الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكينونة كمصدر

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 5 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٧٧ - الكينونة كمصدر وكدلالة

اللغة اليونانية لا تمتلك فقط هذه الكلمة السحرية εἶναι مصدر فعل الكينونة، بل أنها جعلت له إستعمالات خاصة وعجيبة وزودته بميزات إستثنائية متعددة. فقد أوكلت إليه على سبيل المثال وظيفة منطقية، وهي وظيفة الرابطة الإسنادية، وبذلك تلقى هذا الفعل مدلولات متعددة جعلته يغطي مجالات أوسع من أي فعل آخر، بالإضافة إلى أن هذا الفعل يمكن أن يتحول إلى مفهوم إسمي بفضل أداة التعريف المضافة ليصبح موضوعا يسمح بالعديد من المعاني المتنوعة الدقيقة. إن لغة بهذا الثراء والدقة يمكنها بلا شك أن تسمح بإمكانية إنبثاق فكر جديد وإمكانية وجود وولادة كل ميتافيزيقا الكينونة والعدم اليونانية، وتسمح لبارمينيدس بكتابة قصيدته الفريدة، والتي عالج فيها ربما لأول مرة علاقة التفكير باللغة، في جملة مشهورة تتكون من ثمان كلمات تبقى اليوم صامدة كأبي الهول الفرعوني تنتظر فك طلاسمها وفهم معناها العميق:
‏τὸ γὰρ αὐτὸ νοεῖν ἐστίν τε καὶ εἶναι
تو غار أفتو نوأين إستين تي كاي إيني
‏»En effet, c’est la même chose penser et être »
أغلب الشراح والمترجمين أتفقوا على أن معنى هذه الجملة هو " في الواقع إنه نفس الشيء التفكير والكينونة ". وقد أعتقد بعض المفسرين الذين أرادوا أن يلصقوا ببارمينيدس الدعوة للمثالية، وأنه يروج بهذه الكلمات القليلة لفكرة أن ما يمكن التفكير فيه وتصوره هو والكينونة شيء واحد، أي أن مجرد التفكير في شيء ما يستوجب وجوده العيني وكينونته الحقيقية. المترجم الوحيد الذي أعلن عجزه عن فهم هذه العبارة هو لامبروز كولوباريتسيس Lambros Couloubaritsis ولذلك تركها جانبا. أما موريس ساشو ،Maurice Sachot الذي ذكرناه سابقا فهو يرى أن سبب غموض هذا النص يرجع إلى فصله عن الشذرة الثانية التي تسبقه والتي يحدد فيها بطريقة واضحة طريق الحقيقة :
إما "يكون" يكون، و "لا يكون" لا يمكنه أن يكون
وإما "لا يكون" يكون، ويجب على "يكون" ألا يكون
والشذرة الثالثة تكمل هذا الطريق الفكري وتوضحه. والسبب الآخر للغموض والإرتباك يرجع إلى عدم وجود علامات الترقيم في ذلك الوقت، بالإضافة إلى عدم التدقيق في الفرق بين صيغة المصدر والصيغة الدلالية لفعل الكينونة في اللغة اليونانية القديمة. فالمصدر هو الاسم الدال على حدث ما مجرد من الزمان أو المكان، وهو اسم مأخوذ من لفظ الفعل، مثل الكتابة كمصدر مأخوذ من فعله "كتبَ" أو الذهاب كمصدر مأخوذ من فعله "ذهبَ" أو الكينونة كمصدر مأخوذ من فعل كان. ولذلك فهو يعيد كتابة ترجمة الجملة بطريقة أخرى
‏ «En effet, c’est la même chose « penser “est” » et « être »
في الواقع إنه لنفس الشيء "التفكير في يكون" والكينونة. بمعنى إن التطابق في هذه الشذرة ليس بين الفكر والكينونة، وإنما بين التفكير في يكون νοεῖν ἐστίν أو هو يكون وبين الكينونة εἶναι كمصدر لفعل يكون ἐστίν الدلالي، وبذلك فهو يؤكد قيمة هذا المصدر كمقولة جديدة وكصورة لغوية لفعل يكون. وبالتالي فإن العلاقة هي بين الفكر واللغة، وهو ما ذكرناه سابقا عند ذكرنا لإميل بينفينيست Émile Benveniste اللساني الفرنسي الذي أكد " أن المقولات الذهنية وقوانين الفكر ليست، في قدر كبير منها، سوى إنعكاس لنظام المقولات اللسانية وتوزيعها. إننا نفكر عالما قد صاغته لغتنا مقدما ". أي أن بارمينيدس أكتشف هذه الحقيقة ثلاثة آلاف سنة أو يزيد قبل اللغوي الفرنسي وقبل محاولات فتجنشتاين وتفكيكات جاك دريدا وغيرهم. ويعني ذلك أيضا حسب موريس ساشو بأنه لايجب الخلط بين فعل الكينونة الدلالي والمتعين وبين الكينونة المجردة التي هي المقولة التي يتعين فيها "يكون" بواسطة الفكر. والتفكير هو الذي يفتح الباب للخظأ والتشويش والخلط بين الموجود واللاموجود، وهذا ما أراد إثباته بارمينيدس لتأسيس نظريتة المعرفية والتي تتلخص في أن ما يمكن التفكير فيه وتصوره هو ما يمكن قوله والتعبير عنه وهو بالتالي ما يكون، غير أن الكينونة هنا لاتعني الوجود الواقعي أو العيني، إنها مقولة منطقية ومعرفية ينبغي على العقل معاينتها لإظهار ما كانت هذه الكينونة تتعلق بالإدراك أم بالخيال أم بالتصور أو اللغة. بينما اللاكائن هو الشيء الذي لا يمكن تصوره أو النطق به أو تسميته. وهي محاولة جريئة لتأسيس أنطولوجيا معرفية تتقاطع فيها اللغة والفكر بالكينونة واللاكينونة وذلك لمحاولة التمييز بين الحقيقة والوهم، وهو ما لم يدركه العديد من الفلاسفة اليونان لقرون طويلة بعد بارمينيدس. فالفيلسوف الإرتيابي سيكستوس أمبيريكوس Sextus Empiricus - Σέξτος Ἐμπειρικός الذي عاش في نهاية القرن الثاني الميلادي، والذي يرجع له الفضل في نقل أغلب ما تبقى من قصيدة بارمينيدس يرفض رفضا قاطعا هذه الفكرة " ليس لأننا نفكر أو نتصور رجلا طائرا أو عربة تسير على الماء يتبع ذلك بالضرورة كون الرجل الطائر والعربة السائرة على الماء كائنات حقيقية "ويبدو كأن سيكستوس يعتقد بأن بارمينيدس كان مثاليا ويقول بأن كل ما نفكر فيه يوحد عينيا بالضرورة وبالتالي كل ما هو "كائن" بالضرورة موجود عينيا أي كائنا حقيقيا، فهو لم يفرق بين مفهوم الكينونة المجرد εἶναι والذي يمكن أن نجعله ينطبق على كل الكائنات حقيقية كانت أم خيالية وبين الصيغة الدلالية لفعل الكينونة ἐστίν.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا قالت وزيرة الخارجية الألمانية عن صحفيي غزة؟


.. لبنان وإسرائيل .. مبعوث بايدن يحمل رسالة إنذار أخيرة من تل أ




.. المحكمة العليا الإسرائيلية تنظر في قانون منح صلاحيات واسعة ف


.. مراسل الجزيرة يرصد الأوضاع من داخل مدرسة لتوزيع المساعدات بش




.. استشهاد سيدة إثر استهداف قوات الاحتلال منزلا لعائلة المقادمة