الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- نحن إلى أين؟... ما هو مستقبل العقل البشري؟-

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2024 / 6 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لعل السؤال الأهم الذي يجب طرحه بعد هذا الأستعراض التأريخي لفكرة ومفهوم وأجنس وأنساق الخرافة والفكر المعرفي، وأعتلالات الفهم والإدراك المطلوب ليتحول الإنسان إلى بشر سوي طبيعي يتعامل مع الوجود وكأنه فرصة للمشاركة في بناءه والسير الأصولي في مساره دون أن يضع نفسه ضمن معادلات لا تقبل إلا من يفهم قانونها ويدرم أهمية التمسك بمعادلات التوازن المطلوبة وجوديا، هذا السؤال المطروح والذي نختم به البحث هو عنوان كبير وكبير جدا ربما لا يسعه من هو المسؤول عن رد الجوالب..
نظرا لأهمية دراسة مستقبل العقل البشري الذي فقد قيمته بشكل متزايد في ظل هيمنة التكنولوجيا والتقنية التي زحفت بثقل محمولها المعرفي على حياة الإنسان المعاصر، فلم يعد للعقل خيارات واسعة كما كان الحال قبل الثورة التكنلوجية وخاصة الرقمية وما بعد الرقمية، الإنسان المعاصر اليوم يعيش أزمة مركبة ومتعددة الجوانب ومتنوعة الإشكاليات من أغتراب وظيفي والى ظاهرة التشيؤ التي عصفت بمفاهيمه وأدائيته التقليدية، ليجد نفسه أمام أزمة شكلت إفرازات الحداثة الغربية وعالمها المادي بتطرف، ومن ثمة فقد شغلت هذه الأزمة أقطاب مدرسة فرانكفورت خاصة ما سمي بـ "مشكلة العقل الأداتي" والتي حاول روادها التصدي لها، خاصة فيلسوف العقل التواصلي "هابرماس" الذي حاول هدم معطيات العقل الأداتي ونقده له وللحداثة أيضا، باعتبارها مشروع لم يكتمل بعد فانطلق من سؤالين مركزيين هما لماذا توجه التقدم العلمي غربا ولم يتجه إلى جهة أخرى؟ ولماذا صارت العقلنة صفة ملازمة بالغرب وليس بغيره من المجتمعات؟.
الدراسات العلمية والتي تحاول أستسباق الخيال الإنساني وتعمل على تكوين رؤية عملية وحقيقية لمستقبل العقل، نراها تعطي صورة مرعبة لما سيلاقيه العقل البشري نتيجة تضخم برامج الذكاء الصناعي والثورة الرقمية ربما تكون الثالثة والتي ستجعل من العقل البشري كائن عاكل عن العمل أو على الأقل مجرد مشاهد لما يجري نتيجة ما صنع بيده من فتح كل الأبواب والشبابيك لجنونه وأمام جنونه اللا معقول، يقول البرفسور الفيزيائي ميشيو كاكو في كتابه الفريد "مستقبل العقل" .. الكون و العقل اثنان من أعظم أسرار الطبيعة ومع تطور التكنولوجيا، استطعنا تصوير مجرات تبعد ملايين السنوات الضوئية، والتلاعب بالجينات التي تتحكم بحياتنا وسبر أغوار الخلية، مع ذلك لازال الكون والعقل أعظم سرين وحدين عرفهما العلم.
السؤال هنا هل حق أستطاع العقل البشري أن يعبث بأسرار أو جزء من أسرار ومعادلات التكوين ليجد نفسه أمام لعبة جنونية لا يستطيع السيطرة عليها بعد أن تحول هو ضحية لها ولعبة بين يديها، وحتى أكثر النظريات تفاؤل لمستقبل العقل تؤشر بخوف وحذر من المستقبل الغامض الذي سيلاقيه الجنس البشري من تغول التقنية، فإذا كان لدينا ذكاء تقني مصنع ومبرمج من قبل منظومة عقيدية أو لها غايات محددة سلفا ومطلوبة لذاتها، وهو ذكاء قادر على ربط الأفكار بمرونة عبر مجالات مختلفة وربما امتلاك شيء مثل التجربة الحسية والتي قد تصبح واعية، أو مجرد حوسبة في الظلام والانخراط في أشياء مثل مهام التعرّف البصري من منظور حسابي والتفكير بأفكار متطورة لكن لا تكون واعية، فإن علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كان إنشاء آلات واعية متوافقاً مع قوانين الطبيعة؟.
في الحقيقة نحن لا نعرف ما إذا كان الوعي يمكن أن يكون شيئاً يتم تنفيذه من خلال الرقائق الدقيقة أو تكنولوجيا فائقة التقدم؟ وهل عندما تصبح الحضارات أكثر ذكاءً يمكن أن تصبح «ما بعد تكنوبيولوجية»؟ لكن من المؤكد أننا سنجد إنسان أخر ربما لا يشبه بني آدم مسلوب الإرادة ومجرد تمثيل ومماثلة سيء للروبرت التلقائي الذي ينفذ برنامج دون أن يستشعر أي محددات شعورية أو ذوقية أو يخضع في سلوكياته إلى روابط وعلاقات أجتماعية ومعرفية ودينية يمكن إجمالها بمفهوم الإنسانية الطبيعية أو الطبيعة البشرية الأصيلة، حينها يتم الوصول لحافة الهوس التكنولوجي وتوقع كل السلوكيات الممكنة من البشر، وبالتالي نوعية الأعمال التي من الممكن أن يبرعوا فيها وحتى فقدان الهوية الخصوصية إلى الأبد؟.
فالعقل البشري الذي يعد الخصيصة الأساسية للإنسان ومنحه الهوية المعرفية يعتمد في عمله أساسا على ما يمكن أن نسميه "الذكاء البشري"، ويتميز عادة بالقدرة التكوينية والتكيفية له على التفكير والشك والنقد والإبداع وغيرها من الصفات، وهي وظائف طبيعية وأصلية في تكوينه الطبيعي والتي يعمل علماء الذكاء الاصطناعي على محاكاتها من حيث الشكل والطريقة، دون أن يتمكنوا من النجاح في تطبيق أليات وتكوينات ووسائل وسعة الذكاء البشري ليكون متاحا للصناعي أو المبرمج صناعيا، وعليه فإن أصل ومرجع ومنطلق الذكاء الاصطناعي هو العقل البشري لكن من خلال الذكاء البشري ذاته، يبدو أنه مع تطور الذكاء الاصطناعي لن تكون العلاقة بين الإنسان والآلة علاقة تابع ومتبوع، إذ إن الفرق بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي قد يصبح غير ذي أهمية بالنسبة للشخص العادي، وفي بعض الأحيان سيكون أفضل شخص يؤدي المهمة المطلوبة هو الآلة.
بالرغم من أن التقنية الحالية قد وفرت الكثير من المهمات التي كانت تعتبر من قبيل الوظائف الصعبة والمعقدة والتي تحتاج الة وقت وجهد وتفقا عالية، لكنها من الوجه الأخر أضافت نوعا من الإدمان الكسلي والأسترخاء العقلي عند البعض، هذا جانب مهم ربما يعقد من تكوين رؤيتنا لمستقبل العقل ومستقبل الإنسان الوجودي في النهاية، فالإنسان طبيعيا كائن كادح ومستكشف معرفي من الدرجة الأولى وهو الذي كون هذه المملكة المعرفية والعلمية العقلية بكفاحه الطويل من أجل أن يشبع رغباته وحاجاته لمسمى معنوي هو الشعور بالإنجاز والسعادة له، في حين نجد اليوم أن أبرز الصفات الظاهرة في الإنسان اليوم هي العزلة والفردانية، وذلك بسبب ملء الآلة لحيز كبير من الوقت الذي كان ملكاً للناس فقط مع أنفسهم أو فيما بينهم، وبينما يبدو اليوم إطلاق كلمة "إنساني" على أحد الأشخاص نوعا من المجاملة، فعندما تصبح الآلات الذكية جزءاَ لا يتجزأ من المجتمع سيصبح هذا المصطلح في نهاية الأمر أشبه بوصف أحد الأشخاص بالعنصري.
إن إشكالية رسم أو توقع مستقبل الجنس البشري بالماهية المعرفية التي حافظ الإنسان عليها وطورها خلال تاريخه الأرضي، تواجه اليوم الكثير من الشكوك والمخاوف الحقيقية من ضياعها بشكل جاد، أو حتى تهميشها لصالح التقنية وتحوله من صانع معرفة إلى مجرد مفردة في أهتمامات هذه التقنية، ولا بد لنا من البحث في ذاكرته عن أمثلة وربما حكايات حقيقية أو منسوجه عن علاقته بكائنات إخرى وكيف تحول إلى مسخ لمجرد أنه سلم العقل، ففي القصص الأدبي والتي نسجها ذات العقل كيف تحول "س" من الناس لمسخ بيد الشيطان الذي يعرف أنه كائن شرير، ولكن تلبية لرغبة أو حاجة ظن معها أنه سيتحرر من الشيطان لمجرد أن ينالها، فكلما أوغل في التنفيذ وجد نفسه يبتعد أكثر عن قدرته للعودة إلى نقطة البداية، هذه القصة الرمزية تماما تمثل حال الإنسان اليوم وهو يخضع تدريجيا للتقنية المتعاظمة التأثير على حياته للدرجة التي وصل فيها لعدم قدرته حتى عن التراجع لخطوة واحدة للوراء، والقادم أعظم.
يرى بعض المستقبليين والعلماء الذين يتطيرون من تضخم التقنية الدقيقة جدا وخاصة أن أحد أهم وأبرز التحديات التي تهدد للإنسان يأت من قبل الذكاء الاصطناعي، وهو ما يقود إلى بروز ظاهرة "التفرد"، والذي تعني أن مزاحمة الآلات عند مرحلة معينة في الزمن تكون خطرة لدرجة ما سوف تكون عليه عندما تصبح ذكية على نحو كافٍ، أو أكثر من الخط الذي يمكن الإنسان من السيطرة والتوجيه لتتحول إلى المواجهة والتصعيد، و لدرجة أنها ستكون قادرة على تعديل وتحسين نفسها بنفسها حين تمتلك القدرة على التوليد الذاتي للبرمجيات التطورية الذاتية مما يؤدي إلى الذكاء الجامح، حيث يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية أن تكتب بالفعل بشكل أكثر وضوحاً وإقناعاً من معظم البشر، ويمكنها إنتاج صور مدهشة وفنون مختلفة وحتى أكواد حاسوبية بناءً على مطالبات لغوية بسيطة.
يحلل البعض من دارسي مخاطر الذكاء الصناعي والتقنيات الدقيقة على فاعلية العقل البشري ومن ثم الذكاء الإنساني الطبيعي ويقولون أن المعادلة التي تربط بين الأثنين في ظاهرها علاقة طردية، ولكن الحقيقة تشير إلى ملاحظات مهمة قد تؤدي في النهاية إلى الإيمان بأننا أمام معادلة عكسية شديدة التناقض، أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المهام النمطية أولى الخطوات في الانخفاض التدريجي لمستوى الذكاء الطبيعي وهذا بالتأكيد أمر ملموس وموثق، ولأن هذه المهام النمطية هي البوابة التي يُطَوِّر من خلالها البشر مستوى ذكائهم ومهاراتهم بشكل أساسي ومنذ أن خطى الخطوة الأولى نحو صناعة المعرفة، المصمم الهندسي مثلا والذي يجد صعوبة كبيرة في تصميم خرائط هندسية أو تصميمات تناسب مستوى تحصيه العلمي وخبرته البسيطة سيتعلم تدريجياً -على الأقل من خلال المحاولة والخطأ- الكيفية المثلى للتصميم والأبتكار والإبداع التي تناسب مع مستوى التحصيل الشخصي المستند على التدريب والحبرة والتجربة، وهنا سوف يعرف الفرق الفني والتجريبي بين محاولاته القديمة والجديدة ويبني نظرية أو رؤية خاصة به، بمقارنةً بروبوتات الذكاء الاصطناعي التي تنتج نماذج عامة لا تراعي الفروق الفردية ولا المستويات التجريبية ولا البيئات التحليلية المختلفة.
وما يُقال عن تجربة المهندسين يمكن أن يُقال كذلك على وظائف أخرى قد يُحرَم من يعملون بها من تنمية ذكائهم ومهاراتهم، لأنها ستبقى معطلة إلى حد كبير جرَّاء الاعتماد على روبوتات الذكاء الاصطناعي التب لا يمكن أن تبني معرفة خارج البرمجة البشرية إلا إذا خرج البرنامج التلقيني من دائرة التنفيذ المغلق إلى دائرة صنع برمجة أرتدادية أو ما يعرف علميا بالذكاء التوليدي، صحيح أن مجالات الذكاء الصناعي للأن تقول أنها قدمت أسهامات فعالة في حل الكثير من الإشكاليات العملية والمعرفية، وقدمت أفكارا قد نحتاج لها سنينا حتى تتبلور، لكن المشكلة ليست في هذا الجانب العملي، الإشكالية الكبرى وكما قلت هي في سعي العقل البشري لجعل الذكاء المصنع يفوق الخيال النظري، عندها لا نعرف تماما شكل الواقع وشكل المعرفة وتوجهاتها ودورها على الحياة الوجودية بشكل عام، إنه عصر جنون التكنلوجيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع صلاح شرارة:


.. السودان الآن مع صلاح شرارة: جهود أفريقية لجمع البرهان وحميدت




.. اليمن.. عارضة أزياء في السجن بسبب الحجاب! • فرانس 24


.. سيناريوهات للحرب العالمية الثالثة فات الأوان على وقفها.. فأي




.. ارتفاع عدد ضحايا استهدف منزل في بيت لاهيا إلى 15 قتيلا| #الظ