الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طرق المعرفة

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 5 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٧٩ - الطريق الثالث للمعرفة

‏τὸ γὰρ αὐτὸ νοεῖν ἐστίν τε καὶ εἶναι

" الآن أنا سأخبرك، وأنت إسمع كلمتي وتمعنها. ما هي بالتحديد طرق البحث الوحيدة: التفكير سواء أن "يكون" يكون وأن "لا يكون" لا يمكن أن يكون
الأول أن الكينونة كائنة ولا يمكن أن تكون غير كائنة،
بالإقناع "يكون" هو الطريق المؤدي للحقيقة
وإما "لا يكون" يكون ويجب على "يكون" أن لا يكون
هذ الطريق، أؤكد لك، غير قابل للإستكشاف
لأنك لن تستطيع أن تعرف ما هو مفكر فيه تأكيدا بأنه غير كائن
ولن تستطيع أن تعبر عنه
في الواقع، إنه لنفس الشيء التفكير "يكون" والكينونة.

وربما بارمينيدس هو أول من فكر الكينونة وأعطاها الأولية على ما لا يكون وما هو غير كائن، وقسم المعرفة إلى قسمين متعارضين، الحقيقة la vérité - ἀλήθεια المطلقة الإيجابية من ناحية والرأي أو الدوكسا l opinion - δόξα الذي ينخره الشك والسلب واللاكينونة من ناحية أخرى. لقد كان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، ويبدو أن الفكر الغربي والفكر عموما مايزال سجينا داخل هذه الفكرة الفولاذية السميكة. فرغم وجود طريقان للمعرفة، فإن بارمينيس ألغى أحد الطرق وأقفل بابه بالمفتاح ووضع عليه حراسا ولم يترك لنا سوى طريق واحد يستحق أن نأخذه للوصول إلى غايتنا وهو طريق الحق والحقيقة واليقين والكينونة. ومن الواضح أن بارمينيدس يتحدث عن نظام معرفي أو إيبيستيمولوجي جديد، وليس كما أعتقد العديد من المفسرين والمترجمين عن أنطولوجيا إقصائية خالية من فكرة العدم. غير أن هذه الفكرة الخاطئة هو ما تبقى من فكر بارمينيدس وهو ما يتفق عليه اليوم جميع حاملي الإيديولوجيات المختلفة يمينية كانت أم يسارية وإن كانت تبدو متناقضة ظاهريا. فالحق والحقيقة والطريق الصحيح مفاهيم خرجت من مواقعها الأصلية وهاجرت من من نظام المعرفة اللغوي إلى ميدان الكينونة الحقيقية أو الإدراك لظواهر عينية. أصبحت هذه المفاهيم والمقولات كلمات مرادفة لله والقرآن والدين والمعتقدات عموما عند المسيحي العادي المعتدل أوالمتطرف، عند اليهودي المعتدل والأرثودوكسي المتشدد، عند المسلم العادي المعتدل وعند السلفي والجهادي والقاعدي والداعشي، وهي من ناحية أخرى كلمات مرادفة للحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان عند الرأسمالي الليبرالي والإشتراكي الديموقراطي والفاشي السلطوي.
وهكذا يبدو أن الفكر المهيمن في هذا العصر المنكوب على العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، هو هذا الفكر الممتليء بذاته حتى الحافة، الفكر المكتمل والذي ليس له داخل ولا خارج، منغلق على نفسه في وحدة مطلقة مكتف بنفسه لا يتخلله فراغ أو نقص من أي نوع. وهو الفكر الغير قادر على تجاوزنفسه لأنه فكر غير واع بذاته ـ إنه الفكر في ذاته ـ إن صح مثل هذا التعبير مثل الحجر والشجرة والجبل أو المحيط أوما يسمى بالطبيعة عموما. فكر مجمد ومتحجر ويابس وساكن وصامد في وجه الزمن، نفس الفكر القديم الذي تفوح منه رائحة الرطوبة والتعفن رغم أنه فكر مصقول ومعقم. وهذا الفكر المسطح الذي يتجسد في الرأسمالية المعاصرة وفي الفكر الديني عموما، الإسلامي والمسيحي واليهودي، إنه ليس فقط فكرا مجردا يتواجد نظريا في الكتب والدراسات والأطروحات الجامعية ومراكز الدراسات والبحوث والمؤسسات الفكرية والعلمية المتعددة، ولكنه يتجسد في هذا الإنسان الإيجابي، السيد المواطن المحترم الذي يؤمن بدينه ووطنه وقوميته، يحب أسرته وأطفاله وعائلته، المخلص لعمله أو للمهمة التي توكل إليه، يقوم بواجباته في خدمة المجتمع والمؤسسات التي تكونه كنسخة للمواطن الإيجابي المتفق مع جميع بقية المواطنين، يدفع الضرائب ويدلي بصوته في صندوق الإنتخابات كلما يطلبون منه ذلك ويشارك برأيه في المواضيع العامة المطروحة للنقاش السياسية منها والإجتماعية. إنه باختصار هذا الإنسان المتوسط والمعتدل الذي يحترم محيطه ومجتمعه وبيئته .. إنه الإنسان الذي يقبل كل الأوامر التي تأتيه من سلطة أعلى من موقعه في التراتب الوظيفي والإجتماعي. غير أنه لا يجب الإعتقاد أن هذا الإنسان الفاتر والباهت يخلومن العدوانية أو تنقصه الإرادة للتسلط، بالعكس من ذلك إن قلبه ممتليء بالكراهية والعنف والحسد ورغبة الإنتقام من كل من يقف في طريقه كعبقة لصعوده في سلم الرتب والمال والجاه والسلطان. إنه هذا المواطن البسيط الذي ينفذ أوامر رؤسائه ويقود القطار الممتليء بالمواطنين اليهود إلى المحرقة، إنه نفس المواطن الذي يقود طائرة الجيش الأمريكي أو الفرنسي أو الإسرائيلي ويفرغ شحنتها المكونة من أطنان القنابل المدمرة على بيوت المواطنين العزل، ويعود في المساء ليتفرج على مباراة البيسبول أو كرة القدم مع زوجته وأطفاله على ركبتيه. وهو نفسه هذا المواطن الداعشي الذي يبعث بفرقة من الشباب في مقتبل العمر ليفجروا أنفسهم في وسط الأسواق العامة ويعود بعد صلاة العشاء ليمارس الجنس في الظلام مع زوجته أو زوجاته مسبحا مبسملا ومحوقلا. هذا الإنسان بطبيعة الحال لا علاقة له بالعدم ولا بالعدمية لأنه كما سبق القول يستند إلى فكر إيجابي كينوني ممتليء بذاته. فكر يتقبل ولا يرفض، فكر ينفذ ولا يناقش، فكر متيقن ولا يتسائل، فكر ثابت متين كالفولاذ، لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه. إته الفكر العالمي المسطح والمسيطر على كل العقول، تردده وسائل الإعلام والجرائد والمجلات الشعبية كما المجلات والدوريات الأكاديمية والجامعية. هذا الفكر هو فكر ما هو كائن وهو الفكر المنطبق مع ذاته، فهو في ذاته محاصر بذاته ولا يمكنه الإفلات من هذه الكينونة المكثفة، ولا يمكنه الخروج من هذه الإيجابية الفائضة التي تلتهم كينونته. والإنسان المنصهر في هذا الفكر لا يمكنه أن يقوم إلا بما هو واجب عليه القيام به، بما هو مخطط ومبرمج و" طبيعي "، لأنه إنسان طبيعي يطيع رغباته الأولية إلى حد معقول ولا يجازف أن يكون متطرفا في أي جانب من جوانب الحياة، فالحكمة الأولى هي الإعتدال. في منتصف القرن الماضي أطلق هربرت ماكيوز إسم " الإنسان ذو البعد الواحد " على هذا النوع من البشر، غير أنه بعد نصف قرن فقد حتى هذا البعد الوحيد وأصبح إنسانا بدون أبعاد، مجرد نقطة سوداء تهيم في الفراغ، كتلة من الكينونة العمياء، كائنة مثل حجر ينقصها الزمن والوجود.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكثيف الضربات على مواقع الحوثيين للحد من قدراتهم على مهاجمة


.. متظاهرون إسرائيليون يغلقون شارع أيالون في تل أبيب للمطالبة ب




.. أكسيوس: البحرية الأمريكية أنفقت مليار دولار على الذخائر لموا


.. مظاهرة في العاصمة الألمانية برلين تطالب بوقف الحرب على غزة




.. الاتفاق على على قواعد المناظرة الأولى بين بايدن وترمب