الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأريخ الخرافة ح 20

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 5 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


البعض يحدد الحد اللازم والمتفق عليه من نقطة إشغال العقل باللا معقول، أي حين جر العقل ليؤمن بما لا يمكن أن يؤمن به، وهذا الحال والشرط يبدأ من نقطة التمسك بالجهل، وكثيرا ما نسمع العبارة السائدة على ألسن الكثيرين ومنهم فلاسفة ومفكرون، وهي فكرة "أن الخرافة تبدأ حين يحضر الجهل ويغيب العلم والمعرفة عن الساحة، لذا كلما كان المجتمع غارقا بالجهل كلما تسيدت الخرافة واقعه"، هذا القول فيه وجه صحة لو أخذنا المعايير المادية كمقياس، ولكن حينما ندخل في نسق ثقافي أخر مناقض للوصف، ونجد شيوع الخرافة فيه بالرغم من أنه مجتمع يتصف بالعلمية والعملية المنطقية، علينا أن نبحث عن تبرير أو تفسير لهذا الحال.
يقول الباحث "عادل مصطفى" في بحثه الموسوم (الحنين إلى الخرافة: فصول في العلم الزائف) المنشور في عام 2018 وعن مؤسسة هنداوي {تُسيطِرُ الخُرافةُ على الكَثيرِ مِنَ التفاعُلاتِ البشريَّة؛ فلم تَكْتفِ الخُرافةُ بالتغلغُلِ في المجتمَعاتِ الفقيرة، التي لم تَنَلِ القِسطَ الكافيَ مِنَ التَّعليم، بل امتدَّتْ إلى أوساطٍ تبدو راقيةً أو تَحملُ قدْرًا مِنَ العِلمِ والثقافةِ والمدنيَّة}، هذه حقيقة معاشه ويمكن ملاحظتها دون الحاجة إلى برهان عليها، يعلل الباحث مصطفى الأمر من منظور سيكولوجي ذاتي متعلق بطبيعة الإنسان لا بطبيعة الخرافة، فيقول (الحقيقة أن الفكر الخرافي هو من الرسوخ في أعماق البشر بحيث يصعب اجتثاثُه حتى في عصر العلم وحتى لدى أعلى الفئات تعليمًا! ووفقًا للتحليل النفسي فإن الخرافة — بأرواحها وأشباحها وغرائبها — تبدو جزءًا من التكوين النفسي للإنسان، يظل كامنًا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروفٌ تصعد به إلى السطح الخارجي)، ومع أن الباحث هنا لم يحلل أو يبرر هذا الصعود ولا أسبابه ولا معطيات على صعيد الواقع، ولكن من وجهة نظر أولية أشارك الباحث في مضمون التبرير وإن أختلفت معه في السبب التحليلي.
أعود للعامل النفسي الذي يبدا فيه الإنسان بالإيمان بالخرافة وهو الحاجة للفضول التي تتحول مع عدم القدرة على التخلص من هذا الفضول إلى محاولة الأكتشاف التي تصطدم دائما بالخطوط الحمر التي يؤمن بها وجوديا، لو أخذنا مثالا على مجتمع يتميز بالعلمي والعملية المنطقية كمثال للخط الأحمر عنده في تحديد الخرافة، فشعب هونغ كونغ بالرغم من ماديته المفرطة وتطوره العلمي إلا أنه يتشاءم من الأرقام التي تبدأ بالأربعين وتنتهي بالتاسع والأربعين، هذا سببه أعتقاد تأريخي قديم شكل غي تموضعه النفسي حاجزا من الصعب أختراقه، لعل ذلك يترافق مع علمه أن هذه الأرقام في مجتمع أخر لا أثر لها ولا مؤثر حقيقي سوى ما في عقله الباطن، وأنه من الممكن أن يتم إزاحة هذه الخرافة من التعامل العام، هنا ما يمنه ليس المبادرة الفردية ولا الإيمان بالعلم بل هو العقل الجمعي الذي يضع ويصنع الخط الأحمر في مجتمعه.
هنا نردد نفس السؤال مع (تشارلس فرانكل) ما الذي يجذب المثقفين إلى اللامعقول ويُنَفِّرهم من العقل والعقلانية؟ ما الذي أَدَّى بشريحةٍ من عِلية الناس ومن خِيرة الأكاديميين إلى اليأس من العقل؟ وكيف يتأتَّى ذلك من أناسٍ ينتمون إلى جامعاتٍ ومؤسساتٍ جَعَلَت التزامَها الرسمي والتقليدي ممارسةَ البحث العقلاني والتبشيرَ به؟ إنهم يتخذون من اللامعقول موقفًا مؤصَّلًا ومُفَصَّلًا يؤكدونه باعتزازٍ ويذودون عنه ببسالة..، الجواب هنا يحتاج أيضا إلى سلسلة من الأسئلة والأستشكالات الفكرية والتي تبدأ من (ما هو المعيار العملي بين المعقول واللا معقول؟ هل كل ما يطابق العقل الراهن في فرائضه معقول وما عداه بالضد منه؟ أم أن هناك قاعدة يمكن أن نعود لها في كل مرة وهي أن اللا معقول هو مجرد عجز العقل الوقتي أو الحالي من إدراكه؟ أي أن العقل ليس صالحا بجميع الأحوال للفرز طالما أن العقل لم يعمل كاملا وأن العلم لم يكمل مطلقا، فكل شيء معقول حتى يتم إثابته أو نفيه تماما مثل القاعدة الشرعية التي تقول "كل شيء حلال حتى ينص على تحريمه بشكل جازم وبين لا لبس فيه"، فالأشياء كلها تبدو في الأول معقولة حتى يقوم الدليل الضدي بشكل جازم ويقيني تام، عندها يبدأ اللا معقول ظاهرا ليتحول إلى مدرات الوهم والخرافة والظن اللا علمي واللا منطقي.
البعض يرى أن جعل كل شيء تحت رحمة العقل ومقاساته إنما هي عملية تجريد الإنسان من بعده الثاني، البعد الروحي له دور في أنحياز العقل وقرارته وخياراته، بل أن بعض الفلاسفة يصرح وبدون تردد أن العقل مجرد عبد عن العاطفة الروحية وهو يماليها ويتملق لها، والسبب أن العقل منبعه وصانعه ومكونه روحي بالأساس، فعزل العقل عن الروح وأتخاذ هذه الأحادية معيارا نوعيا للحكم على الأشياء هو أيضا مجرد خرافة معرفية، فالإنسانُ حسب تكوينه وتكيفه ينقسم إلى عالَمَين مختلفين، عالَمِ المظهر "الشكلي" وعالَم الحقيقة أو الواقع "الذاتي أو الموضوعي أو الجوهري" وكلاهما تماما مثل الوجود سماء وأرض فوق وعلو حر وبرد، وبالتالي فصل أحدهما عن الأخر يعني إسقاط المعنى عن الأخر، أي أن الفصل بينهما يعني إلفاء الوجود الوجودي لكليهما معا.
يقول الكاتب مصطفى في ثنيات بحثه أن (أن الطبيعة البشرية تُبدِي هذه الثنائية الأنطولوجية بين المظهر والواقع، ثمة معركةٌ تدور رحاها داخل كل شخص بين «الدماغي» و«العاطفي»، بين «الوعي» و «الحَدس»، بين «الإمبيريقي» و«الطرَبِي» وعندما يحاول الجانب العقلاني أن يَمُد نطاقَه خارجَ حدودِه المستحقة فإنه يهين الإنسان ويبخس قيمة الطبيعة)، لقد بين الباحث هذا الترابط الجدلي والواقعي بين العقل والروح بين العقل والنفس بين الشكل والجوهر، وبالتالي المعقول واللا معقول يشكلان جزء من الوعي وأساسهما كلي في الإنسان، كلي مجموعي في تصوره وإدراكه وإحساسه، لذا لا يمكن أن نعتبر المعقول واللا معقول حدا أولي لما يمكن أن يكون خرافة بشروطها، وعلى الإنسانُ الواقعي أن يفهم العالَمَ كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون بعزل العالم عن أمتداده الثاني، ومثل هذا القرار المنطقي الموافق لطبيعة الوجود وتركيبه العام ليس قرارًا عقليًّا صرفًا، بقدر ما إنه قرارٌ أخلاقيٌّ وجدانيٌّ بالأساس نابع من إنسان كامل وليس من جزء منه أو من نصف ما يمكن أن يكون.
ونعود لنفس السؤال... إذا من أين تبدأ الخرافة إذا لم يكن العقل صاحب المعيار والقرار؟ الواقع يقبل كل شيء طالما أنه يساير قوانين الطبيعة ومنها الحلم ومنها التأمل ومنها الظن، أعتقد وبشكل أولي أن الحد يبدأ حين يخدع العقل بالمظاهر وهو يعرف أن ما في جعبته يرفض الحال الفكرة أو النتيجة، هذا الخداع بالتأكيد ليس خارجيا عن الإنسان ولا فوقيا عنه، إن ناتج عن ميل أو شغف أو رغبة أو حاجة نفسية عميقة ليكون محتوى الفكرة صادق أو على الأقل ممكن الحلم به، من هذه النقطة "الحاجة النفسية" يبدأ حد الخرافة، إنها لحظة الصراع بين عالمي الإنسان كما يقول الكاتب مصطفى...
من الطبيعي جدا أن الإنسان ككائن موجود في مجموعة من الروابط والعلاقات التي تطرز وجوده بأشكال مختلفة، فهي صراعات أحيانا وتكامل أحيانا وترابط مع مفردات الوجود أحيانا، وكلها في المحصلة هي التي ترسم المسار الوجودي له، وهي المسئولة أيضا عن صياغة مفردات الوجود بمعلومها ومجهولها، لذا فالإنسان كائن وموجود في خضم هذه العلاقات وعليه أن يتفاعل معها وبها ومن أجلها، لذا فمن المرجح عندي أن مقولة "الإنسان الطبيعي نتاج صراع طبيعي وفعل طبيعي وعلاقات طبيعية بشكل طبيعي"، هي مقولة حقيقية ولكن ينقصها شيء واحد أن الإنسان أيضا هو المسئول عن إشعال بعض هذه الحرائق الوجودية عندما لا يتبع الطبيعة الوجودية ويحاول أن يتمرد على قوانين يعلم أنها لا تنجح، لأن نجاحها يعني خرق معادلات لا يمكن خرقها، وبالتالي فما يتمرد به هو عبث لا أصولي وهدر للطاقة والزمن والفرصة الحقيقية له في هذا العالم الذي سيفارقه على أي حال.
هذا الصراع أما أن ينتهي بأتفاق هارموني إيجابي ليرسي معه معرفة شبه يقينية خاضعة للبرهان، فهنا نحن أمام ولادة معرفة حقيقية، أو ينتج الصراع نوع من الأهتزاز والتشويش في غياب الانسجام بين مكونات وعناصر الصراع وأدواته فيخضع الإنسان بالنهاية للنتيجة، بالتأكيد ستكون النتيجة مشوشه ومشوهة وضبابية لا يمكن الوثوق بها وتحمل محمل الإلجاء والقهرية، فغالبا نحن كبشر نحمل خرافاتنا ليس عن وعي حقيقي ناقد وعارف، وإنما نحملها كتحصيل حاصل وربما تحت عنوان قهرية العقل الجمعي التي ننشأ عليها، فهي بالأخير كما أجزم خارجية لمنها مستقرة بالذات حينما لا يكون هناك بديل عنها أو لا نخوض لأجلها صراع أخر حتى نصل للمعرفة في طريقنا للعلم.
من وجهة نظر أخرى يرى بعص المفكرين من أن العقل ليس ملكة منفصلة ولها أستقلال حقيقي عن الروحانية أو جزء العواطف والأحاسيس في الإنسان، بل جل ما يمكن وصفه أنه الجزء الأخير الذي تمر به العواطف والأحاسيس والروحانية لتأخذ مجراها للخارج، فهو مستلزم من مستلزمات الجانب المثالي في الإنسان أو كما يقول ديفيد هيوم (هو خادم الانفعالات، وينبغي بالضرورة أن يكون كذلك)، وبالتالي فليس هناك صراع حقيقي بقدر ما هو تمثيل وأنتاج للحواس والعواطف والمثل للخارج بواسطة مسمى متفق عليه بتسمية العقل، لأنه بالحقيقة أي العقل ما هو إلا الجزء من العواطف الذي لا يعمل بنشاز أو تلقائية أو فوضوية، بل هو الضابط العاطفي في داخل الذات الإنسانية والذي يدافع عن الإنفعالات بشكل يحميها من الفوضى، فالعاطفة هنا تمثل وجه المعرفة البدائي والعقل يمثل وجهها المنطقي وبالتالي العقل والعاطفة هما الإنسان ذاته في وحدة التكوين والتكييف.
من كل هذا يبدو أن حدود الخرافة والمعرفة تتداخل ولا يمكن لنا بشكل مؤكد أن نرسم خط فاصل بينهما طالما أنهما يخرجان لشكل طبيعي من الباعث للتفكير، أيا كان تسميته أو شكله، لكننا يمكن وفي حالة واحدة أن نحدد ما هو خرافي أو معرفي بناء على علاقة الواقع به من حيث قبوله كمبدأ عام ثم أمتحان هذا القبول بالمقارنات والمقاربات، وهذا ما يفسر لنا أيضا أن بعض أو الكثير من العقول العلمية والعملية تقبل وتتعامل مع الخرافة دون أن يقف العقل أو العلم مانعا من ذلك، لأن الواقع لا يرفضها بما يحمل من تأريخية أو بما يحمل من عقل ونفس جمعي يقول لا بأس أن يكون الأعتقاد بها طالما لا يضر ذلك بالسيرورة المتنامية للعلم والمعرفة.
لكن من المؤكد وهنا أركز على موضوع الحدود أن القبول بالخرافة وحتى ماهية التفكير الخرافي ينقسم وحسب قواعد المعرفة في المجتمعات إلى نوعين، الأول وهو الذي يغلب عن المجتمعات التي ينتقص وعيها كثيرا عن الحدود اللازمة للمعرفة وطرائق التفكير السليمة، فهذا النوع يشكل الغالب من الخرافة المذمومة حينما تعني التمسك الجامد بفكرة مع ثبات نسبي وإيمان عالي بها، هنا العقل الخرافي لا يقبل الخوض بها لأنه لا يريد الفصل بين عاطفة الأنتماء حرية لتفكير، إنه متمسك بما أمن به العقل الجمعي الذي يظن أن لا يمكن أن يخطئ في مثل هذا التقييم، هذا الموقف السلبي هو من يعرقل السيرورة المعرفية والعلمية عند الإنسان ويضعه في متاهات الهوية.
أما النوع الأخر من التفكير الخرافي أو الخرافة المستعادة أو المستوطنة، فهي التي تبدو كظاهرة في مجتمع أعلانه العام عدم اليقين بالخرافات واللا معقول واللا علمي، لكنه ينحاز إلى بعض أو هامه الخرافية ولا يستطيع التخلص منها كأنها جزء تكويني منه، هذه الخرافة لا توثر بشكل ضار بسيرورة المجتمع ولا تمنع تحركه للأمام ولها تفسير واضح هو أنها كجزء من الثقافة العامة التي درج عليها الواقع وربما لا تثير الأهتمام بها بالشكل الذي يعطل التفكير والتدبير، فهي ظاهرة شكلية أكثر منها عقيدة أو معتقد صلب وصعب التجاوز.
هنا مع هذه المقارنة يمكن القول أن الخرافة وصفها حدودها تعاريفها شكلها مرتبط إلى حد ما بالنسق الثقافي للمجتمع محل الدراسة، على طبيعة السائد فيه، فالمجتمعات التي تقدم الدين كأساس للمعرفة وتلتزم في هذا الترتيب، يكون المجال الطبيعي والرئيسي للخرافة في نفس النمط التفكيري السائد، أما المجتمعات التي تتبنى خيارات معرفية فكرية أخرى نلاحظ أن الخرافة الدينية تتحور وتتحول لهذا النمط التفكيري، لكنها لا تنقطع عن جذرها التاريخي الأول وهو سؤال الوجود، كيف متى لماذا وإلى أين وهو أيضا سؤال موجه للوجود، أي موجه أصلا للقوة التي أوجدت الوجود ورعت ديموميته ووضعن الإنسان في دوامة السؤال، لننتهي إلى أن الخرافة تولد مع السؤال الكوني وتنتهي به.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران.. محمود أحمدي نجاد يتقدم لخوض سباق الترشح لنيل ولاية ر


.. تقارير تتوقع استمرار العلاقات بين القاعدة والحوثيين على النه




.. ولي عهد الكويت الجديد الشيخ صباح خالد الحمد الصباح يؤدي اليم


.. داعمو غزة يقتحمون محل ماكدونالدر في فرنسا




.. جون كيربي: نأمل موافقة حماس على مقترح الرئيس الأمريكي جو باي