الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهافت اقتصادنا 15

نعيم مرواني

2024 / 5 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في فصل " الاقتصاد الإسلامي ليس علماً" ص 330، يقول المؤلف ان الاقتصاد الماركسي يحمل طابعا علميا برأي الماركسية، لانه حسب رأي انصاره يعتبر نتيجة محتومة للقوانين الطبيعية التي تهيمن على التاريخ. وحول الرأسمالية، يقول انها ، حسب انصارها، تعبير عن الصورة الاجتماعية التي تتفق مع القيم العملية والمثل التي يعتنقون. ثم يوضح مايقصد بعبارة " الاقتصاد الاسلامي ليس علما،" من خلال تأكيده على أن الاسلام " دين يتكفل الدعوة الى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة وليس علما اقتصاديا على طراز علم الاقتصاد السياسي ... اي انه ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله الى واقع سليم، وليس تفسيرا موضوعيا للواقع." ثم يعود فيقول الاقتصاد الاسلامي يشبه الاقتصاد الرأسمالي المذهبي في كونه عملية تغيير الواقع لاعملية تفسير له. ( ذكر مفردة "المذهبي" هنا يقصد التمييز بين علم الاقتصاد كاطار جامع والنظريات الاقتصادية أو المذاهب المتفرعة منه).
حسنا! دعونا نتوقف عند هذه النقطة لنرى مايقصده المؤلف. إعترف هنا بان الاقتصاد الاسلامي ليس علما كما هو الحال مع الاقتصاد السياسي، انما هو "ثورة للتغيير من واقع فاسد الى واقع سليم،" وهو أشبه من هذه الناحية بالمذهب الراسمالي. لكنه لم يخبرنا عن ماهية موازينه التي يعرف وفقها الواقع الفاسد والواقع السليم وماهي ادواته للتغيير. عند وضع نظرية ،في اي مجال من مجالات الحياة، يجب ان تكون اللغة المستعملة مشذبة وواضحة كي تقلص الغموض ،الذي لاتخلو منه اي لغة، الى ادنى درجاته، والا تصبح الاطروحة مجرد انشاء رومانطيقي منمق اقرب الى الشعر منه الى المنطق التطبيقي، وتاليا يصبح من الصعب احالة الافكار الى واقع عملي. فقيمة الفكرة، حسب جون ديوي ،احد مؤسسي الفلسفة البراغماتية، تأتي من قيمة تطبيقها العملي ولن تصبح الافكار حقائقاً الا من خلال التجربة العملية .
ثم يقول في ص 332 ساعد توفر الجانب التطبيقي والحياة العملية للنظام الرأسمالي، ساعد الاقتصاديين الراسماليين على وضع علم الاقتصاد السياسي، في حين ان شيئا كهذا لم يتح للاقتصاديين الاسلاميين لان الاقتصاد الاسلامي مازال بعيدا عن مسرح الحياة، وعليه لايمكن ان يتكون للاقتصاد الاسلامي علم خاص به الا من خلال البحث العلمي المعتمد على مسلمات معينة تفترض افتراضا ويستنتج في ضوئها الاتجاه الاقتصادي ومجرى الاحداث.
ولك عزيزي القارئ ان تتخيل كيف ستبرز الخطوط التكوينية والهيكل الاقتصادي الذي يمكن احالته الى نظام اقتصادي عملي واقعي والمؤلف يعتمد في بحثه على مسلمات فرضية نظرية مستعملا لغة مليئة بالغموض اقل مايقال عنها انها شعرية سوريالية تخاطب الخيال.. لغة جعلت كثيرين ممن قرأوا هذا الكتاب عاجزين عن فهم كنهه، وعندما عجزوا ظنوا خاطئين ان العلة بهم وان الطرح فوق مستوى ادراكهم.
في صفحة 333 يجادل المؤلف بان " دورات الانتاج والاستهلاك في مجتمع قائم على أساس الربا يعرقلها هذا الجزء الكبير من الثروة الاهلية الذي يدخر طمعا بالفائدة الربوية، ويسحب بذلك من مجالات الانتاج والاستهلاك، الامر الذي يؤدي الى كساد قسم كبير من الانتاج الاجتماعي للبضائع الرأسمالية والبضائع الاستهلاكية." ثم يردف قائلا: " فحين يقوم المجتمع على أساس الاقتصاد الاسلامي، ويحرم فيه الربا تحريما تاما، كما يمنع عن الاكتناز بالنهي عنه، او يفرض ضريبة عليه، فسوف ينتج عن ذلك اقبال الناس جميعا على انفاق ثرواتهم."
جميل جدا! تلك الجدلية تؤكد بما لايقبل الشك ان المؤلف غير ملم بالواقع التطبيقي المعاصر للنظام الرأسمالي ولابالدور الكبير الذي تلعبه المصارف " الربوية" والمؤسسات المالية الاخرى في استدامة دوران دولابه طول هذه السنين، والدليل انه استعمل للحكم على النظام الراسمالي المعاصر مفردات لممارسات مالية إسلامية بدائية ك (الادخار والاكتناز) متوهما الى اثرياء الدول التي تتبنى نظام السوق الحر حين تتضخم أموالهم يحيلونها ذهبا وفضة ويدخرونها في جرار يدفنونها تحت الارض او أوراقا مالية يحفظونها في وساداتهم.
يقينا انه كان يظن ان الرأسمالي حين يمارس الاقراض الربوي انما يمارسه بنفسه ويدخر ارباحه في بيته بمعزل عن النظام المصرفي الذي يمثل المحرك الرئيسي للنظام الرأسمالي. بينما يعتمد النظام المصرفي ،الذي لايمكن للنظام الراسمالي ان ينتصب بدونه، على الاموال التي يودعها الناس في المصارف. تعمل المصارف كوسيط بين المدخرين والمقترضين. فتقوم بجمع الودائع من الأفراد والشركات ثم إقراضها للمقترضين الذين يحتاجون إلى رؤوس الأموال للاستثمار أو الاستهلاك. تساعد هذه العملية على تخصيص الموارد بكفاءة في الاقتصاد الراسمالي وبالتالي فالمصارف (تعتمد على مدخرات الزبائن) تشكل بذلك أهم أعمدته.
بكلمات أخر: المصارف في النظام الاقتصادي الرأسمالي وسطاء بين المودعين والمقترضين وهي إذن وسائل الرأسماليين لتشغيل اموالهم وتشغيل ارباحها كي تستمر ارباحهم وبالتالي يستمر تضخم أموالهم.بصورة أكثر تبسيطا: من يمتلك اموالا لابد له من ايداعها في المصرف والمصرف بدوره يستثمرها من خلال اقراضها لمن يحتاجها مقابل فائدة يتقاسمها المصرف مع المودع بنسب متفاوتة تعتمد على مقدار المبلغ ومدة الايداع. ايداع 10 الاف دولار لمدة عشر سنوات مثلا تعود بفائدة اعلى للمودع من ايداع نفس المبلغ أو أقل منه لاقل من عشر سنوات، وهكذا.
ما الذي جعل المؤلف يظن ان الرأسمالي او مالك المال يدخر مايملك من نقود اومعادن ثمينة او يكتنزها في بيته بينما يدر ايداعها في المصرف ارباحا طائلة عليه، خصوصا وان الاقتصاد السياسي الراسمالي، كما في الشريعة الاسلامية، يفرض ضريبة سنوية على المال المكتنز او المدخر أو غير المستثمر. الاغنياء في الدول الراسمالية يحيلون اموالهم الى املاك غير منقولة فيستثمرونها في كل القطاعات الاقتصادية بما فيها العقارات والشركات الانتاجية والاستشارية لتلافي دفع الضرائب عليها ان هي ادخرت على شكل اموال. فهم بهذا يضربون عصفورين بحجر واحد: جني ارباح " ربوية" من استثمار اموالهم والافلات من دفع الضرائب السنوية التي تفرض على المال المدخر وهم بهذا ينفعون وينتفعون.
في ص 336 يجادل المؤلف أن الاسلام لايرى ترابطا حتميا بين تطورات اشكال الانتاج وتطورات النظم الاجتماعية – او علاقات الانتاج، كما تؤكد الماركسية ذلك في نظرية المادية التاريخية. في ضوء الاسلام ،يقول المؤلف، ليست الحياة الاجتماعية باشكالها نابعة من الاشكال المتنوعة للانتاج، وانما هي نابعة من حاجات الانسان نفسه، لان الانسان، حسب قوله، هو القوة المحركة للتاريخ لاوسائل الانتاج.
المادية التاريخية، كما جادلنا في مقالات سابقة، هي تعريف علمي لحركة وتطور التاريخ الاجتماعي الانساني وليس باستطاعة أي دين أو فكر ان يفصل الترابط بين اشكال الانتاج وعلاقات الانتاج مثلما لايستطيع اي دين او فكر تغيير او الغاء قانون فيزيائي أو اقتصادي، كأن يفصل بين الفعل ورد الفعل أو بين العرض والطلب.
وعن حاجات الانسان التي يراها المؤلف مسؤولة عن بلورة النظم الاجتماعية، يقول " الانسان خلق مفطورا على حب ذاته والسعي وراء حاجيته," وهذا يقوض اساس نظامه الاقتصادي الاسلامي، الذي يؤسس على فرضية كون الانسان مجبول على حب الخير للآخرين وتاليا النزوع الى مشاركتهم أملاكه. انانية الانسان وسعيه وراء حاجياته هو تماما مابنت عليه الراسمالية مذهبها الاقتصادي. وحين يقول"العلاقات الاجتماعية نابعة من حاجات الانسان نفسه،" لم يثبت لنا المؤلف توقف حاجات الانسان عند عصر معين او تطورها بمرور الزمن، وماهي العوامل التي تؤدي الى ثبات او تطور حاجات الانسان ان لم تكن تلك المتعلقة باشكال الانتاج.
أنا على ثقة لو انه بحث في أسبابها لوجد نفسه مضطرا لقبول المادية التاريخية وذلك لعدم وجود تفسير علمي او منطقي لتطور حاجيات الانسان وتاليا العلاقات الاجتماعية غير تلك العوامل المتعلقة باشكال الانتاج.
النظريات العلمية والقوانين الطبيعية المكتشفة ليس بوسعنا رفضها اذا كانت لاتناسب ثقافتنا وافكارنا، فالارض سوف لن تعود مسطحة اذا ماكرهنا القائلين بكرويتها والافكار لم تتجمد في زمن معين اذا ماكرهنا القائلين بنسبيتها وسوف لن تنفصل العِلّية بين أشكال الانتاج واشكال النظم الاجتماعية لمجرد كون القائلين بها لايدينون بديننا.
تنويه: هذا واحد من سلسلة مقالات نقدية تشخص مكامن الخلل في كتاب "اقتصادنا" لمحمد باقر الصدر. لكي تتكون لديكم صورة مكتملة عن موضوع البحث، أدعوكم، سادتي القراء، لقراءة المقالات السابقة ذات العلاقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عظة الأحد - القس كاراس حكيم: فترة الصوم المقدس هي فترة الخزي


.. عظة الأحد - القس كاراس حكيم: السيد المسيح جه نور للعالم




.. عدد العائلات المسيحية في مدينة الرقة السورية كان يقدر بنحو 8


.. -فيديو لقبر النبي محمد-..حقيقي أم مفبرك؟




.. -روح الروح- يهتم بإطعام القطط رغم النزوح والجوع