الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النبي يحيى

أحمد راشد صالح

2024 / 6 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تمهيد
يمكن القول ان شخصية النبي يحيى والشخصيات التي سبقت مجيئه بحوالي العقد ونيف والتي انضوت فيما بعد تحت لوائه، كـ مرياي وياقيف وبنيامين، لم تحظ باهتمام حقيقي من قبل الباحثين، سواء فيما يخص الأسباب الحقيقية التي ادت الى ظهورهم في تلك الفترة بالذات او نسبهم. هل هم يهود عرقا ودينا اعتنقوا المندائية فأحيوها، سيما وان نصوص كنزا ربا تؤكد لنا ان من ياقيف وبنيامين خرج 360 ترميذي (درجة دينية)؟ وإذا ما كان هؤلاء يهودا او من أصول يهودية، الا يعني ذلك ان المندائية بشكل خاص والمدارس الغنوصية بشكل عام، قد خرجت من رحم اليهودية؟ وان كانت كذلك فلما كل ذلك العداء الذي يصل حد التقاطع بينها وبين اليهودية؟ ام انهم من أصول مندائية تم تهويدهم قسرا، فاستخدموا مبدأ التقية والتخفي، حتى نهاية السلطة اليهودية ودخول الرومان المنطقة ، فقاموا على اثر ذلك بثورة على الموروثات اليهودية؟
هذا الاحتمال لو أثبتنا صحته، فمن شأنه ان يفسر الأسباب الحقيقية التي أدت الى ظهور العديد من الحركات الغنوصية المعادية لليهودية، بذات الفترة تحديدا، أي ما بين منتصف القرن الأول قبل الميلاد والقرون الأولى للميلاد.
من هنا جاء اهتمامي بدراسة هذه الشخصيات، وتأريخها وظروف ظهورها في تلك الفترة الزمنية تحديدا، مع التركيز على شخصية النبي يحيى، لما يتمتع به من حضور أثرَ على العديد من الحركات الدينية آنذاك. هذا الامر دفعني للسعي في كشف ما يحيط النسب المشوش الذي ينتسبون اليه، ما بين اليهودية والمندائية، وكذلك علاقتهم بطوائف قيل عنها انها يهودية، كـ الاسينيون والمصبتيون والكشطيون والناصورائيون ... .
هذا الموضوع سبق وان تناولته كبحث عام 2008 تحت عنوان (الاصول الحقيقية لنسب النبي يحيى) ومن ثم ككتاب موسع تحت عنوان (اورشليم والمنقذ المنتظر - طبعة سدني2015-)، تمكنت من خلالهما التمييز ولأول مرة، بين مصطلحي يهود ويهوطايي، ليُفتح المجال للمرة الأولى للبحث في الاصول الحقيقية لـ مندائيو فلسطين ، ثم وجدت من الضروري التعمق اكثر، من خلال دراسة المراحل التأريخية التي سبقت مجيئهم، وكذلك الظروف السياسية التي ساهمت الى حد كبير في انجاح ثورتهم السلمية، تلك الثورة التي أطلقت شرارتها الاولى مرياي منتصف القرن الاول قبل الميلاد، معتمدا في ذلك على مبدئين، الأول اعتمادي على نظرية التساند كخارطة طريق، والتي تؤكد على ان أي حركة اجتماعية، دينية كانت او سياسية، لا يمكن لها النجاح والاستمرار، ما لم تكن هناك قاعدة جماهيرية مهيئة في الأساس لتقبل تلك الأفكار، مع ضرورة توفر ظروف سياسية، داخلية وخارجية تساهم في ديمومتها. اما المبدأ الاخر، فيكمن في إزالة الاغلفة اللاهوتية والاسطورية من المرويات التأريخية، سبيلا في الوصول الى الدلالات الكامنة في تلك النصوص، ذلك ان اغلب النصوص المندائية، التي تناولت التاريخ، غالبا ما تراها مغلفة بأغلفة لاهوتية واسطورية، ناهيك عن الأسلوب الشعري والذي يطغى على اغلبها، الامر الذي يجعلها بعيدة عن الواقع، وهذا ماقاد المستشرقين بمجملهم الى عدم الاهتمام بها، معتبرين إياها ضربا من الخيال، دون ان يبذلوا جهدا في تفكيك تلك النصوص، ودراستها دراسة معمقة، سبيلا في فهم الأسباب التي قادت الى انتهاج ذلك الأسلوب في التعبير عن الدلالة. فليس من المنطق ان تترجم نصوصا قديمة، بدلالات العصر الحالي. فلكل عصر مفاهيمه، وبالتالي لابد من استيعاب تلك المفاهيم، من خلال التعامل مع النصوص بروحية ذلك العصر الذي دونت فيه. إلا أن اختلاف المفاهيم الغربية مع مفاهيم الشرق من جهة، مضافا اليه ان المفاهيم المندائية في الأساس، تكاد تكون غريبة حتى على المجتمعات الابراهيمية التي تتجاور معها، بفعل اقدمية تكوينها ومن ثم انغلاقها، كل ذلك جعل من الصعب استيعاب دلالات نصوصها فرُكِنت جانبا!
مما لا شك فيه، ان البحث في الشأن المندائي، وخصوصا ما يتعلق بالمرويات التأريخية، يحتاج ليس فقط دراسة تلك المرويات ومقارنتها باركيولوجيا المنطقة وحسب، وانما استيعاب الدلالات الطقسية أيضا، فربما تحمل في طياتها إشارات قد تفيد في توضيح بعض الأمور الغامضة، فتتبع الوضوء في المندائية على سبيل المثال يؤشر في بعض مفرداته الى حالة الصراع الأيديولوجي الذي كان سائدا في تلك الفترة، فترسيم الأعضاء التناسلية في الوضوء المندائي نراه يؤشر الى حالة من التمايز مع الآخر، من خلال رفض طقوس عبادة النار، وكذلك الختان، ومسح الجسم بالزيت وهذه الطقوس بطبيعتها ترتبط بكل من المجوسية واليهودية، وتوجب المندائية على الفرد قبل ان يبدأ في أي طقس ديني، ان يثبت انه لا يعبد ما يعبدون، ولا يؤدي ما يؤدون من طقوس، قبل الشروع في أي طقس مندائي. ذلك ان أي طقس يقام لا يعد مقبولا ما لم تنطبق شروط الوضوء عليه، فحينما يصل المرتسم الى الأعضاء التناسلية ناشرا عليها الماء يقول (رسمي العالي لم يُجر بالنار، ولم يُجر بالزيت، ولم يُجر بالمسح، لأنه مرسوم بالماء الجاري العظيم، ماء الحياة. اسم الحياة واسم معرفة الحياة منطوقان عَليَ) ما يعني ان هذه الإشارات الطقسية، تشير الى تحديد هوية الفرد من الناحية الدينية، فعلى الفرد ان لا يكون قد ارتسم برسم المجوس، الذين فرضوا ديانتهم على المنطقة عموما منذ دخول قورش عام 550 ق.م، وكذلك ان لا يكون قد تعرض الى الختان على يد اليهود، علما ان الختان القسري، كان قد مورس وبشكل منهجي زمن الدولة الحشمونية، والتي تجاوز حكمها الثمانون عاما، حتى دخول الرومان عام 63 قبل الميلاد. وهذا مثال من امثلة كثيرة سنعرج عليها لاحقا، تحتم على الباحث الجاد الاهتمام بها والتفاعل معها، من خلال تفكيكها وتقليبها، الابتعاد حينا والاقتراب حينا آخر، سبيلا في اخذ صورة ثلاثية الابعاد، تجعله يرى ما بين زوايا النص، لا ان يترجم النص ترجمتا حرفية، وبمقاييس ودلالات عصرنا الحاضر. مثالا اخر أحب ان اسوقه هنا، لإيضاح الكيفية التي تعاملتُ بها مع النصوص المغلفة، ففيما يخص تكون الوليد يحيى (يهيا يوهانا)، تذكر لنا الترجمة الحرفية، ان انشبي (اليصابات) شربت من اليردنا السماوية (المياه الطاهرة)، فحبلت بالوليد يحيى، وبعد ولادته مباشرتا تم تهريبه الى الجبل الأبيض، حيث الشجرة المرضعة التي يتغذى عليها الأطفال، ناهيك عن عمر انشبي والذي يذكره النص بـ 88 عاما، وكذلك زكريا الذي يبلغ من العمر 99 عاما، وهذه الاعمار في ظاهرها تتقاطع والمنطق العلمي من حيث سن الانجاب، فكيف القبول بها كأمر واقع! فأخذت ابحث في مختلف الدواوين المندائية بحثا عن دلالات تلك النصوص، ومن جملة ما عثرت عليه نصا في ديوان تفسير بغرا، * يصف فيه نطفة الذكر بانها ماءا ًسماويا (مياه حية)، كونها تحمل صفة الحياة، وهذا ما من شأنه ان يفسر النص الذي يقول، ان انشبي شربت من المياه الطاهرة فحبلت بالوليد يحيى، والنص هنا انما يقصد ان الوليد يحيى جاء من نطفة ذكر مختارة، وليس القصد انها شربت من ماء النهر فحبلت! وانما تشرب رحمها بماء زكريا. علما ان النصوص المندائية تشير اليه باسم يهيا بر انشبي أي يحيى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ديوان تفسير بغرا أي تفسير الجسد ويتناول علاقة الجسد بالكون باعتبار ان الجسد كون صغير يحمل اسرار الكون الكبير.
ابن اليصابات حينا، ويهيا بر زاكر أي يحيى ابن زكريا حينا آخر، ناهيك عن الأرقام التي تشير الى عمر كل منهما، فعمر انشبي هو 88 عاما، وعمر زكريا 99 عاما، وهذه الأرقام في حقيقتها تحمل دلالات رمزية، أكثر من كونها تشير الى العمر الحقيقي لكل منهما. فبحساب فلكية الأرقام والتي غالبا ما تعتمدها المندائية يكون الحساب الفلكي لأنشبي هو الرقم 7 (8+8 يساوي 16 وبجمع 6+1 يساوي الرقم 7) بينما الرقم الفلكي لزكريا يساوي الرقم 9 (9+9 يساوي 18 وبجمع 8+1 يساوي الرقم 9) فالرقم 7 يرمز الى العالم المادي الذي تنبثق منه الولادات، حيث غالبا ما يشار الى رحم المرأة بذلك، بينما يرمز الرقم 9 الى العالم العلوي، فغالبا ما يرمز الى التكوين العلوي بالرمز 9. ورأينا في أعلاه كيف يُرمَز الى النطفة بانها مياه حية ذات اسرار سماوية، وبارتباط اسرار التسعة مع السبعة تتكون الصيرورة وفق المنظور المندائي. وبتحليلنا هذا لا يعني اننا ننكر بالمطلق كبر سنيهما، ولكننا نرى ان هذه الأرقام (88،99) انما تحمل دلالة رمزية أكثر منها مرحلة عمرية، سيما وان قساوة الحياة التي كان يعيشها الانسان في ذلك الوقت، تجعل الانسان يشيخ وهو في منتصف العمر، فالمرأة وهي في سن الاربعون عاما تظهر وكأنها في الثمانون من العمر، كذلك الحال للرجال، فمقياس الكهولة يقاس بلون الشعر وتقوس الظهر، سيما وان متوسط عمر الانسان في ذلك الوقت لم يكن يتجاوز الاربعون او الخمسون عاما في أحسن الأحوال. كذلك الحال مع رواية تهريب الوليد الى الجبل الأبيض، حيث الشجرة المرضعة التي ترضع الأطفال، ما يعني أولا ان تلك الشجرة لم تكن مخصصة لطفل واحد (الوليد يهيا)، وانما هنالك مجموعة من الأطفال، وسيتبين لنا كيف ان تلك الشجرة المرضعة، انما هي دلالة على وجود مكان خفي عن اعين المؤسسة اليهودية، يتم فيه احتضان الأطفال حديثي الولادة، كي لا يتعرضوا الى الختان القسري، فبعد دراسة الظروف السياسية التي مرت بها المنطقة، ذات الفترة التي تتوافق مع ميلاده، تبين لنا ان الدولة الحشمونية كانت تنتهج سياسة الختان القسري للأولاد، وهذا ما يفسر، ان العوائل التي ترجع لأصول مندائية، ممن انتهجت التقية كمنهج حياة، أي التظاهر باليهودية ظاهرا والتمسك بالمندائية سرا، كانت ولأجل الحيلولة دون تعرض أولادهم للختان القسري، والذي عادتا ما كان يجرى في اليوم الثامن، كانوا يرسلون اطفالهم حديثي الولادة الى اطراف المملكة، حيت يسكن المندائيون المحافظون ممن اعتمد العيش في الكهوف، فكانوا يربون الأولاد هناك ثم يرجعوهم الى ذويهم بعد ان يبلغوا من العمر سن الشباب. وهذا ما يفسر أيضا تظاهر الاسينيون بتبني الأولاد، والحقيقة انهم كانوا يخفون أولادهم مع اغلب نسائهم الى حيث يكون شر المؤسسة اليهودية بعيدا عنهم، ومن ثم يستقبلون الأولاد حينما يصلون لمرحلة البلوغ، من اجل العمل كما سنرى ذلك لاحقا. من هنا فان الشجرة المرضعة انما يراد بها مكانا آمنا يربى فيه الأطفال بعيدا عن اعين المؤسسة اليهودية.
من ذلك يتبين لنا، ان الطقوس الدينية وكذلك المرويات التأريخية، ومع انها ليست اركيولوجيا، فهذا لا يعني بالضرورة رفضها بالكامل، ذلك ان في جزء منها ما هو ذا قيمة تأريخية، الا ان هذه القيمة التأريخية غالبا ما تراها مغلفة بمجموعة من الاغلفة الأسطورية، وعلينا تقع كباحثين مسؤولية إزالة تلك الاغلفة منها، ومن ثم مقارنتها بإركيولوجيا المنطقة ، وارجوا ان لا أكون مخطئا حينما أقول، ان اكثر ما فاجئني ان الكثير من تلك النصوص وبعد إزاحة اغلفتها الميتافيزيقية، وجدتها تتوافق الى حد كبير مع الاحداث السياسية التي مرت بها المنطقة، وان الظروف السياسية التي حصلت في تلك الفترة، تبرر تماما ظهور الحركات الغنوصية عموما ومنها المندائية. وهذا التطابق المذهل برأيي، يرجع الى ان المندائيون حينما كتبوا تأريخهم لم يكن لديهم أي طموح سياسي آني او مستقبلي، بقدر رغبتهم في تدوين مآسٍ حصلت لهم، فغالبا ما كانوا ولا يزالون الى يومنا هذا يفضلون العيش في الظل بعيدا عن السلطة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -هجمات منسقة- على كنيس لليهود وكنيسة في داغستان


.. هجمات دامية على كنائس ودور عبادة يهودية في داغستان




.. روسيا: مقتل 15 شرطيا وكاهن إثر هجمات على كنائس أرثوذكسية وكن


.. القوات الروسية تستعد لاقتحام الكنيسة حيث جرى الهجوم الإرهابي




.. قتلى وجرحى بهجمات على كنيستين وكنيس يهودي ونقطة شرطة في داغس