الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سر النفس البشرية

ثائر أبوصالح

2024 / 5 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لقد غزا الإنسان الفضاء ليستكشف اسراره، وتغافل على أنه هو السر الأكبر، فلا شك أن الأنسان يشكل كوناً متكاملاً بحد ذاته، وللمصادفة؛ الصور التي التقطها تلسكوب جيمس ويب للكون الفسيح، تظهر بشكل مذهل تشابهاً كبيراً مع صور الدماغ البشري، وكأن هذا الكون أُختزل في هذا الدماغ والذي يشكل الة العقل الجزئي. والأغرب من ذلك؛ فقد تبين أن الدماغ البشري يستعمل أحد عشر بعداً في التشكيلات التي يكونها عند التفكير العميق، ومن ثم تنهار كل هذه التشكيلات وكأنها لم تكن موجودة، وهذا يتطابق تماماً مع ما ذهبت اليه نظرية "الأوتار الفائقة" في الفيزياء الكمية والتي تدعي وجود أحد عشر بعداً في هذا الكون.

لا يختلف عاقلان، على أن من يظن أن الإنسان ينحصر فقط في جسده المادي ويموت موتة حيوانية هو أبعد ما يكون عن حقيقة هذا الوجود، لأن الخلق في هذا المفهوم يصبح عبثياً، فمعلوم أن الإنسان هو واسطة العقد ودرة المخلوقات، وغرض الخالق من هذا الكون. فكل من يؤمن أن هناك خالقاً لهذا الكون، وأنه لم يتشكل بالصدفة المحضة، يسأل نفسه عن السبب الذي جعل الخالق يبدع هذا الكون الفسيح، خصوصاً أن الله غنّي عن عبادة مخلوقاته.

إن حدوث عملية الخلق بالنسبة للمؤمن، هي نتيجة مباشرة لصفات الخالق المتمثلة في: أولاً؛ الوجود؛ أي أن الله كلي الوجود، وثانياً المعرفة؛ أي أن الله عالم بكل شيء أي كلي المعرفة، وثالثاً القدرة والإرادة؛ أي أن الله كلي القدرة والإرادة وراغب في عملية الخلق، ولذلك تصبح عملية الخلق تعبيراً مباشراً من الله عز وجل عن صفة الوجود، فالله ببساطة أوجد الموجودات ليوجد، فلولا الإنسان العاقل لا يوجد مخلوق سواه قادر على التعرف على الخالق والإقرار بوجوده ثم تنزيهيه وتوحيده، أي لولا وجود الإنسان العاقل لم يكن الله موجوداً، فكل مخلوقاته الأرضية عدا الإنسان عاجزة عن ذلك.

ولذلك؛ فإن الإنسان، من دون المخلوقات كلها، يشبه الله بما أودع فيه من صفات تؤهله لكي يكون مبدعاً وقادراً على التعرف على خالقه، وانطلاقاً من هذا الفهم، ميَّز سقراط ما بين الإنسان من حيث هو انسان، وبين جسمه من حيث هو حامل او يحتوي جوهر الإنسان، وجوهر الإنسان بالنسبة له هو النفس، فهي بالنسبة له ظل الله في الإنسان، لذلك فإن معرفة الله هي أولى المعارف التي يحصلها الإنسان بالنظر الى نفسه، فالنفس هي التي تستخدم الجسد بإخضاعه لأوامرها، فهي القوة المحركة للجسم وتقوم بتدبيره والعناية به، فالنفس بالنسبة لسقراط هي الإنسان بذاته، وهي جوهره، كونها ذات طبيعة روحية الهية، ولها وجود قائم بذاتها.

افلاطون بدوره لم يبتعد كثيراً عن معلمه سقراط في فهمه للنفس؛ فهو يعتبرها جوهراً خالداً والجسم أداتها، ووجودها سابق على الجسم، فقد كانت في عالم المثل عالمة، ولذلك عند افلاطون العلم تذكر، وهي قادرة على ان تتعرف على الحقائق، أي أن تتعرف عل خالقها، عبر الجدل الصاعد، بشرط أن تتخلص من سيطرة المحسوسات. من ناحية أخرى، يقسم افلاطون النفس الى ثلاثة اقسام؛ أولاً النفس العاقلة: وهي التي تدرك الأشياء وتحدد العلاقات بيننها بشكل عقلاني، ثانياً؛ النفس الشهوية أو الحيوانية: بها يعيش الإنسان ويتناول غذاءه ويحفظ نوعه، ثالثاً؛ النفس الغضبة: وهي التي تعبر عن الانفعالات وهي كما يسميها حركة نارية في الجسم.

أما ارسطو تلميذ افلاطون آخذ توجها مختلفاً نوعاً ما، وعرَّف النفس على انها الكمال الأول لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة من جهة، وعلى انها ما به نحيا ونعيش ونتحرك في المكان من جهة أخرى. حيث انطلق في فهمه هذا من نظرته للوجود والذي يقسمه الى نوعين: الأول "وجود بالقوة"، والثاني "وجود بالفعل"، واعتبر أن الوجود مركب من جوهر وسماه الهيولى؛ وعرَّفها على أنها: ما ليست في ذاتها شيئاً، فالتمثال مثلاً مادته هي الحجر، ولا يتحول الحجر الى تمثال الا عندما تلتصق به الصورة، ولا يمكن فصل الصورة عن الجسد الا بتحطيم التمثال نفسه.

بالنسبة لأرسطو؛ فإن كل جسم طبيعي ذو حياة هو بالنسبة له جوهر، لأنه مركب من الهيولى والصورة. أما النفس فهي التي تُخرج الحياة في الجسم من القوة الى الفعل، أي هي التي تظهرها بعدما كانت خفية كامنة فيه. ويقسم ارسطو النفس الى أولاً؛ النفس النباتيّة: وهي التي تمثّل القوى الغذائيّة للكائِنات الحيّة. ثانياً؛ النفس الحيوانيّة: والتي تمثل القدرة على الحركة الذاتيّة. ثالثاً؛ النفس الإنسانيّة: وهي تلك النفس التي تمثّل القوى العقليّة.

الفارابي، من جهته، قَبِل التلازم بين النفس والجسم، كما أورده ارسطو، باعتباره شرطاً لحياة الجسم، ولكنه رفض هذا التلازم في حال العدم، فيقول أما بقاؤها أي (النفس) فلا حاجة لها اليه أي (الجسم)، فوجود النفس في الجسم هو على نحو الاستقلالية لا التبعية الدائمة للبدن، فالفناء خاص بالجسم ولا يطال النفس التي تعلقت به كصورة له.

بالمقابل؛ يعتقد ابن سينا أن العقل بقوَّته الذاتية يمكنه أن يبرهن على وجود النفس، وأقوى برهان يعرضه هو برهان الحدس والمحاكمة كما يسمِّيه، فكوننا نرى أجسامنا تتغذَّى وتنمو وتتحرَّك، ونعرف من الاختبار أن هذه الصفات ليست من خاصَّات الأجسام، فندرك بالحدس أن فينا مبدأ تصدر عنه هذه المعلولات، وهو ما نطلق عليه اسم نفس. ويدلل الشيخ الرئيس على خلودها بأنها: أولًا: تقبل المعقولات من العقل الفعَّال؛ ولذلك تكون له محلًّا بنوع من الأنواع، والحال أن محل المعقولات لا يمكنه أن يكون جسمًا؛ إذن إن النفس البشرية هي لا مادية؛ وبالتالي خالدة. ثانيًا: إنَّ النفسَ البشرية هي جوهر بسيط، والبسيط لا ينحل كما تنحل العناصر، إذن النفس تبقى ولو فارقها الجسد؛ لأنَّها أسمى منه مادَّةً وأغلى قيمةً هبطت إليه عن كُره. ويضيف، نحن لا ننكر أن النفس تتألَّم بتألم الجسد، ولكنَّ الجسد بالوقت نفسه هو الذي يعيقها عن بلوغ الكمال والاتحاد بالذات العليا؛ لذلك إذا كانت مستكملة بالكمالات فلا تحزن لفراق الجسد.

أما الكنـدي؛ يـرى أن الـنفس الإنسانية جوهر بسيط غير فانٍ، هبط من عالم العقل إلى عالم الحـس، ولكنهـا مـزودة بـذكرى حياتهـا السـابقة، وهـي لا تطمـئن فـي هـذا العـالم، لأن لهـا حاجـات ومطالـب شـتی تحـاول دون إرضائها الحوائل. ولذا وجب علينا أن نُقبل على خيرات العقل الدائمة وعلى تقوى الله. أما إذا جعلنا طلب الخيـرات الحسـية الماديـة همنـا، فإنمـا نجـري وراء المحـال الـذي لـيس في الوجود.

ابن رشد، من جهته يتفق عما ذهب اليه غالبية الفلاسفة المذكورين ويعتبر أن النفـوس الإنسـانية يسـتحيل عليهـا العـدم بعـد وجودهـا، وأنهـا سـرمدية، ولا يُتصور فناؤهـا، وأن تشـبيه المـوت بـالنوم فيـه اسـتدلال ظـاهر فـي بقـاء الـنفس، حيث أن النفس يبطل فعلها بـبطلان آلتهـا، ولا تبطـل هـي، فيجـب أن يكـون حالهـا فـي المـوت كحالهـا فـي النـوم.

من خلال هذا الاستعراض لأراء أهم الفلاسفة في هذ المضمار، يتضح أن الغالبية العظمى يجمعون على خلود النفس وأنها لا تفنى بفناء الجسد، أما الاختلاف فيتمحور حول مصير هذه النفس عندما تغادر الجسد، فهل تعود الى عالم العقل الذي أُهبطت منه؟ أو تخوض تجربة أخرى في جسد جديد الى أن تستحق العودة الى ربها راضية مرضية، أي الى عالم العقل؟ لكن، وبكل الأحوال، لكي تعود النفس الى عالم العقل يجب أن تصل الى مرحلة النفس المطمئنة، وبغير ذلك تبقى في تقمصاتها الأرضية، ولكي يحدث ذلك عليها أن تستفيد من التجربة الحسية التي مُنحت لها لترتقي وتستطيع العودة من حيث أتت.

وللتفصيل أكثر فقد ورد في القرآن الكريم سبع أنواع من النفوس، والأصح سبع درجات لترقي النفس لتعود الى عالمها الحقيقي وهو عالم العقل:

1- النفس الأمارة بالسوء: التي تحض على ارتكاب المعاصي والذنوب وقد وردت في سورة يوسف: "مَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (سورة يوسف: 53). هذه النفس توازي ما عرف بالهو عند فرويد.
2- النفس اللوامة: التي تمثل الضمير الإنساني، وتفسر على أنها المرحلة التي يستيقظ فيها الضمير، وتتهمه النفس بالاستماع إلى الأنا "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ" (سورة القيامة: 2 ). هذه النفس توازي الأنا العليا عند فرويد.
3- النفس الملهمة: هي النفس التي تريد أن تسمو بعلاقتها مع الله تعالى، يصبح المرء في هذه المرحلة أكثر ثباتًا في الاستماع إلى ضميره، لكنه لم يستسلم بعد، وقال عنها القرآن الكريم: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (سورة الشمس: 8).
4- النفس المطمئنة: وهي النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، والواصلة إلى مرحلة الاطمئنان والراحة والطاعة التامة لأوامر الله، والتي ذكرها القرآن الكريم: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» (سورة الفجر: 27).
5- النفس الراضية، وهي النفس التي رضيت بما أوتيت، والتي ذكرت في القرآن الكريم: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً» (سورة الفجر: 28).
6- النفس المرضية، وهي النفس التي رضي الله -عَزَّ وجَلَّ عنها- والتي قال عنها القرآن الكريم: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً» (سورة الفجر: 28).
7- النفس الشفيعة أو الكاملة، وهي النفس التي كملت حقيقتها، واستقرّت فيها أنوار القرب من الله تعالى، وعرفت الله حقّ المعرفة.

اذاً؛ هذه الحياة أو الحيوات التي تعيشها النفس على هذه الأرض ما هي إلا فرصة للترقي والعودة الى عالمها الحقيقي، من خلال اعتدال المسلك على مبدأ ارسطو لا افراط ولا تفريط. ولنا شواهد في التاريخ أمثال ابن عربي والحلاج والسهروردي وغيرهم كثيرون ممن عرَّجت نفوسهم في سلم العرفان، لتصل الى النفس الكاملة، الى السماء السابعة، أو كما يسميها الحكماء شاكرا التاج، ولا شك، أن سيرة هؤلاء ما هي الا قيام حجة دامغة على البشر؛ على أن الطريق معبدة، ولا يمنعنا من رؤية الحقائق كما هي إلا ما علق في نفوسنا من صدأ الأنا المتضخمة، والتي حجبت عنا التعرف على حقيقتنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا قالت وزيرة الخارجية الألمانية عن صحفيي غزة؟


.. لبنان وإسرائيل .. مبعوث بايدن يحمل رسالة إنذار أخيرة من تل أ




.. المحكمة العليا الإسرائيلية تنظر في قانون منح صلاحيات واسعة ف


.. مراسل الجزيرة يرصد الأوضاع من داخل مدرسة لتوزيع المساعدات بش




.. استشهاد سيدة إثر استهداف قوات الاحتلال منزلا لعائلة المقادمة