الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأريخ الخرافة ح 10

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 5 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المرحلة التي كان العقل فيها تحوليا ومستعدا للمجازفة في أختراق مجهولية الواقع، كان سلاحه الأول عقل يعمل طبيعيا لذا نصر أنه لم يكن جاهلا جهلا مطلقا عن كل شيء، وأقل ما يمكن الإشارة له هنا أنه يعرف أن لديه عقل ولديه حواس تتصل بالعقل وأنه عليه أن يعرف هذا العالم الخارجي بهما، فهو وإن كان كم المعلوم لديه لا يساوي كمية المجهول الوجودي، لكنه يحاول أن يتقدم إلى عمق هذا المجهول عارفا مختارا أو مدفوعا بعوامل أخرى، المهم أن بدأ يتعقل كل شيء محاولا الوصول بعقله لأي شيء ممكن أن يكون قريبا منه، بكل آليات العقل بالتصور والتخيل بالتجربة بالفعل الوجودي وحتى بالأوهام طالما أنه فعل العقل، فالخرافة بيسا سابقة بالتأكيد على التفكير العقلي المزعوم لأنها أساسا وجه من أوجهه العملية، ومجرد أن يبدأ العقل أشتغالاته كيف ما كانت النتائج فهي اول انماط التفكير الانساني البدائي بشكوكه وغرائزيته ..
وحين ابتدأ الصراع الأول بين المجهول والمعرفة المكتشفة بواسطة العقل وبدت الصور اكثر وضوحا وتجانسا وابتدأ الانسان يميز ما حوله ويدقق في تكوينه وماهيته وعلاقته بالواقع وبالأخرين، ابتدأت الاسئلة الوجودية بالتشكل كما ابتدأت حياته بالتعقد من ازدياد المطالب النفسية والوجودية والغرائزية، وقد تطلب هذا التفكير بعمق أكثر فيما يواجهه من مخاطر وتحديات ..
ان هذا الكشف المتراكم والخبرة التي سجلها الإنسان الأول عن الذات بتفاصيل وإن كانت قليلة، والموضوع بما فيه من أثر وسطوة على الوجود المحض له والتأمل في الكينونة الانسانية التي سيرته قويا في عالم الكشف، ومن ملاحظة الظواهر الكونية الكبرى والصغرى التي أشغلت أهتماماته بشكل ملفت، تعد البداية الاولى لتفتح بذرة الوعي المتسع والمتمدد في كل أتجاه، وأخذت تجليات اللاشعور العقل البشري بعيدا إلى عالم الغرائب والغيب بمحصلة تجريبية مهمة، فحاول بها أن يخرج من جزء من معرفته المكتسبة "مرحلة الخرافة والاوهام" التي صنفها على أنها معرفة مقبولة لكنها غير قطعية بشكل مطمئن، الى مرحلة ربط وتوسيع شبكة العلاقات المشتركة بين الحضور والغياب ليخلق لنفسه عالم أكبر وأوسع متناسب مع الخبرة والتجربة، فكان عالمه المكتشف والذي أكتسب عنده نوعا من الإبهار والجمالية والعظمة، إنه عالم الاساطير المركبة وصياغة عوالم فوقية وكبروية، أولا لترويض كل الظواهر العصية والمبهمة عنده والتي فهم جزء منها وأحتار في تفسير الأعظم منها، وجعلها على الأقل كحل نهائي عنده تحت الهيمنة العقلية ومنظومة الخيال، فكانت الصور وقصص الالهة والملاحم اللاحقة اكثر موضوعية واكثر التصاقا بالواقع من عالم الخرافة البسيط والساذج بشكل عام.
لقد بنى الإنسان تصورات العامة والشبه كاملة عن رؤية كونية ممتدة للوجود فوق وتحت أفقيا وعموديا تفصيليا وكليا من خلال صياغة الأسطورة، وعبر فيها بشكل أساسي عن هواجسه المقلقة التي رافقت وجوده من الجوع والخوف والمرض وأخيرا الموت، كما أسقط الغموض الذي يلف الوجود على مضمون الأسطورة وقدمها بشكل يوحي بأنها البديل الفكري التصوري للوجود المادي الحقيقي، هذا الأستبدال الموضوعي في رأي المتواضع هو هروب عن التعقيد وعن إشكالية الحد اللا متناهي من الروابط التي يكتشفها الإنسان يوميا داخل هذا الوجود المركب والغامض، نعم هو هروب ومحاولة أستراحة من أستخدام العقل الذي أرهقه وأرهق معه سعيه لأن يعيش في أمان وأستمرارية مسالمة ومضمونة العواقب والنتائج، هنا يمكنني القول أن الأسطورة الأولى كمادة خام كانت خدعة من العقل البشري للاعتذار عن مواصلة الجهد في البحث والأكتشاف، وليتفرغ الإنسان لحصاد المتعة واللذة والسعادة الوجودية التي ظن أن الوقت معها قصير، وربما لا يكفي لأن ينال منها شيئا.
أود أن أشير في موضوع تطور الخرافة الأولى إلى شكل تكويني أخر ربما أكثر قدرة على إجابة العقل وتساؤلاته، هناك أمرين مهمين في هذا التحول، الأول أن الخرافة لم تنتهي وتتحول كليا بل بقيت تساير مستوى عقلي منخفض دائما أو ما يعرف الآن بالعقل البسيط أو الساذج، النقطة الأخرى ليس كل الخرافة تحولت إلى أسطورة ما عدا تلك التي تحمل هما كونيا تأريخيا ووجوديا، تحمل عناصر مهمة من العقيدة التي تتضمن أهم مخاوف الإنسان التي تحدث سابقا عنها وهي (الجوع والخوف والمرض والموت)، هذه العناوين أكثرها له علاقة بالغيب والقوى المتحكمة به، لذا وضعها الإنسان في أعلى سلم أهتماماته وإشكالياته الوجودية وأعطاها عنوان "الدين" أو الأمر المقدس الحتمي.
إذا كان الدين والإيمان في الأساس ومن أول المعرفة هما أمر معنوي حساس وذاتي لا علاقة له بالخارج "الناقل"، وهو هاجس روحي وغيبي واحد من هواجس الشعور بعدم البقاء الطويل والخلود، هذا الأمرٌ يعطي الإنسان المفكر أبعادًا وجودية لا متناهية عن ضرورة البحث عن حلول وربما أفكار تصنع الحل لها، وظل سعيه العقلي يدور في هذه الدائرة مستغلا أي تجربة يمكن أن تبعث فيه القدرة على التعامل مع الفناء والموت خاصة وهو يرى الصراع الدامي بين الموجودات ومنها الإنسان ذاته، فكل شيء يذهب لا يعود مرة أخرى، مهما حاول أن يفعلها بوسائل ليعيش في عالم الشهود الدائم مستعينًا بالعقل والمعرفة والمنطق لا يجد إلا بعدا عن الهدف، الحل دوما كمحصلة أنتهى لها أن يكون إلها أو تابعا لإله أو مستعينا به عندما رأى الخلافة الإلهية على الأرض باقية ومتعاظمة.
الخرافة في شكلها الأول كانت مجرد تفسيرات أو تصورات تفسيرية أو حلول ذهنية مبسطة، في حين أن التعامل مع كل ما هو أبعد من مدى الإدراك المادي البسيط يحتاج إلى أكبر من التجربة وأكبر من التأمل والحدس، لأن الكليات ومنها الدين لا ينبغي تفسيره على أنه مجرد خرافة وتفكير باطل، لأن ذلك سينقلنا بالتأكيد إلى عالم فوضوي متعدد الصور وربما لا يمكن جمعه تحت عنوان واحد، لذا أخذ مفهوم الدين نسق عقلاني منذ أول لحظة لأنه مرتبط أصلا بقوة واحدة لا يمكن للعقل حتى البدائي أن يخرق هذه الواحدية لأنها تحت عنوان غيب بعيد مجهول مخيف عظيم، لذا كانت التصورات الدينية المؤسسة ومنها الأسطورة تدور غب عالم واحد، أساسه الظن بأن "الإيمان بالغيب" يمكن أن يتحقق في مثل هذا الوحدة التي يجمعها العنوان.
عندما أكر الإنسان فكرته الجديدة وأخرجها من دائرة الخرافة تطوريا نحو الأسطورة الكبيرة ومنحها العظمة والتقدير، وجعل الوصول لهذا العنوان ومضمونه بالتوسل الدعاء بطقوس وممارسات وظن وجعلهما طريق الاستعانة بالرب الغيبي المقدس والمعظم، وكما ظن أيضا أن روح الرب يمكنها أن تحل جزئيا أو كليا في الإنسان تجسيدا أو فيضا، وأن الأهداف السامية والغايات الكبرى من الإيمان الديني يمكن أن تعالج تلك الهواجس القديمة في هذا المناخ الروحي الظني، ذلك لأن كل هذا يمكن أن يتحقق إذا ما نشأ الإنسان وتربى على خط الإيمان بالغيب وتقديره بالقوة، وخصوصًا إذا ما تم الألتزام الصارم بقواعد الدين ومؤسساته المجتمعية ومنها الكهنة والمعبد، وإلى عدم تعريض الاستعداد الإنساني الفطري للإيمان لخطر العودة للجهل والخرافة مرة أخرى فتم تدوين المتفق منه أما على ألواح أو ضمن ما يعرف بالكتب.
كانت الاساطير الدينية هي الأولى في الحياة الانسانية في المرحلة الاهم من وجوده الوعيوي الأستكشافي المعرفي، لما شكلته من نقلة نوعية في التطور العقلي وخطوة جديدة للتحرر من الاوهام السابقة والتي أيضا هو من أخترعها وهو من أكتشف وهميتها بالتجربة، ولا يعني هذا بان الخرافة والوهم لم يعد لهما مكان في ثقافة ومعرفة الإنسان خاصة بعد أن أكتشفنا نحن وليس الإنسان الأول كيف تسللت الخرافة والوهم إلى داخل منظومة الدين لاحقا، ليس في بناء المنظومة ككل ولكن في جزئيات قبلت أن تتسلل لها الخرافات أما لضعف في حجتها أو أختلاطات التصور في المتشاكل والمتشابه أو المتعدد الأحمال.
بل ان المناطق المظلمة في الجزئيات التفصيلية الدينية والتي لم يصلها نورا الوعي والحقيقة أنتعشت فيها الخرافة مجددا، نتيجة قربها من الموروثات التاريخية المتحجرة من طقوس وقصص وعادات ، ظلت على حالها دون أن ينجح الدين في إخراجها من العقل التسليمي، وظلت هذه الموروثات منتجة للخرافات والاوهام عبر العصور وقد استمرت هذه الحالة حتى يومنا هذا، فما ان يستكين العقل أو يتكاسل وتنحسر الحرية المعرفية، وتضيق الافاق في وجه الإنسان نتيجة عودة ذات الهواجس الأربعة القديمة، حتى تُنتج بدينا كما من الخرافات والاباطيل الدينية ونتجه نحو اليوتوبيات والخوارق واللا معقول، وتتسيد مظاهر الظلم والجهل المصائر الانسانية في الاماكن الأكثر تخلفا ومظلومية الفقيرة بالمعرفة والوعي والعلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استمرار البحث عن مروحية كانت تقل الرئيس الإيراني ووزير الخار


.. لقطات تحولت ا?لى ترندات مع بدر صالح ????




.. التلفزيون الرسمي الإيراني يعلن هبوط مروحية كانت تقل الرئيس ا


.. غانتس لنتنياهو: إذا اخترت المصلحة الشخصية في الحرب فسنستقيل




.. شاهد| فرق الإنقاذ تبحث عن طائرة الرئيس الإيراني