الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين الحقيقة وظلالها

ثائر أبوصالح

2024 / 6 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من البديهي، ان يسأل كل انسان منا نفسه، ضمناً أو علناً، اسئلة تتعلق بأسرار هذه الحياة التي نعيشها، في محاولة لإدراك واستيعاب مصطلحات مثل: الجنة والنار، المخلص، الثواب والعقاب، التخيير والتسيير، وغيرها من المفاهيم التي نحتار في تفسيرها وطريقة التعامل معها، مما يجعل الكثير منا يميل الى التسليم والقبول بالتعاريف الدارجة من جهة، أو يميل الى رفضها بشكل كامل ويعتبرها جزءاً من محاولة الأديان والقيمين عليها، اخافة الناس من أجل السيطرة عليهم، من جهة أخرى.

عادة في كل نص، وخصوصاً النصوص التي تحمل مضامين مقدسة كنصوص الكتب السماوية، والتي يعتبرها المفسرون غير قابلة للخطأ لأنها مقدسة، يعتقدون أن المشكلة تكمن في طريقة فهمنا لهذه النصوص، فيلجأ المفسرون، لحل هذه المعضلة، الى التأويل أو التفسير الباطني، عندما لا يستقيم لديهم المعنى الظاهري لها، وذلك لكي لا يقعوا بالتناقض في فهمها، فعلى سبيل المثال نرى نصوصاً تؤكد على أن الإنسان مخير، ومن ثم نرى نصوصاً أخرى تؤكد على أن الإنسان مسير، ولتجاوز هذا التناقض لا بد من تأويل بعضها حتى يستقيم المعنى، فهل التفسير الظاهري والباطني قادران بالفعل على الوصول الى الحقيقة؟

من المتعارف عليه أن الحقائق لا تكمن في النقائض، فمثلاً؛ الليل والنهار نقيضان، ولكن الحقيقة لا تكمن في أي واحد منهما وإنما تكمن في الضوء، فغيابه يصنع الليل وسطوعه يصنع النهار، ولكن عقلنا القطبي يفضل التعامل مع النقائض، لأنه لا يستطيع ان يفهم معنى النهار إذا لم يكن هناك ليلاً. كذلك الخير والشر نقيضان ايضاً ولا تكمن الحقائق بأي منهما، وانما الحقيقة تكمن في النور. كذلك الظاهر والباطن نقيضان ولذلك، على الأغلب، الحقيقة لا تكمن في التفسيرين.

من هنا، ولكي نفهم الحقائق، علينا ان نتعامل مع ثلاثيات الوجود وليس مع النقائض، فمثلث الحقيقة يشكل فيه جانبا القاعدة النقيضين، أما الحقيقة فتسمو عن التضاد وتكمن في رأس المثلث، وهي نقطة ثابتة يتحرك منها نواس الحقيقة من اقصى اليسار الى اقصى اليمين فيصنع النقائض الوهمية، أو ظلال الحقائق، ولكن الحقيقة تكمن في النقطة الثابتة التي يتحرك منها النواس او البندول. فمثلاً القساوة والرفق نقيضان يشكلا جانبا قاعدة مثلث رأسه الرحمة؛ فكلما قلت الرحمة في قلب الإنسان قسا قلبه وأصبح عنيفا، وكلما زاد منسوب الرحمة في قلبه يبدأ بالتعامل بالرفق واللين، فالقساوة واللين هما تعبيران عن نسبة الرحمة في القلب ولا تكمن الحقيقة بأي منهما.

بناء على هذه القاعدة، يمكن لنا أن نفهم النصوص، وخصوصاً ما يعتبر منها مقدساً على حقيقتها، فكل شيء يدخل تحت وطأة الزمن يصبح قطبياً، لأن الزمن فيه "قبل" و "بعد" والحقيقة تكمن في لحظة "الآن" لأنها الحقيقة الوحيدة التي نعيشها، ف"قبل" لم يعد موجوداً، و"بعد" غير موجود حتى الأن، وعندما يحدث يصبح لحظة "الآن"، لذلك فالحقيقة الوحيدة الموجودة هي لحظة الآن، وما عداها أصبح وهماً، وكذلك الماضي والمستقبل؛ فالماضي ذهب بما فيه، والمستقبل لا نعرف إذا كنا سنوافيه، والحقيقة تكمن فقط في الحاضر بما فيه وبما يقتضيه.

تخيلوا للحظة ان نملك القدرة على الخروج من تحت وطأة الزمن، عندها سنرى ان الماضي والحاضر والمستقبل يحدثون في نفس اللحظة، فمثلاً اذا نظرنا من ثقب الباب الى جدار الغرفة الداخلي المقابل للباب، وركزنا في نقطة امامنا تشكل مركز مجال الرؤية، ثم جلنا بنظرنا من نقطة في أقصى اليمين الى نقطة في أقصى اليسار، وفقاً لكبر الفتحة، فسنرى نقاطاً قبل نقطة المركز ونقاطاً بعد نقطة المركز، ولكن عندما نفتح الباب نتخلص من وطأة الفتحة، فنرى الجدار كله بنظرة واحدة، ولكن وبما اننا نعيش تحت وطأة الزمن وعقولنا قطبية، فلا بد من استعمال المقارنات والمقاربات لكي نفهم الحدث، فكان لا بد ان نُخاطب بالأسلوب الذي تفهمه عقولنا القطبية التي تعتمد على المنطق والاستنتاجات.

من هنا، ورغم أن هناك من سينظر بعين الريبة لما سأقول: فأن الجنة والنار نقيضان لا حقيقة فيهما، وتم استعملاهما مجازاً لكي يعبرا عن الحقيقة والتي تشكل رأس المثلث وهي "المعرفة الإلهية" أو "درك المعلومات الإلهية المضافة الى العقل"، فمن يصعد في السلم الروحاني، بسبب سلوكه المنضبط، وتنكشف له المعارف الهاماً، يدخل جنة عرضها السماوات والأرض، وهذه هي السعادة القصوى؛ والتي وصفت على أنها: لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيضمحل " الأنا" وعندها سيتعرف الإنسان على حقيقته، فيصبح كقطرة الماء التي تعود الى المحيط، أو كفقاعة الصابون التي تعود الى الهواء، ومن يهبط في السلم الروحاني، بسبب مسلكه، الى الدرك الأسفل، تتضخم عنده "الأنا الوهمية" ويدخل الى عالم الحقد والحسد والكراهية، وتندلع النار بداخله لتأكله، وهذه هي جهنم التي وقودها الناس والحجارة.

فمن ينتظر المخلص القادم في المستقبل ليخلصه، عليه أن يعي أن المخلص لم يغب ابداً، فهو موجود بداخلك وينتظر قدومك اليه. فإن فكرة "المخلص المنتظر" هي فكرة نبعت من وقوع فكرة "المخلص" تحت وطأة الزمن والعقل القطبي، فحولها الى فكرة مستقبلية، فالعدالة الإلهية تقتضي أن يكون المخلص حاضراً دائماً لكل من طلب نجاة نفسه، ولكن "الأنا الوهمية" المتضخمة حجبتنا عنه بحكم الوقوع في فخ العالم المادي الخارجي القائم على الحواس والغرائز. فمفاهيم الجنة والنار والمخلص هي ظلال الحقيقة وليست الحقيقة، واستعملتها الرسالات السماوية كرسائل للعقل الباطن لكي يعي حقيقته، فهو يشكل 97% من قدراتنا العقلية في حين ان عقلنا الجزئي لا يشكل أكثر من 3%. كما ان المادة لا تشكل أكثر من هذه النسبة في الكون والباقي طاقة.

اما الثواب والعقاب فهي قوانين الهية كقوانين الفيزياء تماماً، فمن يضع اصبعه في النار ستحرقه حتماً، فمن طبيعة النار ان تحرق الأشياء التي تقترب منها إذا ما كانت قابلة للاحتراق، وهذا قانون فيزيائي يقبله البشر، ولذلك يتعاملون مع النار بحذر، ومن يرمي نفسه عن سطح بناء فإنه سيسقط حتماً بحكم الجاذبية على كوكب الأرض، وقد يموت، ولذلك لكي نسلم من عقاب الطبيعة علينا فهم قوانينها والانسجام معها.

كذلك الأمر في العالم الروحي؛ فالكذب والحقد والحسد والكراهية والتعصب والتكفير للأخرين وارتكاب الموبقات والنميمة وأذية الناس وغيرها من السلوكيات السلبية، هي موجات يطلقها الإنسان من خلال فكره، فيَّرد عليها الذكاء الكوني او العقل الشامل، ويعيدها الى مطلقيها، فتنطبع على نفوسهم، ويحمل أصحابها عبء أعمالهم ، ويهبطون في السلم الروحاني، وكذلك الأمر اذا قام الإنسان بفعل الخير والمحبة والاستقامة والسلوك الأخلاقي والاعتدال وغيرها من السلوكيات الإيجابية سيرتد عليه بنفس الطريقة، وتنطبع على نفوس مطلقيها فيرتفعون بالسلم الروحاني، وهذا ما يسمونه الهنود " الكارما" وهو قانون الفعل ورد الفعل في الفيزياء النيوتونية؛ لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه .

فعلى الشخص الذي يريد أن يصعد في السلم الروحاني أن يفهم القوانين الإلهية الصارمة، ويتعامل معها بحذر، حتى لا تعاقبه، فيحمل اعباءها في نفسه، فتهبط نفسه وتتراجع، وتصبح تحت وطأة الأنا المتضخمة، والتي تحجب عنه الحقيقة، وبالمقابل، من يساعد الناس ويبتعد عن السلوكيات المسيئة، فإن القوانين الإلهية تثيبه ويرتفع في السلم الروحاني، من هنا، فإن العقاب والثواب ليسا أيضاً فعلاً مستقبلياً، فهما يحدثان في كل لحظة من خلال سلوكنا اليومي. وبما ان سيرورة الثواب والعقاب مستمرة، فمن الطبيعي أن يصل البعض الى المستوى الذي يستحقون من خلاله ان تفتح لهم أبواب الجنة فيدخلونها في هذه الدنيا فيجدون المخلص بانتظارهم والعكس صحيح.

اما السؤال القديم الجديد: هل الإنسان مخير أم مسير؟ طبعاً هذا سؤال معقد وليس من السهولة بمكان الإجابة عليه، فالإنسان يولد في مكان وزمان معينين دون ارادته، ويموت ايضاً في زمان ومكان معينين دون ارادته (عدا حالات الانتحار)، وهناك من يقول ان الزواج مقدر، والرزق مقدر، وهناك جوانب كثيرة يعتبر الإنسان نفسه فيها مخيراً، فأين نحن من الحقيقة بكل ما يتعلق بهذا السؤال.

في البداية يجب أن نحدد لمن يوجه هذ السؤال، لنفوسنا الأزلية، أم للقسم المادي منّا الذي يحمل هذه النفس العاقلة التي تميزنا عن الحيوان وتجعلنا قادرين على التعرف على الله، فلا شك ان الجسد مسير بكل ما تعنيه الكلمة؛ فهو لا يستطيع العيش بدون أن تتوفر له أسباب الحياة، وسيموت حتماً عندما تتوفر له أسباب الموت، فهو بحاجة الى هواء ليتنفس، وماء ليشرب، وغذاء ليستمر ويتكاثر، وهذا مشترك للإنسان والحيوان على حد سواء. فالإنسان كان في مملكة الحيوان لملايين السنين، اما النفس العاقلة التي تميز الإنسان عن الحيوان فليست بحاجة الى أسباب الحياة التي ذكرت، فهي حرة، وقد يتوقف الجسد احياناً عن أداء وظائفه، أو يُشل تماماً، ولا تغادر النفس جسدها، كما يحدث في ساعات النوم أو كما يحدث في الموت السريري، ولكن عندما يصبح الجسد غير قادر على خدمة النفس التي جاءت الى هذه الحياة لتخوض تجاربها من أجل الترقي في السلم الروحاني، عندها تغادره، ولكنها لا تموت فهي خالدة.

فهل النفس مسيرة كالجسد؟ الحقيقة ان عمر النفس لا يقاس بحياة واحدة، وانما منذ وجدت هذه النفس على هذه الأرض، ومن المرجح انها تمر بحيوات واجساد مختلفة، لأن هذ جزء من العدل الإلهي أن تُعطى النفس أكثر من فرصة للترقي، فما الحكمة من عيش حياة واحدة ومن ثم انتظار الحساب لألاف السنين وقد يكون لأكثر من ذلك، وفقاً للاعتقادات الدينية، وما الحكمة من وراء ذلك؟ فلا شك ان النفس عندما بدأت بتجربتها الجسدية كانت حرة ومخيرة بكل ما تعني الكلمة من معنى، ولكن خياراتها مع الزمن حولتها الى مسيرة بفعل ما اختارته عبر سنوات حياتها في الجسد، ولذلك أصبح مكان ولادتها وانتقالها ورزقها وزواجها استحقاقاً لخياراتها السابقة وفق قانون الثواب والعقاب، وهو قانون ألهى دقيق، فنحن من نصنع اقدارنا بأيدينا ثم بعد ذلك نلوم القدر.

من هنا، لا يوجد في هذا الكون شيء عبثي أو بالصدفة، فهناك القوانين الطبيعية التي يكتشفها العلم يوماً بعد يوم، ويثبت مدى دقتها، وهناك القوانين الروحية التي لا يملك العلم أدواتاً للتعامل معها، ولكنها حتماً قائمة تنكشف تدريجياً مع التطور الروحي للبشر، فكل ما يحدث له قوانينه وضوابطه، وعلينا ان نمعن البصر والبصيرة، ونعتمد على أولئك الذين قطعوا شوطاً في التطور الروحي، فانكشفت امامهم الكثير من المعارف الهاماً، لكي نفهم القوانين الإلهية، حتى نستطيع ان ننسجم معها لنحمي أنفسنا من عواقب مخالفتها من خلال سلوكنا اليومي وتعاملنا مع بيئتنا. فلا شك أن التوازن والوسطية والمحبة يشكلون أسس الطريق الموصل الى رأس المثلث، أو نقطة النواس الثابتة، مترفعين عن قاعدة التضاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الكاتب المحترم
ادم عربي ( 2024 / 6 / 6 - 19:31 )
أول مرة اسمع هكذا تحليل في ان الحقيقة قمة المثلث ، هكذا هي دينيا ، أما الحقيقة الموضوعية فهي وحدة النقيضان اتحاد لا إنفصام فيه ، مثل الليل والنهار ، الحياة والموت ، ....الخ

اخر الافلام

.. كيف يمكن لإسرائيل أن ترد على هجوم إيران عليها بالصواريخ البا


.. هل يتجه العالم نحو كارثة نووية بسبب رد إسرائيل على إيران؟




.. اعتراض صواريخ أطلقت من لبنان في سماء مدينتي عكا وحيفا وسط دو


.. كيف سيكون رد إسرئيل على الضربات التي تلقتها من إيران؟




.. صور متداولة لآثار الدمار بمحيط معبر المصنع الحدودي بين لبنان