الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الخرافة ح 27

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحقيقة أن أزمة الإنسان مع وجوده ليست أزمة معرفة، فعمر المعرفة لم تشكل أمر مأزوم أو تسببت بأزمة وجودية لولا صانع الأزمات المحترف وهو العقل، عندما نقول أن العقل هو صانع الأزمة وهو الذي يديرها بأساليب مختلفة أيضا لم يكن عابثا بقدر ما كان العقل في بحثه عن المثاليات المطلقة والقضايا الكلية يخبر الإنسان أن عدم إدراك الماهيتين يعد أزمة، والدليل أن عمر الإنسان التاريخي أو الوجودي هو صراع من أجل إدراك إحدى هاتين الماهيتين، فمنذ بدأ البشر ببناء الوعي الناضج كان لا يقنع بما هو موجود، يحاول أن يفهم ويدرك ويحيط ويغسر ويعلل ويتأمل وكلها تهدف بالنهاية إلى بلوغ مستوى عالي من المعنى.
فعندما يقبل أو يؤمن شخص مثلا بالخرافة فهو قطعا لا يعترف بها خرافة، بل عنده حقيقية كما يقول ديفيدسون لأنها تبرر له قناعته بكل جدية، فما يصنعه العقل عنده دون تردد أو شك بالتأكيد يضعه دوما في خانة الحقيقة، قد اقول أنا أو غيري أن الموضوع الفلاني مجرد خرافة... لأن مبرراتنا لا تتفق مع مبررات من يعتبرها حقيقة، هنا تنشأ الأزمة بين الأفراد التي هي أساسا أزمة تبريرات أو أزمة البحث عن الحقيقية كما يليق للبعض أن يسميها، فالمعرفة لم تشكل هنا أزمة بذاتها مستقلة عن العقل، ولم تسبب أي إشكالية للإنسان في وجوده المحض حتى ندينها على أنها أفسدت حياته ووجوده، أزمتنا في داخلنا التكويني.... في داخلنا الفاعل الباني للأفكار وحين يطلقها خارجا.
فلو كانت الأفكار والمعرفة والعلم والخرافة مصدر لأزمتنا فلا بد أن يكون الصانع لها والمكون الأساسي الذي أطلقها هو المسئول المباشر عن الأزمة، هناك نقطة مهمة وهي أن الأزمة من حيث كونها أستعصاء وقتي وليس أكثر من حالة عارضة فهي واحدة من أساسيات وفرضيات الوجود التي دأب الإنسان على التغلب عليها من خلال العمل والتفكير وإعمال الرأي، فهي نشاط أساسي وضروري للوجود، ولولا الأزمات وتاليها وأستمراريتها في الحدوث ما كان للعقل قيمة وما كان للوجود من معنى، فكل الحصيلة التي جمعها الإنسان من معرفة وعلم وتجربة هي نتاج حالات أستعصاء مرت في طريقه وتم تجاوزها، وكما قلت المعرفة بكل أشكالها وصنوفها لم تكن أزمة بذاتها الأزمة الحقيقية هي أننا لا نشعر بالأزمة أو نبحث عن طريق لها.
والسؤال الذي يمكن أن يطرح تحديدا في موضوع الخرافة هنا...هل من الممكن أن نكون بلا خرافة لنكون بلا أزمة حقيقية طالما أن العقل هو مصدر الأزمات أو لنقل هو المسئول عنها؟ بالتأكيد وحسب الطبيعة التكوينية والتكيفية للإنسان ودور العقل المحوري فيه لا يمكن أن يعيش العالم الوجودي دون نتائج قد تكون متقنة ومنطقية أو قد تكون بغير هذا الوصف، لأن العقل البشري وفي أشد حالات ذكائه ممكن أن يقنع بالمبرر النفسي فيتخذ موقفا لا علميا ولا منطقيا، وهنا الأمر ليس أزمة طالما ما زال العقل يعمل وربما يتغلب على هذا الأستعصاء في مرحلة لاحقة...
الخرافة وإن كانت تفكير غير علمي ولا منطقي في احد أوصافها لكنها بالنتيجة إيمان العقل بها، وأي محاولة لعزل الخرافة من المنظومة المعرفية هي محاولة لتقسيم العقل البشري خلافا لواقعه، فمن يريد عقلنة الخرافة وإعادة جوهر الفكرة فيها لا بد أن يرجع لسبب الأزمة التي أولدتها وأقصد هنا الحالة المستعصية التي دفعت العقل للإيمان بالمبررات الإقناعية التي ولدت اليقين به، في حين ان الوضع كان بحاجة الى تحول وتغيير يمس جذورا كثيرة وقد تكون متشعبة في مقدمات وأسباب وعلل مختلفة، بل وأحيانا يمس ألية النظام الثقافي الصانع لتفكير ووعي العقل الجماعي بالتأكيد.
أن مؤمن تماما أن المعرفة كلها وحتى العلم مجرد مسألة «تبرير مجموعي لاعتقاد معين» لا يهم فيها أرتباطها بالزمن أو المكان أو الحال، ربما هناك معرف خرافية ما زالت تعمل منذ ألاف السنين لكنها صامدة ليس لأنها صحيحة وحقيقية مئة بالمئة، ولكن لوجود تبرير ما يدفع الإنسان للتمسك بها وقد يكون هذا التمسك متصلا بالفطرة لديه، أن الحقيقة في النهاية هي تضامنُ مجموع المؤمنين الذين يتشاركون شكل حياة معين عبر لعبة المحددات المشتركة الرابطة بينهم، فاتسمت أولا ببرجماتيته نسبية واللاعقلانية في المنطق المجرد الكمالي الذي يقول بوحدة الحقيقة المطلقة، لأن مفهوم الفلسفة لم تكن أبدًا بحثًا في إيجابيات وسلبيات إحدى الأطروحات، ولكنها صراع معرفي مستمر بين أفكار راسخة أصبحت مصدر إزعاج للبعض وعدم قبول وفقا لقياسات أما جديدة أو مستجدة، وأفكار ونظريات ورؤى جديدة غير نهائية لكنها توحي بإمكانيات عظيمة قد تطيح بالقديم أو تضعه على جنب، الفلسفة إذا صراع بين فعل ورد فعل فكري يتمتع بمهارة فكرية عالية الدرجة.
ومن ثم فإن «ما يمكن اعتباره جدالاً عقلانيًا هو في الحقيقة محدد بسياق تاريخي معين فحسب، كحال ما يمكن اعتباره سلوكا طبيعيا تتخذه المعرفة طريقا للنمو أولا ولتصحيح مساراتها بشكل أكثر علمية ومنطقية من اللحظة السابقة، وهو موقف أسماه البعض من دارسي الأبستمولوجيا "بالسلوكية الإبستيمولوجية" Epistemological Behaviorism وهو تفسير العقلانية والسلطة المعرفية بالرجوع إلى ما يسمح لنا المجتمع بقوله، وليس العكس، فعندما تنتشر الخرافة في مجتمع ما هذا وارد بسبب أن طبيعة والنمط الثقافي النسقي للمجتمع يسمح بذلك وليس لأننا نقبل به عن قناعات وحرية في الأعتقاد والقبول.
وتبقى الخرافة في عالم اليوم والغد شكلا من أشكال المعرفة بأعتبار أن المعرفة وحتى العلم إلى درجة كبيرة ليس وضعا نهائيا ولا مطلقا، لأن العقل في كريقة الطبيعي يكتشف الكثير من القناعات والتبريرات والاجوبة منها ما يصمد لفترة ومنها ما يرتحل لتجدد قناعات اخرى، فإذا كان الإيمان عند البعض بأن العقل ربما سينتصر في النهاية على الخرافة ويمسحها من الوجود، هذا بحد ذاته لا يمكن أن يطون مجرد خرافة من خرافة أكبر وهي أن الإنسان سيكتمل علميا ومعرفيا ويتحول إلى سوبر كائن عقلي لا يقف في وجهه إشكال أو أزمة أو مجهول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يكون قانون -الحريديم- في إسرائيل سببا في إنهاء الحرب؟ | ا


.. فيليب عرقتنجي ولينا أبيض: رحلة في ذكريات الحرب وأحلام الطفول




.. مصر: مشروع قانون الأحوال الشخصية.. الكلمة الأخيرة للمؤسسات ا


.. هآرتس: استعداد إسرائيل لحرب مع حزب الله بالون أكاذيب




.. إسرائيل تؤكد على خيار المواجهة مع حزب الله وواشنطن ترى أن ال