الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأريخ الخرافة ح 19

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 5 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


1. حدود الخرافة.
من المسائل التي حصل فيها خلافا بالمسميات والدلالات هي الحدود التي تجعل من الخرافة عنوان خاص وموضوع مخصص، فكما بينا أن الكثير من المفاهيم تختلط على البعض وتختلط معها الحدود ما بين هو خرافي أو قريب منها لكنه ليس بخرافة، أما لأنه لم يتحول إلى قناعة مع مرور الزمن وترسخ الأعتقاد بها، أو لأنه تعدى مرحلة الخرافة وأستوطن اليقين ليكون أسطورة عابرة لليقين الأعتباري وكأنها حدث فعلا وإن تضخم أو تعاظم نتيجة عامل أما تقديسي أو نفسي مصدره الفخر والأعتبار الوجودي.
فالأسطورة قد تكون في نظر البعض خرافة لأنها تتكلم عن واقع ربما حصل بشكل ما لكنه ترمز ذهنيا وصوريا وأصبح بعيدا عن الواقع الطبيعي له، أما لأنه موغل بالقدم فلا يمكن معايشة واقعه لأنه منفصل عنا، أو لأنه لا يملك القوة الإقناعية اللازمة لتكون معقول طبيعي يستسيغه الذهن الحاضر، فيبدو للحديث أي للعقل المعاصر غير مقبول لأن ما دار في الحدث الأصلي بعد تعظيمه ونفخه بالنص الأسطوري لا ينطبق مع المقدمات والتصورات المعرفية التي يتبناها في مجتمعه الحالي، الأسطورة وما تحتوي من عالم متعدد الخصائص يجمع بين الحدث والصورة والمعنى في حال من التهويل والعظمة متأت من رسوخ أعتقادي به أو على الأقل بالجوهر الحقيقي من الأسطورة، لو حللنا أسطورة أنبعاث العنقاء المعرفة تأريخيا، فهي تحتوي على عنصرين أساسيين لا يتعلقان بالعلم بوصفه قانون حدي، ولكنه يمكن فهمه علميا أيضا على أنه ممكن في حالات نادرة تتفق مع كون الأسطورة حالة نادرة أيضا.
العنصر الأول في أسطورة العنقاء هو البعث الكامل بعد الأحتراق دون أن يكون للحرق أثار ظاهرة، والعنصر الأخر تكرار هذا التحول والتجدد في كل مرة يحصل فيها فناء ظاهري، كلا العنصرين يفسرهما العلم على أن الصفات البيولوجية والفسيولوجية تنتقل عبر النسيج المادي للكائن أو ما يعرف بالجينات الحاملة للصفات والصبغات الوراثية، وبالتالي ومع تطور الهندسة الوراثية من الممكن جدا في ظروف علمية أن يعاد أنتاج الكائن الحي من خلال أستخدام الهندسة البيولوجية وبمساعدة الذكاء الصناعي، فأسطورة البعث هنا ممكنة وحقيقية وقد نشهد تطبيقات لها في أرض الواقع، ما لا يقبله عقل البعض من هذه الأسطورة أن هذا الطائر بعد أن يحترق ويتحول إلى رماد هناك قوة غيبية غير مدركة ومحسوسة منا، هي من تتولى إعادة البعث والتخليق المتجدد مع أن علم الجينات والهندسة الوراثية لم تعرف بعد.
هذه القضية جمعت قضايا متعددة ومتفرقة بين الواقع والعلم والمعرفة والخيال والحلم والخرافة في نسيج واحد، مضى عليه زمن من الأعتقاد والأعتياد حتى تحولت إلى ما يشبه الحقيقية بتأريخيتها، وعدم القدرة على إثبات الأستحالة فيها بشكل حازم وجاسم مع الظن أن الواقع يصدقها، لكن مع كل هذا الجميع المختلط لا يمكننا أن نفسر أسطورة العنقاء على أنها خرافة لأختلاف الحدود والشروط فيهما، فالخرافة كما يصفهما بعض علماء النفس ما هي إلا مجرد (معتقدات وممارسات تنشأ من عمليات عقلية صرفة الهدف منها معالجة أو تفسير أو تحليل لموقف معين من قضية معينة محصورة في إطارها الخاص كخرافة السعلوة عندنا في العراق، فهي تعالج حالة الخوف من مجهول مرعب أو تفسيرا لحالة الجبن عن الغالبية من الذين بجب عليهم مثلا الخروج في أوقات محددة).
أما الأسطورة فهي تطور مادي وطبيعي لحدوث واقعي أمتد طويلا وتراكمت عليه الحسيات والمعنوية عبر الزمن لتتطور الصياغة النهائية لها وفق ثقافة وقيم المجتمع، فتخلق فكرة ما تحاكي قيم ذلك المجتمع القديم الذي حدثت فيه الأسطورة وقوانين النسق الثقافي فيه سلوكيا وفكريا، فأسطورة المنقذ العالمي في أخر الزمان بالرغم من أنها ممتدة زمانيا ومكانيا ومن الأفكار العابرة أجتماعيا، فهي تعالج وتفسر نهاية التاريخ عندما يعود الإنسان للالتزام بقانون الرب الأول.
السؤال الواجب والملح الأن هو، من أين تبدأ الخرافة كمفهوم متفق عليه؟ وإلى أين تنتهي حدودها؟، هذه الأسئلة تضعنا في مواجهة مع الأستحقاق المعرفي المطلوب كي لا نخلط بينها وبين أشكال أخرى من الأفكار، سواء أكانت أعتقادية أو من سنخ اللا معقول، عند النظر مثلا إلى الأوهام الجمعية والتي تشترك مع الخرافة في شكلها العام وبعض التفاصيل، نجد أن هذه الأوهام أما أن تكون وقتية أو مصنعة أو غير مستقره في الضمير العقلي، من الأوهام الجمعية مثلا حالة القلق الذي يصاحب كارثة بيئية مثلا خوفا من أرتدادات الحدث، فعندما يحدث زلزال أو هزة أرضية في منطقة ما وينتهي الحدث، هنا يبدأ الوهم الجمعي يشتد عندما يسود الظن أن الزلزال أو الهزة يمكن أن يكون لها أرتدادات وأضرار، لذا يتحول العقل الجمعي إلى التمسك بالأوهام وتفسير أي شيء طبيعي يمر على أنه مقدمة أو نتيجة أو علامة ما تتصل بالحدث، هذا الوهم مقلق وشاغل عن التفكير الصحيح، ويتحول إلى هاجس خوف حتى تمر فترة فيتضاءل مفعوله وينتهي، البعض يسمي هذه الظاهرة بخرافة والحقيقة أن الوهم الجمعي ليس له صلة بالخرافة إلا بما فيه شكليا أنه لا يستند إلى معطيات علمية أو منطقية.
البعض يحدد الحد اللازم والمتفق عليه من نقطة إشغال العقل باللا معقول، أي حين جر العقل ليؤمن بما لا يمكن أن يؤمن به، وهذا الحال والشرط يبدأ من نقطة التمسك بالجهل، وكثيرا ما نسمع العبارة السائدة على ألسن الكثيرين ومنهم فلاسفة ومفكرون، وهي فكرة "أن الخرافة تبدأ حين يحضر الجهل ويغيب العلم والمعرفة عن الساحة، لذا كلما كان المجتمع غارقا بالجهل كلما تسيدت الخرافة واقعه"، هذا القول فيه وجه صحة لو أخذنا المعايير المادية كمقياس، ولكن حينما ندخل في نسق ثقافي أخر مناقض للوصف، ونجد شيوع الخرافة فيه بالرغم من أنه مجتمع يتصف بالعلمية والعملية المنطقية، علينا أن نبحث عن تبرير أو تفسير لهذا الحال.
يقول الباحث "عادل مصطفى" في بحثه الموسوم (الحنين إلى الخرافة: فصول في العلم الزائف) المنشور في عام 2018 وعن مؤسسة هنداوي {تُسيطِرُ الخُرافةُ على الكَثيرِ مِنَ التفاعُلاتِ البشريَّة؛ فلم تَكْتفِ الخُرافةُ بالتغلغُلِ في المجتمَعاتِ الفقيرة، التي لم تَنَلِ القِسطَ الكافيَ مِنَ التَّعليم، بل امتدَّتْ إلى أوساطٍ تبدو راقيةً أو تَحملُ قدْرًا مِنَ العِلمِ والثقافةِ والمدنيَّة}، هذه حقيقة معاشه ويمكن ملاحظتها دون الحاجة إلى برهان عليها، يعلل الباحث مصطفى الأمر من منظور سيكولوجي ذاتي متعلق بطبيعة الإنسان لا بطبيعة الخرافة، فيقول (الحقيقة أن الفكر الخرافي هو من الرسوخ في أعماق البشر بحيث يصعب اجتثاثُه حتى في عصر العلم وحتى لدى أعلى الفئات تعليمًا! ووفقًا للتحليل النفسي فإن الخرافة — بأرواحها وأشباحها وغرائبها — تبدو جزءًا من التكوين النفسي للإنسان، يظل كامنًا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروفٌ تصعد به إلى السطح الخارجي)، ومع أن الباحث هنا لم يحلل أو يبرر هذا الصعود ولا أسبابه ولا معطيات على صعيد الواقع، ولكن من وجهة نظر أولية أشارك الباحث في مضمون التبرير وإن أختلفت معه في السبب التحليلي.
أعود للعامل النفسي الذي يبدا فيه الإنسان بالإيمان بالخرافة وهو الحاجة للفضول التي تتحول مع عدم القدرة على التخلص من هذا الفضول إلى محاولة الأكتشاف التي تصطدم دائما بالخطوط الحمر التي يؤمن بها وجوديا، لو أخذنا مثالا على مجتمع يتميز بالعلمي والعملية المنطقية كمثال للخط الأحمر عنده في تحديد الخرافة، فشعب هونغ كونغ بالرغم من ماديته المفرطة وتطوره العلمي إلا أنه يتشاءم من الأرقام التي تبدأ بالأربعين وتنتهي بالتاسع والأربعين، هذا سببه أعتقاد تأريخي قديم شكل غي تموضعه النفسي حاجزا من الصعب أختراقه، لعل ذلك يترافق مع علمه أن هذه الأرقام في مجتمع أخر لا أثر لها ولا مؤثر حقيقي سوى ما في عقله الباطن، وأنه من الممكن أن يتم إزاحة هذه الخرافة من التعامل العام، هنا ما يمنه ليس المبادرة الفردية ولا الإيمان بالعلم بل هو العقل الجمعي الذي يضع ويصنع الخط الأحمر في مجتمعه.
هنا نردد نفس السؤال مع (تشارلس فرانكل) ما الذي يجذب المثقفين إلى اللامعقول ويُنَفِّرهم من العقل والعقلانية؟ ما الذي أَدَّى بشريحةٍ من عِلية الناس ومن خِيرة الأكاديميين إلى اليأس من العقل؟ وكيف يتأتَّى ذلك من أناسٍ ينتمون إلى جامعاتٍ ومؤسساتٍ جَعَلَت التزامَها الرسمي والتقليدي ممارسةَ البحث العقلاني والتبشيرَ به؟ إنهم يتخذون من اللامعقول موقفًا مؤصَّلًا ومُفَصَّلًا يؤكدونه باعتزازٍ ويذودون عنه ببسالة..، الجواب هنا يحتاج أيضا إلى سلسلة من الأسئلة والأستشكالات الفكرية والتي تبدأ من (ما هو المعيار العملي بين المعقول واللا معقول؟ هل كل ما يطابق العقل الراهن في فرائضه معقول وما عداه بالضد منه؟ أم أن هناك قاعدة يمكن أن نعود لها في كل مرة وهي أن اللا معقول هو مجرد عجز العقل الوقتي أو الحالي من إدراكه؟ أي أن العقل ليس صالحا بجميع الأحوال للفرز طالما أن العقل لم يعمل كاملا وأن العلم لم يكمل مطلقا، فكل شيء معقول حتى يتم إثابته أو نفيه تماما مثل القاعدة الشرعية التي تقول "كل شيء حلال حتى ينص على تحريمه بشكل جازم وبين لا لبس فيه"، فالأشياء كلها تبدو في الأول معقولة حتى يقوم الدليل الضدي بشكل جازم ويقيني تام، عندها يبدأ اللا معقول ظاهرا ليتحول إلى مدرات الوهم والخرافة والظن اللا علمي واللا منطقي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيضانات عارمة تتسبب بفوضى كبيرة في جنوب ألمانيا


.. سرايا القدس: أبرز العمليات العسكرية التي نفذت خلال توغل قوات




.. ارتقاء زوجين وطفلهما من عائلة النبيه في غارة إسرائيلية على ش


.. اندلاع مواجهات بين أهالي قرية مادما ومستوطنين جنوبي نابلس




.. مراسل الجزيرة أنس الشريف يرصد جانبا من الدمار في شمال غزة