الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب غزة وانكشاف أزمة الحداثة الغربية

فراس ناجي
باحث و ناشط مدني

(Firas Naji)

2024 / 5 / 26
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يوماً بعد يوماً وطوال الأشهر الماضية من الحرب في غزة، يزداد انكشاف لا أخلاقية وخداع منظومة الحكم الغربية ليس فقط باضطراد متسارع يفوق المعدلات السابقة، بل بالعمق أيضاً إذ أصبح يمس جوهر الحضارة الغربية نفسها وأساسها الأخلاقي.

لعل من أوضح دلائل هذا الانكشاف هو الابتذال في الخطاب السياسي الأمريكي والغربي الذي لا يزال يدّعي بالتفوق الأخلاقي وبنبل قيم الحضارة التي ينتمون اليها ورقيها على باقي دول وحضارات العالم المختلفة. فأمريكا والغرب لا يزالون يصّرون على عدم وجود أساس واقعي لجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، على الرغم من إن محكمة العدل الدولية أخذت بوجاهة هذا الاتهام وشرعت في التحقيق فيه، بل وفرضت على إسرائيل إجراءات احترازية لمنع استمرار جرائم الإبادة هذه خلال حربها في غزة. ففي حين جيّرت أمريكا والغرب محكمة الجنايات الدولية لاتهام روسيا بالإبادة الجماعية في أوكرانيا مع اصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي بوتين، هددت أمريكا المدعي العام لنفس المحكمة بملاحقته إذا باشر في اصدار مذكرات التوقيف بحق قادة إسرائيل المسؤولين عن جرائم الاحتلال في حرب غزة. كذلك يساهم الغرب بفاعلية في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين من خلال مئات الشحنات العسكرية المُدعمة بالاساطيل وحاملات الطائرات والقتال المباشر – مثل قصف اليمن واسقاط الأسلحة الجوية الإيرانية – وبلايين الدولارات من المساعدات الاقتصادية، بالإضافة الى حماية إسرائيل سياسياً عبر استخدام الفيتو في مجلس الأمن، واعلامياً من خلال تسخير إعلامها العالمي لترويج السردية الاسرائيلية.

كل ذلك مع التناسي والتغافل عن الجرائم التي تقترفها إسرائيل في غزة والمكشوفة للعالم أجمع من استهداف للمدنيين (أكثر من 34 ألف قتيل حتى الآن) معظمهم من الأطفال والنساء (مقتل واصابة أكثر من 26 ألف طفل لحد الآن، من الأعلى في نسب النزاعات العالمية)، مع التدمير الكامل للمنشآت الصحية والخدمية والتعليمية التي حوّلت غزة الى أرض بدون حياة فاقت حالة الدمار التي شهدتها ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد سعت إسرائيل الى التطهير العرقي من خلال التهجير القسري للفلسطينيين من مناطقهم في قطاع غزة وتشديد الحصار عليهم لمنع دخول المساعدات الإنسانية وحرمانهم من أي موارد للحياة. كما شرعت بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة بتحريض ديني-سياسي من ناتنياهو – أعلى مسؤول سياسي فيها - بقوله: "يجب أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس، ونحن نتذكر ذلك بالفعل". وهنا يستشهد ناتنياهو بقصة إبادة العماليق التوراتية: "اذهب وحارب عماليق، اقضِ عليهم قضاءً تاماً، هم وكل ما لهم، لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرجال والنساء والأطفال والرضّع، واقتل ثيرانهم وغنمهم وجِمالهم وحميرهم، وحاربهم حتى يَفنَوا". يضاف إلى ذلك التوثيق المصور للجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية مثل مقتل الطفلة هند رجب، ومجزرة مستشفى الشفاء، وقنص النساء والأطفال وكبار السن، مع التحقير لإنسانية الفلسطينيين بتسميتهم بالحيوانات البشرية.

كذلك يعزز خطاب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في نيسان الماضي - بمناسبة اصدار تقرير حقوق الانسان للعام 2023 – هذا الابتذال الأخلاقي للغرب الذي أستنكر فيه "الهجمات المروعة" لحماس على إسرائيل في 7 أكتوبر، بينما اكتفى "بالقلق" للخسائر الفادحة في أرواح المدنيين في غزة. فلم يكتفي بلينكن بعدم الاشارة الى جرائم الإبادة الجماعية لإسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين التي أثارت الاستنكار والاحتجاج العالمي حتى في قلب الغرب نفسه، بل برّر هذه الجرائم "لممارسة إسرائيل حقها لضمان عدم حدوث مثل هذه الهجمات مرة أخرى"، وتجرّأ في الوقت نفسه بالتلويح بالإعلان العالمي لحقوق الانسان، والتبجح بالمنهجية التي اتبعها موظفوه في إعدادهم لهذا التقرير؛ بينما لم يفته أن يستنكر تجاوزات حقوق الإنسان في بيلاروسيا وفنزويلا وكوبا بالإضافة الى روسيا ونيكاراغوا، وأن يتعاطف مع نساء أفغانستان تحت حكم طالبان ثم يتضامن مع المجتمعات المثلية في أوغندا.

أما فكرياً، فقد تراصف العديد من المفكرين الغربيين للدفاع عن إسرائيل في عدوانها على غزة من بينهم الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس - المُنظّر لمفهوم الفضاء العام ونظريات متعلقة بخطاب الأخلاق وإعادة البناء العقلاني - الذي وقّع مع مفكرين آخرين "مبادئ التضامن" عادّاً الانتقام العسكري الإسرائيلي هو "مُبرَر من حيث المبدأ" ومدعياً إن أي "معايير للتقييم تخطئ تماماً عندما تنسب نوايا الإبادة الجماعية الى الأفعال الإسرائيلية" وان "روح الديمقراطية" المتمحورة حول حماية حقوق الانسان في المانيا مرتبطة بحق إسرائيل في الوجود.
ربما يمكن تفسير تحيز الغرب ضد الفلسطينيين وعدم تطبيق الحقوق الإنسانية والسياسية الدولية التي يبشرون بها عليهم من خلال مفهوم "الاستشراق" الذي نظّر له المفكر ادوارد سعيد وما صاحب ذلك من أدلة وبراهين على ترّسخ النظرة الحضارية العنصرية أو الفوقية للغرب الى الفلسطينيين أو غيرهم من الافريقيين والآسيويين. فهناك نزعة عنصرية ممنهجة في أعمال بعض فلاسفة عصر التنوير الذي يُعدّ الأساس الفكري لنظام الحداثة الغربي مثل كانط وهيجل وفولتير وجون لوك. كما ارتكب الاوربيون في ذروة عصر امبراطورياتهم الحديثة جرائم عديدة مثل جرائم الإبادة الجماعية لألمانيا في ناميبيا والجرائم ضد الإنسانية لبلجيكا في الكونغو ولفرنسا في الجزائر ولبريطانيا في الهند وغيرها الكثير.

لكن الأمر هنا هو أوسع من الحقد أو العنصرية ضد الفلسطينيين في موقف الغرب من حرب غزة، خاصةً إذا اخذنا في الحسبان ظواهر أخرى تمس صميم الفكر الليبرالي الغربي في ضمان حرية التعبير والحرية الشخصية داخل الغرب نفسه. فقد عُوقب الموظفون في المؤسسات العامة والخاصة بسبب التعبير عن مساندتهم للقضية الفلسطينية، وقُمعَ طلاب وأساتذة الجامعات بوحشية عند اعتصامهم ومطالبتهم بوقف الاستثمار والتعاون الأكاديمي مع إسرائيل، لا بل تم اعتقال الأشخاص لمجرد ارتدائهم لملابس قد يُفهم منها تعاطفهم مع حركة حماس. كما تواطأت كبرى شركات التكنولوجيا الرقمية في الانحياز الخوارزمي والرقابي الى جانب الاحتلال الإسرائيلي وحجب المنشورات المساندة لفلسطين على منصات التواصل الاجتماعي المملوكة لهم. ولعل حدوث معظم هذه التجاوزات على حرية التعبير والاحتجاج السياسي في الولايات المتحدة هو الأكثر تعبيراً عن المأزق الذي يمر به النظام الغربي، إذا اخذنا في الحسبان قدسية هذه الحقوق في الدستور الأمريكي الذي ينص التعديل الأول فيه بمنع صياغة أي قوانين "تحد من حرية التعبير أو التعدي على حرية الصحافة، أو التدخل في حق التجمع السلمي".

إلا إن الأكثر مفارقة هو في كشف حصر القيمة الإنسانية للفلسطينيين في ما تُوّفِر هذه القيمة من إضافة لمصالح الغرب المادية. فقد أشار جاريد كوشنر، صهر وكبير المستشارين للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب – في لقاء مع البروفيسور طارق مسعود من مركز الدراسات الشرق أوسطية في جامعة هارفارد – إلى إن أرض غزة "هي من ممتلكات الواجهة البحرية التي يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة للذين يسعون للبناء والتعمير" وانه لو كان معنياً بالأمر مباشرةً، "كان سيعمل جهده لنقل الناس خارج المنطقة وتنظيف القطاع". فقيمة أرض غزة من منظور كوشنر – وهو يمثل الشريحة الأكثر سيطرة على سياسات الغرب الداخلية والخارجية – هي فقط كعقارات بواجهة بحرية يمكن أن تكون مُربحة للمستثمرين إذا تم التخلص من الفلسطينيين وعبئهم "الإرهابي"؛ أي لا توجد أي قيمة مضافة لحق الفلسطينيين في أرضهم التاريخية إذ رأى إن الدولة الفلسطينية هي "فكرة سيئة للغاية". كما هلّل كوشنر للنموذج الحداثي السعودي بقيادة محمد بن سلمان الذي تخلص من الراديكالية في المجتمع السعودي وبات يعمل على تحويله الى مجتمع ليبرالي خلاق متصالح مع قيم الحداثة الغربية ومتحالف مع إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً، كمثال يمكن تطبيقه في أراضي الفلسطينيين.

لقد كشفت الحرب الوحشية الإسرائيلية-الغربية على الفلسطينيين في غزة على تأصّل دافع الجشع المادي في القيم الأخلاقية الغربية الذي يمكن أن يخفي الوحشية واللا إنسانية خلف واجهة من الحداثة والتنوير. فبالنسبة الى المفكرين الاخلاقيين الألمان، فان حياة الطفل الفلسطيني ليس لها نفس القيمة لحياة الطفل اليهودي في إسرائيل "الديمقراطية" والمنتمية الى الحضارة الغربية، لأن الثمن الذي سيدفعه هؤلاء مقابل اتهامهم باللاسامية هو أكبر بكثير من الثمن الذي سيدفعونه إذا تم اتهامهم بالعنصرية أو النفاق. وفي نفس الوقت يمكن تسويق الطفل الفلسطيني كرقم بدون إسم أو قصة حياة في مجتمع متخلف ليس من المتوقع فيه أن يقدّم أي مشاركة حضارية في المستقبل، مقابل الطفل اليهودي "المتحضر" مع كل احتماليات مساهمته الحضارية فتخسر الإنسانية جمعاء لمقتله.

يجدر الإشارة في هذا السياق، الى ان العديد من المفكرين العرب والغربيين مثل وائل حلاق وطه عبد الرحمن وميشال فوكو وألسدير ماكنتاير قد شخصوا جوهرية الأزمة الأخلاقية في الحضارة الغربية والقصور البنيوي في الأساس الأخلاقي لمفهوم الحداثة الغربية. ومن هنا ينبغي التشديد على أهمية نقد أسس هذه الحداثة بصورة موضوعية بما تتضمنه من مفاهيم مثل الديمقراطية والعلمانية والاقتصاد الحر وأسس المعرفة وحقوق الانسان في الحريات الفردية. فهذه المفاهيم كانت قد تطورت الى ما نراه الآن من خلال ظروف المجتمعات الاوربية في القرون الوسطى والتي تختلف جوهرياً عن ظروف مجتمعاتنا المشرقية عند تفاعلها مع الحداثة الغربية. ومع ذلك لا نزال نرى الكثير من المثقفين يصنفون أنفسهم اما الى مدنيين (أو علمانيين) ينزهون المفاهيم الحداثية الغربية، أو إسلاميين (محافظين) يرفضون هذه المفاهيم أو بعضها، مع إن كلا الصنفين لا ينقدان هذه المفاهيم موضوعياً أو يقدمون بدائل مناسبة لمجتمعاتنا.

أخيراً، هناك حقائق لا يمكن تغافلها وهي: أولاً، إن الحضارة الغربية المستندة على الحداثة الأوربية تعيش أزمة أخلاقية تهدد استمراريتها في الهيمنة على العالم؛ وثانياً، لم يتم ترسيخ القيم الغربية في مجتمعاتنا العربية طوال أكثر من قرن رغم إن الغرب نفسه كان قد أسس هذه المجتمعات على أساس الحداثة الغربية؛ وثالثاً، إن هناك مجتمعات في العالم أصبحت دولها تنافس الغرب في التقدم مثل الصين وروسيا والهند لها حداثتها الخاصة وقيمها الحضارية المختلفة عن القيم الغربية. فهل نبقى متشبثين بالمركب الغربي رغم إن مؤشرات كثيرة الآن تشير إلى أنه في مرحلة الصراع على البقاء؟ أم نحاول أن نتنور بدراسة تجارب الأمم الصاعدة ونبني مركبنا الخاص بمجتمعاتنا المشرقية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما الذي تستهدفه الطائرات الحربية الإسرائيلية في ضاحية بيروت


.. مسيرة بمدينة نيويورك الأمريكية في ذكرى مرور عام على حرب إسرا




.. مشاهد تظهر حركة نزوح واسعة من مخيم -صبرا وشاتيلا- بعد الغارا


.. مشاهد توثق موجة نزوح كثيفة من مخيم صبرا وشاتيلا بعد الغارات




.. سقوط أكثر من 25 غارة إسرائيلية ليلية على الضاحية الجنوبية لب