الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأريخ الخرافة ح 18

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 5 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا موضوع ربط الفكر والمعرفة بنهاية كما يقول صاحب نظرية أنتهاء التأريخ (فوكوياما) والتي أعدها واحدة من خرافيات الفكر المعاصر بشكل مؤكد، أولا لأن هذا الرأي فيه تقزيم للوجودية العلمية القائمة على قانون الديمومية "البقاء يقود للبقاء"، ثانيا فكرة ربط التأريخ بإدعاء الوصول لنقطة النهاية بالنسبة للفكر لأن العقل أساسا لم يستطيع أن يضع حدود له فكيف له أن يضع حدود لما هو لا يعرفه ويجهله بالأصل، وهذا أيضا تحجيم وقصر نظر وجهل بحقيقة أن العقل البشري لا يمكنه مطلقا إدراك كامل المعرفة، أي الوصول إلى المثالية المطلقة بالعلم والمعرفة محال منطقا، وحتى لو وصل إلى هذه النقطة أفتراضا سيجد أمامه كم هائل من الأسئلة والإشكاليات والاحتياجات التي تستدعي الأستمرار في التفكير بشكل أو بأخر، فطالما العقل موجود لا بد له أن يمارس التفكير ويخضع للواقع مهما كان صعبا أو محجما.
نعود لكلام الكاتب الجعفر بمواصفاته عن النسق الثقافي العام وخرفنته أو تخريفه بالمعتقدات اللا منطقية، ونحاول أن ندرك أنه حتى في مقاييس الوصف نجد أن هناك تتغير المعايير من مجتمع لمجتمع ومن زمان لأخر، لو أخذنا المجتمعين الأمريكي والأوربي المعاصر كمثال، سنلاحظ عدة نقاط مهمة في النسق الثقافي العام، أولا تعظيم دور الحرية الفردية للفرد الفرد والفرد المجتمع، والنقطة الأخرى والأهم هي العلمانية الفكرية التي تجذرت في العقل الغربي، من النقطتين أعلاه لا بد أن يكون النسق الثقافي العام في هذه المجتمعات حرا بما يكفي للتخلص من التفكير الغيبي اللا منطقي، والجانب الأخر سيادة الروح العملية في صياغة الفكر الجمعي وأسه التقليدي الفكر العقائدي "الديني" و "الأيديولوجي".
في نظرة سريعة ومن خلال دراسات أجتماعية مرموقة نجد أن أفكارا مثل المخلص النهائي وقيامة الروح والأشباح الزائرة والصورة النمطية عن الأخر المختلف إضافة إلى مفهوم العنصرية الجنسية وسيادة العقل الغربي على ما سواه، ظواهر مهمة وأساسية في ذلك النمط الثقافي الذي ينحاز له السيد الكاتب، نعم قد يكون في هذا النمط الكثير من الحسنات والإيجابيات ومنها التسامح وقبول الأخر، لكنه أيضا لا يخلو أبدا من صور غارقة بالخرافة والتفكير الخرافي.
الجلد المر للذات العربية لا ينفع من تصحيح المسارات التي يخطوها النسق الثقافي الأجتماعي والفكري، بقدر ما يحمل من عوامل ترسيخ للعجز في مواجهة الأستحقاق الواجب لوضع رؤية عملية تساهم في نمذجة الخطاب الفكري العقلاني العلمي والعملي، فالمعرفة حينما تجد ظروفا مشجعة لها للمضي في طريق الإبداع ستنتج الكثير الذي يمكن أن يتطور ويثمر ويقود إلى أنساق متوافقة مع أممية وعالمية التفكير البشري العابر للهوية الخاصة الفردية والنوعية، وأول هذه الظروف الحرية والمسئولية والعمل الجمعي منهجيا وأسلوبيا، فلا يوجد في الحقيقة مجتمع واحد على الأقل لا في بنيانه الفكري ولا في نسقه الثقافي ما لا يتصل بالخرافة والإيمان بها ولم ولن يكون أبدا.
من هنا نعود لعنوان البحث وهو مستقبل المعرفة منظورا له من مستقبل الخرافة، يعني النظر لبيتنا من خلال شباك الحيران، والحقيقة هذا المثل ينطبق تماما على المعنى التساؤلي للبحث، فالمعرفة وكما بينت حركة لا تتوقف ولا يمكن حتى تصور أفتراضي أنها تصل لمحطة نهائية، لذلك كانت المعرفة تاريخيا هي تاريخ الإنسان بوعيه مع أن الوعي هو من تعرف على الوجود بالضرورة، ومن الجدير بالذكر أن مستقبل المعرفة كما ينظر لها مؤسسيا كما يظهر من محاولات رسم أستراتيجية شاملة لهدف شامل تحت مسمى (استشراف مستقبل المعرفة)، والذي تقوده منظمات دولية وإقليمية الهدف منه كما يتضح من التقارير الثلاثة التي أنتجتها أن مستقبل المعرفة لا بد أن يكون مرسوما مؤدلج ومؤسس على قيم أحادية وأنه ( يهدف إلى مساعدة قادة الدول على إعداد مواطنيهم لمستقبل المعرفة)، هذا الهدف في الحقيقية هو ضمن ما يسمى بنمذجة العقل البشري وفق سياقات محددة وموصوفة ومعدة سابقا، بمعنى عول الفرد عن التفاعل الحر والطبيعي مع العصر وقضاياه من خلال رسم طريق أحادي ذو ممر واحد.
إذا كان هذا الهدف المعلن من سياسات أستشراف مستقبل المعرفة فلا بد أنه في النهاية سيضع الإنسان المستقبلي في خرافة عظمى، كما وضع نفسه سابقا في خرافة الغيب والتعلق بما وراء الفيزيقي، فالمعرفة ليست فقط عنوان واح حتى يمكن حصره في برنامج تطويري أو تحديثي كما جاء في البيان الثالث (يوصي التقرير بتعزيز تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ودمجها بالتعليم والمناهج التعليمية، لتمكين الأجيال من اكتساب المهارات المستقبلية وتأهليهم لمرحلة أكثر اختلافاً وتعقيداً عن المرحلة الحاضرة، وتعزيز المساواة وخاصة بين الذكور والإناث)، هذه الأفكار مهمة بطبيعة الحال وضرورية ليس لمستقبل المعرفة بقدر ما هي ضرورية لتحديث العقل المعرفي وتنشيط أليات العمل والتكوين والتشكيل لديه، المعرفة تحتاج فقط لوعي خاص لتخوض غمار البحث والتقصي والتكوين والأنتاج وفقا لما في الواقع من مستلزمات أهداف وسائل وأخيرا حرية تجمع.
فالتأسيس على برنامج محدد ومؤطر ومرسوم يعني وضع العقل في وعي مرسوم ومجبور على الأنخراط في مشروع منتخب، هذا الأنتخاب ينافي الحرية وينافي التلقائية الطبيعية للمعرفة كونها منتج للضروريات وليس صناعة أنموذجية في تعارض مع أسس الواقع المرسوم بعنوان العولمة والحداثة ومحاربة الوهم واللا منطقية العقلية، إن من يسعون اليوم لرسم مستقبل المعرفة إنما يسعون لتعزيز مستقبل الخرافة وقيمها وفرضا على العقل الإنساني، وأيضا يتعمدون على وضع المعرفة في صورة واحدة لجعلها حبيسة إطار مطلوب وإهمال حقيقة أن المعرفة أصلا منتج وجودي كلي متعدد الأوجه ومتعدد الأهتمامات مثله مثل العلم لا يختص بفرع ولا يحد بحد.
إن سر تطور المعرفة يكمن في الحرية والتنوع والتعدد والأتساع والأستيعاب لكل تحولات الواقع ورد فعل العقل على مسارات وصور هذه التحولات زمانا ومكانا وحال، فعندما نرسم للمعرفة طريق واحد ونضع حدودا جبرية للعقل البشري لسلوك هذا الأتجاه المعنون والمقيد، إنما نضع العقل في محبس التوحد والقهرية المانعة من الإبداع الطبيعي، حينها نحول البشر إلى كائنات روبرتية مبرمجة ومطيعة وغبية لا تفهم وعيها، وتنساق خلف الجالس ليدير أجهزة البرمجة الكونية المنحرفة عن قوانين الوجود.
لا بد لنا أن نعترف من أن هناك حاجة ضرورية لمنظومات من الإبداع والفكر الناقد والريادة التي تنمو في جو من الحرية في التفكير خارج ما يعرف بصندوق المجتمع، لكن هذه المنظومات بالتحديد ليست فقط مهارات مباشرة يمكن تلقيها في دورة تدريبية أو يمكن إيصالها للمتلقي عبر التكنلوجيا المعاصرة في أوسع مفاهيمها، فالمهارات التفكرية سيرورة مع سيرورة الزمن بالنسبة للعقل وهي جزء من الوعي المبدع، والمعرفة هي محصلة تجميعية تراكمية لعمليات واسعة من العمل والقيم والمتطلبات والفلسفات والاتجاهات والأعمال، فالإبداع المعرفي لا يتحقق إلا في بيئة تعليم وعمل ملائمة تقوم على الحريات والبحث والتفكير وتعلم الفلسفة والفنون والآداب والاستماع والحوار، والفكر المعرفي الناقد ليس سوى قيم الموضوعية والنزاهة والبحث الصادق عن الصواب، مصاحبا لعمليات واسعة من ممارسة البحث العلمي والسؤال والاستقراء والاستنتاج والاستنباط والتوقع والتحليل والترجي وكاها تحت مبدأ أولي هو التأمل والخيال والحلم.
إذن يمكنني أن أقول في مختصر شديد أن مستقبل المعرفة مقرونا بالحلم البشري لحياة أفضل، ليست فقط منظمة ومعلبة ومرسومة بأتقان كنموذج ثلاثي أو رباعي الأبعاد، بل بنموذج يداعب العقل البشري ويستشرف منه صورة المستقبل التي أجهد الإنسان نفسه عبر التاريخ ليصل لها، إنها مستقبل المدينة الفاضلة الحلم الطوباوي الذي ما زال يداعب رغبات وأماني الوعي بكل تدرجاته، أقول أنها خرافة الجنة التي وعدنا بها الدين حيث لا شيء محال، ولا شيء ممكن تصوره ونحن في هذا العالم المادي.... مستقبل المعرفة سيكون العودة لتلك الجنة التي خرجنا منها لأننا صدقنا أن إبليس قد يكون ناصحا في لحظة ضمير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية #سوشال_سكاي


.. بايدن: إسرائيل قدمت مقترحا من 3 مراحل للتوصل لوقف إطلاق النا




.. سعيد زياد: لولا صمود المقاومة لما خرج بايدن ليعلن المقترح ال


.. آثار دمار وحرق الجيش الإسرائيلي مسجد الصحابة في رفح




.. استطلاع داخلي في الجيش الإسرائيلي يظهر رفض نصف ضباطه العودة