الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تكوين، تنوير.. أم إعتام

جمال الهنداوي

2024 / 5 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إنَّ بعض الظن إثم..أي ليس كله، وهذا الهامش الذي يوفر لنا إمكانية أن يؤخذ كلامنا على محمل الظن الحسن هو ما يجعلنا نحاول أن نلج في خضم كل ذلك التراشق المسرف للاتهامات الذي رافق إعلان "مؤسسة تكوين الفكر العربي" عن انطلاقها بمجلس أمناء يضم عدداً من الشخصيات الفكرية والكتاب، وقد يكون تحرجنا في الخوض في هذا الموضوع هو ضخامة الاتهامات التي تملأ الفضاء الافتراضي والتي تتأرجح في بون شاسع من الاختلاف ما بين الدمغ بالأصولية والرجعية والانغلاق من جهة والرمي بالدعوة الصريحة للإلحاد والكفر البواح من جهة أخرى..
ولكن نفس هذا الظن، ولكن في شقه الآثم هذه المرة ، هو ما يدفعنا للتطير – بعض الشيء- من مصطلح " التنوير" الذي تردد كثيراً لتبرير نشاط هذه المؤسسة، خاصة مع تجاربنا المريرة مع المشاريع التنويرية والحداثوية مفرطة التمويل، والمحمية بمظلة إعلامية وسياسية رسمية من دول تتحسس مسدسها كلما ذكر مصطلح التنوير أمامها..
فالمؤسسة التي أعلن في القاهرة انطلاق أعمال مؤتمرها السنوي الأول " تحت عنوان "خمسون عاماً على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟".تعرف نفسها على أنها تهدف " إلى وضع الثقافة والفكر العربي في أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلاً وشموليةً مع المجتمع العربي، ومد جسور التعاون مع الثقافات المختلفة في عالمنا المعاصر بهدف تمهيد السبيل نحو فكر عربي مستنير يقوم على قاعدة فكرية رصينة ومتزنة، وتؤسس جسوراً من التواصل بين الثقافة والفكر الديني، للوصول إلى صيغة جديدة في النظر"..وهو أمر جميل بالتأكيد، ولكن على الرغم من ذلك ومع الوجاهة المفترضة للمعطيات التي يقدمها مجلس أمناء المؤسسة، والذي يضم شخصيات فاعلة على القنوات الفضائية ووسائل التواصل الحديثة مثل إبراهيم عيسى ويوسف زيدان، وإسلام بحيري، وألفت يوسف، ونايلة أبي نادر، وفراس سواح.. إلا اننا لم نعهد أن تكون الحركات التنويرية بهذه الأناقة المترفة من قبل، أو أن يعلن عن انطلاقها باحتفال باذخ في إحدى القاعات الكبرى.
كما أنَّ حصر التنويرفي " تمهيد السبيل نحو فكر عربي مستنير" لغرض الوصول " صيغة جديدة في النظر" يتغافل عن كونه ليس مجرد حركة فكرية فلسفية تحسم متبنياتها عن طريق النقاش والحوارات في المنتديات الثقافية، وإنما هو كذلك اتجاه سياسي اجتماعي ينطوي على قيم وأخلاقيات وسلوك وأنماط حياة وأساليب في الحكم. وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول المرجو من حركة تنويرية تمول من كيانات عائلية مغلقة تستمد شرعيتها من مقولات وطبقات متناسلة من المتفقهين فضلاً عن ارتباطات تخادمية مريبة .
والسؤال الأهم هو ما أولوية تأسيس " جسور من التواصل بين الثقافة والفكر الديني" في ظل التناقضات السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي تعصف بدول المنطقة ، وخاصة دولة المقر للمركز العتيد، اللهم إلا أن كان الهدف تخليق ثنائية تضادية مستحدثة، - على أنقاض الثنائية الطائفية التي استحدثت أيضاً من نفس الدوائر الراعية - تستهدف انشاء صراع جديد داخل المجتمعات الاسلامية لصرف النظر عن تضاديات العدل والاستبداد، أو الفقر والتنمية، أو التجهيل والتعليم، والأهم .. تضاديات الحرية وحقوق الانسان والتداولية مقابل الاستئثار والانغلاق والجور.
ونحن هنا وانْ كنا نتفق مع خطاب المؤسسة في ضرورة "إعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين" ولكن اختزال التناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها دول المنطقة في حيز المتبنيات العقائدية يحمل في طياته الكثير من الشبهات التي تشير بوضوح إلى وجود أصابع خارجية تحاول تصنيع واقع يستثمر المأزق المفصلي الذي نمر به لتمرير مخططات قد لا تتطابق مع اهداف وتطلعات الجماهير في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما أن تغييب العقد المشاكل الحقيقية ونفيها من خارطة التدافع الاجتماعي وتلخيص التدافع المجتمعي بالانتماءات المعتقدية والمذهبية قد يكون فيه جانب كبير من الخبث الإعلامي الذي يخدم توجهات القوى التي تتشبث بالشعارات الدينية والطائفية كوسيلة للوصول والتأبد على سدة الحكم واستثمار كلام الخالق لتركيع المخلوق وسلب إرادته وخياراته السياسية الحرة..
نؤمن أنَّ المشروع بقضه وقضيضه ليس أكثر من حملة من حملات العلاقات العامة التي تنثرها الدولة الممولة هنا وهناك، وقد يكون الهدف المعلن في " مد جسور التعاون مع الثقافات المختلفة في عالمنا المعاصر" هو فصل الخطاب في هذا الجهد، ولن يكون من الصعب التكهن بـ" الثقافة " المستهدفة بالتواصل، ولكن الحس السليم يقول إنَّ ما يصح على حقل الإعلانات التجارية لا يستوي مع حسابات البيدر السياسي خصوصاً في هذه الأزمات التي تستهدف اللحمة الوطنية والنسيج الاجتماعي وفي أكثر المناطق رخاوة منه.
أكثر ما نخشاه أن يكون هذا التوجه الجديد – الأقرب إلى الطيش- فقرة متجددة في المحاولات الحثيثة لبعض دول الإقليم في عملية جر شعوب المنطقة إلى أتون التقاطعات الطائفية المهلكة..وبتبسط وتهاون قد لا يتلاءم مع خطورة المنتظر من هكذا تفلتات ، خاصة مع التجربة المأساوية المنقولة فضائيا للنتائج الكارثية على الأرض لأيام الفتنة التي تم استنباتها في شوارع وأرصفة وأسواق العراق، والتي لم تكن إلا بسبب إعلاء القيم الطائفية وتقديمها كقيمة أولية مهيمنة على جميع المشتركات التي كان من الممكن أن تكون وسيلة صالحة لإشاعة روح الالفة والتسامح بين أبناء الشعب الواحد.. والخطر كل الخطر أن تستنسخ هذه السياسات المدمرة في أماكن أخرى من بلداننا ليست بقوة وتماسك ورسوخ النسيج المجتمعي العراقي ، تحت عنوان " التنوير" الإبراهيمي هذه المرة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حول تكوين : لا ثقة بنظام السيسي
محمد بن زكري ( 2024 / 5 / 21 - 10:13 )
التحية للأستاذ الكاتب

مجرد أن يكون مركز (تكوين) مدعوما من قبل نظام السيسي ، ومسكوتا عن نشاطه من قِبل أجهزة النظام القمعية .. بل ويحظى بالرعاية والحماية الرسمية ؛ هو شيء يحيطه بالشبهات والشكوك .
وحتى لو كانت نوايا (بعض) المؤسسين حسنة ، فإن النوايا الحسنة لا تكفي وقد تودي - كما قيل - إلى الجحيم .

من المعروف أن بعض مؤسسي مركز تكوين هم مثقفو السلطة المصفقين والهتيفة لـ (إنجازات !!!) السيسي ، من أمثال فاطمة ناعوت وابراهيم عيسى .. او الكهنة المودرن مروجي الدين الإسلامي الكيوت (آخر طبعة) كالداعية الإسلامي المودرن إسلام بحيري والمهرطقة ألفة يوسف وأمثالهما ؛ فأمرهؤلاء ليس مستغربا . أما الغريب نوعا ما ، فهو شأن فراس السواح و يوسف زيدان .
والمرجح ، هو أن الموضوع لا يخرج عن كونه حملة علاقات عامة ، و تلهية ، وزوبعة سيساوية في فنجان ؛ فالسيسي - الذي أتى به الإخوان أصلا ، والمتحالف مع الجماعة السلفية - هو القائل بأن القيم الدينية {الإسلامية طبعا} أعلى بكثير من القيم الإنسانية ، و ان الأزهر (الشريف) مؤسسة دينية تتسم بالاعتدال ! و الأيام كواشف .



2 - فقرة مهملة
جمال الهنداوي ( 2024 / 5 / 22 - 11:18 )
اتصور ان دور مصر والسيسي ليس الا جهة منفذة لمشروع يخدم توجهات دولة اخرى تعمل بالتخادم مع طرف ثالث..ولن يكون سوى فقرة مهملة في تاريخ التدافع الفكري العربي الذي لا يدور في الصالونات المرفهة عادة.. اسعدني مرورك سيدي الفاضل


3 - مشروع سياسي حقيقي
عبدالرحمن مصطفى ( 2024 / 5 / 23 - 09:58 )
دون القيام بمشروع سياسي حقيقي يعيد النظر في مسألة من يقرر السياسات الاقتصادية والاجتماعية بدلا من أن تكون حكرا على فرد أو فئة معينة لن يتغير أي شيء ،الناس سينظرون بريبة لهؤلاء المثقفين لأنهم من طرف السلطة وعلاقة الشعب مع السلطة في مصر وجميع الدول العربية هي علاقة سيئة ويشوبها الشك وعدم تصديق أي شيء يصدر من الحكومة وهذا وحده كافي لجعل كل جهود مثقفي السلطة هؤلاء تذهب أدراج الرياح
فضلا عن أن لدى هؤلاء المثقفين مشكلة سوء فهم للمشكلات التي تواجهها المجتمعات (العربية أو الناطقة بالعربية) وكيفية مواجهتها وحلها ،فالناس لاتتغير أرائها بالاقناع وبالمنطق طالما أن الأحوال الاجتماعية في منتهى السوء والتردي ،مالم تتغير أحوال الناس ويشعرون أنهم ليسوا مجرد ضيوف في بلادهم لن يتغير أي شيء بل سيكرس ذلك صورة سلبية في أذهان الناس للتنوير ولهؤلاء المجتمعين.


4 - أتفق
جمال الهنداوي ( 2024 / 5 / 23 - 12:45 )
اتفق معك تماما سيدي الفاضل..بل ارى ان هذه المبادرات وجدت اصلا لتمييع الامشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع وحصرها في اطار بعيد عن تطلعات الجماهير بالحرية والعدالة والمشاركة الحقيقية.. سلمت سيدي الفاضل

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تُدخل الاحتلال في ا


.. محبوب عبد السلام : مشاركة الحركة الإسلامية ضرورة لوقف الحرب




.. كارلو أكوتيس: كيف أصبح قديساً في الكنيسة الكاثوليكية؟


.. محبوب عبد السلام : مشاركة الحركة الإسلامية ضرورة لوقف الحرب




.. يهود من الحريديم يتظاهرون في تل أبيب احتجاجا على قانون التجن