حيث لم يكن هناك تغييراً يُذكر سوى في أسماء الآلهة. بيد أن البُناة في عهد الملك حمورابي الذين يستخدمون مواد بناء رديئة ، وتتسبب في انهيار المنزل أو المبنى؛ كانوا عرضة لعقوبة الموت .

لقد تطورت الأعمال الفنية والمعمارية بشكل أكبر خلال الفترتين الآشورية والآشورية الجديدة، في أعقاب فترتي الحثيين والكيشيين ، وعلى وجه الخصوص في شكل النقوش البارزة والتماثيل والتصاميم المعمارية الأثرية مثل القصور والمعابد. ومن أشهر الأعمال في هاتين الفترتين؛ النقوش البارزة في قصر الملك آشور ناصر بال الثاني (عام 884-859 قبل الميلاد) في كالهو احتفالاً باكتمال بناء المدينة ، ونقوش الملك سرگون الثاني (عام 722-705 قبل الميلاد) في دور- شروكين. وصيد الأسود من قصر آشور پانيبال (عام 668-627 قبل الميلاد) في نينوى . كما طوّر الآشوريون أيضاً فنّ النحت على السفوح والمنحدرات ، والذي أُتقن لاحقاً في فنّ الهندسة المعمارية الفارسية القديمة .
استولت الإمبراطورية الأخمينية الفارسية (حوالي عام 550-330 قبل الميلاد) على المنطقة بعد العصر البابلي الجديد الذي واصل التطوّر المطرّد للفن والهندسة المعمارية في بلاد الرافدين الذي بدأ قبل أكثر من 4000 عام . إذ قام الملك البابلي نبوخذنصر الثاني (عام 605/604-562 قبل الميلاد) في بناء بوابة عشتار في بابل (عام 575 قبل الميلاد) ؛ وهي أحد أشهر الإنجازات المعمارية والفنّية في بلاد الرافدين . كما قام آخر ملوك بابل؛ نبوـ نيد (عام 556 ـ539 قبل الميلاد)، بترميم زقّورة أور، والعديد من المعالم الأخرى في المنطقة التي كانت قد تعرّضت للخراب والتدمير .
بعد سقوط الإمبراطورية الأخمينية في يد الإسكندر الكبير عام 330 قبل الميلاد، واصلت الإمبراطورية السلوقية (عام 312-63 قبل الميلاد) مسيرة الفنّ والبناء في المنطقة . كما تطورت بشكل أكبر خلال فترتي الإمبراطورية الپارثية (عام 247 قبل الميلاد-224 ميلادي) والإمبراطورية الساسانية (عام 224-651 ميلادي) .
مدينة طيسفون (قطسيفون في الآرامية / سلمان پاك ـ وتقع على نحو 35 كم جنوب شرق بغداد) والتي هي عاصمة الإمبراطوريتين الپارثية والساسانية؛ لا زالت آثارها قائمة بحال من الخراب والإهمال . وقد تجسد تطوّر الهندسة المعمارية في المدينة من خلال طاق كسرى؛ وهو أكبر قوس مقبب في العالم ، بامتداد واحد من الطوب وغير مسلّح . كما احتفظ فنّ العمارة الفارسي بالطُرز القديمة ، وعمل على تطويرها ومواصلة مسيرة نقلها إلى الحضارات اللاحقة .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ طباعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
صموئيل نوح كريمر ـ التاريخ يبدأ من سومر ـ طباعة جامعة بنسلفانيا ـ 1988 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون: التاريخ ، الثقافة ، الشخصية ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1972 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين وولادة الحضارة ـ سانت مارتنز گرڤن للنشر ـ 2012 .
گوندلين ليك ـ بلاد الرافدين القديمة من الألف إلى الياء ـ سكيركرو للطباعة ـ 2010 .
ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم ـ وايلي بلاكويل للنشر ـ 2015 .
ولفرام ڤون سودن ـ الشرق القديم ـ إردمانز للنشر ـ 1994 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة