الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نبوءةُ الرجل المثقف!

فاطمة ناعوت

2024 / 5 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



(جاء علينا حينٌ من الدهر كانت فيه كلمةُ "مثقف" تعني "صاحب مقام رفيع”. كان احترامُ الثقافة والمثقفين جزءًا لا يتجزأ من قِيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث أن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة "أفندي" وتُسمّي العامل الكفءَ المثقف "أُسطى" أي "أستاذ”.
وذاك الحينُ من الدهر ظلَّ مستمرًّا طوال حياة الشعب المصري، حين كان المثقف … من: "رفاعة رافع الطهطاوي" إلى "محمد عبده" إلى آخر كوكبة العقول المضيئة التي ظل مجتمعُنا ينظر إليها، مثلما ينظرُ إلى مصادر الضوء تُنير له وجودَه وحياته، ويرفعها إلى مستوى التبجيل العظيم والقيمة الخالدة.
ولم يكن حظُّ المثقفين من خريجي الجامعة المصرية بأقل؛ فقد كانوا علماءَ في تخصصاتهم، وكانوا كذلك من كبار مثقفي عصرهم. والذين يُدهشون كيف كان الجرَّاحُ العظيم "علي باشا إبراهيم" عضوًا مؤسِّسًا ومسؤولًا عن البرامج في "المجلس الأعلى للإذاعة المصرية" عند إنشائها، ربما لا يعرفون شيئًا عن "علي إبراهيم": "المثقف" المُلمّ، العالِم.
ولا أعتقد أن بلدًا من بلاد العالم جُبِل شعبُه على تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا. إن المكانةَ التي رُفع إليها "طه حسين"، "العقاد"، "أحمد حسن الزيات"، "المازني"، "محمود عزمي"، "سلامة موسى"، "توفيق الحكيم"، "نجيب محفوظ"، "حسين فوزي"، "لويس عوض"، "أحمد أمين"، "أحمد زكي"، "هيكل"، "مصطفى مشرَّفة"، "زكي نجيب محمود"، (وأضيفُ إليهم "يوسف إدريس")، تُثبت أننا بالسليقة "شعبٌ يُقدِّس المعرفة والثقافة"، شعب في أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا.
بل إن الاحترامَ الذي يحظى به «حكماءُ زمانهم» من الفلاحين الأُمِّيين والعمال وسكان النجوع والحارات، احترامٌ لا يمكن للإنسان أن يُخطئه إذا أُتيح له الاحتكاكُ الكافي بالحياة اليومية في أقل مستوياتنا الاقتصادية والمعيشية.
ماذا إذن حدث فقلب أمورَنا رأسًا على عقب، حتى أصبحت كلمة "أفندي" تُقال للسخرية، وكلمة "مثقف" تُذكر من باب التوبيخ و"التريقة"، وكلمة "ثقافة" يتحسَّسُ لدى ذكرها بعضُ المواطنين أنوفَهم وكأنما هي شيء لا يُطاق؟!
ماذا بالضبط حدث؟…. دفعت "ثورة يوليو" ١٩٥٢ إلى الساحة الوجودية جماهيرَ غفيرةً من الطبقة المتوسطة والصغيرة التي كانت تحيا على هامش الحياة، ووفَّرت لها التعليمَ والماء والنور والمستشفيات وفتحت لها أوسع المجالات للكسب، ولكنها أبدًا لم توفِّر لها ما هو في رأيي أهم من هذا كله؛ وهو "الإشعاع الثقافي" الذي يُحيلها إلى كائنات متحضرة منظمة، ويجعلها كلما ارتقت اقتصاديًّا ترتقي سلوكيًّا وتعامليًّا وإنسانيًّا وفكريًّا. إن انعدام المحصول الثقافي للإنسان يجعل الدابّةَ أحسنَ منه. فالإنسانُ مزوَّدٌ بعقل لابدَّ أن يعمل. وإذا لم يعمل في اتجاه صالح، فسوف يعمل في اتجاه خاطئ وربما إجرامي.
إننا ننحدر ثقافيًّا وسلوكيًّا بدرجة خطيرة. والغوغائية، نتيجةً لانعدام الثقافة، تسودُ إلى درجة تُهدد فيها باكتساح وجودنا كله. ومع وجود هذه الكميات المخيفة من البشر في هذا الحيِّز الضيق؛ فإننا ذاهبون إلى كارثة محقَّقة، لا قدر الله، إذا لم نُولِ رفع المستوى الفكري والثقافي للشعب الأهمية القصوى الجدير بها. الثقافةُ أخطر من أن تكون من كماليات الحياة. الحياةُ نفسها هي الوجود المثقف للكائنات.)
***
لعلّك عزيزي القارئ تشعرُ أنك قد قرأت تلك الكلمات من قبل. وصدقَ حدسُك. فهي قطوفٌ من مقال "أهمية أن نتثقف يا ناس"، الذي كتبه المبدعُ الإصلاحي الكبير الدكتور "يوسف إدريس" باكيًا على تدهور حال "الثقافة" في الشارع المصري قبل أربعين عامًا! كتبه بقلمٍ غاضب من عدم توقير المثقفين واحترامهم، على عكس ما دأب عليه الشعبُ المصري طوال تاريخه! وغدا ذاك المقالُ الصارخُ عنوانًا وتصديرًا لكتاب شهير أصدره "يوسف إدريس" عام ١٩٨٤. وما أشبه اليومَ بالبارحة! تحققت نبوءةُ الرجل "المثقف" وصارت "الثقافةُ" اليومَ مدعاةً لسخرية بشر يخطئون في كتابة أسمائهم! شخصٌ يعجزُ عن كتابة جملة واحدة ناجيةً من أخطاء النحو والصرف والإملاء، لكنه قادرٌ، بكل جسارة، على سبّ وتحقير وتجهيل والسخرية من مثقفٍ كبير، أو مفكّر رفيع المقام، أو أديب مرموق يرافقه الإجلالُ والتوقير إينما ارتحلَ وحلّ في محافل العالم! كيف سمحنا بهذا؟! أرفعُ إصبعَ الاتهام في وجه الإعلام المصري الذي لم يوقّر مفكرينا ومثقفينا، واستبدل بهم مَن يساهمون في تفريغ العقل المصري وتكريس هشاشته. ما أحوج "الجمهورية الجديدة" إلى إعادة بناء بيت العقل المصري، لعلّنا ننجو!

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة تجنيد المتدينين اليهود تتصدر العناوين الرئيسية في وسائل


.. 134-An-Nisa




.. المحكمة العليا الإسرائيلية تلزم اليهود المتدينين بأداء الخدم


.. عبد الباسط حمودة: ثورة 30 يونيو هدية من الله للخلاص من كابوس




.. اليهود المتشددون يشعلون إسرائيل ونتنياهو يهرب للجبهة الشمالي