الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدفن في بلاد الرافدين القديمة

عضيد جواد الخميسي

2024 / 6 / 15
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كان الدفن في بلاد الرافدين القديمة عبارة عن ممارسة وضع الجثة في حفرة مع مراعاة طقوس معينة ، وذلك لضمان عروج روح المتوفى إلى العالم السفلي ومنع عودتها لتلاحق الأحياء . وكانت الاعتبارات الصحيّة عند التخلص من الجثة ثانوية بالنسبة للمخاوف الروحية.
وكان يُنظر إلى الأشباح في بلاد الرافدين القديمة على أنها حقيقة من حقائق الحياة ؛ وهو اعتقاد طويل الأمد رغماً من عدم وجود اتفاق تام بين العلماء حول تاريخ ممارسة الدفن وارتباطها بمنع ملاحقة الأرواح . وكما يبدو أن تاريخها يعود إلى فترة العُبيد على الأقل (حوالي عام 5000-4100 قبل الميلاد) . ومع ذلك، فمن الممكن أن تعود طقوس الارتباط والطقوس الجنائزية المصاحبة لها إلى أبعد من ذلك. حيث كان أقدم قبر تم العثور عليه حتى الآن في الشرق الأدنى هو كهف شانيدار في جبال زاگروس، والذي يعود تاريخه إلى ما بين 45,000 و75,000 سنة مضت . وحسب رأي بعض العلماء، فإنه يقدم دليلاً على الطقوس الجنائزية. وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يشير إلى وجود علاقة بين الدفن والحياة الأخرى التي يرجع تاريخها إلى عصر الإنسان النياندرتال .

كانت الطقوس الجنائزية تهدف إلى تكريم الموتى وايصالهم باحترام إلى العالم الآخر، ولكن وفقاً لنقوش تعود إلى فترة أوروك (عام 4100-2900 قبل الميلاد) وما بعده ، كان هناك خوف مستمر من احتمال عودة الموتى . وفي بعض الأحيان، تتمكن الروح الهاربة الإفلات من العالم السفلي بعزيمة وإصرار . وفي أحيان أخرى، يُمنح لها الإذن بالعودة إلى عالم الأحياء لتصحيح خطأ ما ، أو لإيصال رسالة محددة . ولكن السبب الأكثر شيوعاً للهرب هو طريقة الدفن الغير مناسبة ، و طقوس الجنازة الغير صحيحة.
كان من المفترض أن يتم دفن المتوفي بكل تقدير مع مقتنياته الجنائزية ، وأن يُصان قبره من قبل أفراد الأسرة الذين يقدمون طعام وشراب الغفران . وإن الفشل في مراعاة طقوس الدفن المقبولة ؛ يمنع الروح من العثور على مثواها في حياة الآخرة،؛ وذلك باعتبارها روحاً مُشوّشة أو مضطربة ، وبالتالي فإنها ستعود لتلاحق الأحياء .
كان العالم الآخر في بلاد الرافدين القديمة الذي تديره الإلهة إريشكيگال (في وقت لاحق مع قرينها نيرگال ) ، يشبه السجن . ويوصف على أنه عالماً رمادياً قاتماً من الخمول والبؤس ، حيث إن الأرواح تأكل التراب، وتشرب من البرك الآسنة ، وتقف أو تجلس بلا مبالاة وإلى الأبد. وكان يُعتقد أن الأرواح مستعدة لاغتنام أية فرصة للعودة إلى ضياء الشمس . وقد توفر ممارسات الدفن غير صحيحة مثل هذه الفرصة . حيث كان بإمكان إريشكيگال المتأكدة من بقاء الموتى في مملكتها، أن تمنح الروح رخصة غياب لإفزاع عائلتها وأقاربها ، ودفعهم إلى تولّي مسؤولياتهم كما ينبغي .

الآلهة والحياة والروح
قصة الطوفان البابلية بدأت من تلك السطور؛ عندما أصدرت الآلهة الكبيرة أوامرها الى الآلهة الأصغر سنّاً؛ القيام بجميع الأعمال على الأرض . وبعد انجاز حفر أخدودي التوأمان (دجلة والفرات)؛اعترضت الآلهة الشّابة الاستمرار بتلك المهام الصعبة . اقترح (إنكي) إله الحكمة على ربّ الآلهة (أنليل) أن يخلق كائناً جديداً تحت مسمّى " الإنسان " الذي يقوم بإنجاز جميع الأعمال على الأرض بدلاً من الآلهة المتذمرة . فتطوع لتلك المهمة أحد الآلهة واسمه (وي ـ ألو) ـ المعروف أيضاً باسم (ألاـ ويلا ) ـ أو (كيشتو) ـ والمُكنّى بـ (إله الضمير) ، وقدّم نفسه ضحيّة لهذا الهدف السامي . وعندما ذُبح إله الضمير، قامت الإلهة (نينتو) أو الإلهة الأم ، والمعروفة أيضاً باسم (نينهورساگ) بعمل خلطة ؛ عجنت فيها لحمه ودمه ومخّه مع مقدار من الطين ، ومن هذا الخليط خُلق سبعة من الذكور البشر، وسبع من الإناث . لذلك كان البشر عبارة عن مزيج من جسد أرضي الذي عند الموت سوف يتحلل ويعود إلى الطين الذي صُنع منه، والروح الخالدة من وي - ألو تغادر إلى عالمها [ مفهوم الغنوصية البابلية ] .
عندما يموت الشخص ، تغادر جسده الروح < گيدم > باللغة السومرية ، و< إيتمو > باللغة الأكدية. إذ تحتاج هذه الروح إلى التوجيه لأن ميلها الطبيعي في عودتها إلى نشوئها الأصلي . وبما أنه كان يُعتقد أن الآلهة تسكن في الأعلى، فإن هذا يعني صعوداً نحو عالمهم . لذا فقد فكرّت الآلهة أنه ليس من المناسب للأرواح البشرية أن تسكن عالمها، وبالتالي تم خلق عالم آخر لهم تحت الأرض يُعرف باسم (إيركالا) ؛ وهو " أرض اللاعودة ، مظلم ، موحش وقاسي ، وهو المنزل الذي لا يسمح في الخروج لمن يدخله ، والغبار يملأ بابه ومُقفل من الداخل . " (دالي ص 155)

طقوس الجنازة
اُستبعد حرق الجثث من قبل دول ـ المدن السومرية. لأنه كان يُعتقد إذا تم تشويه جثة الميّت ؛ فلن يكون له صورة في حياة الآخرة وسيختفي أثره نهائياً ، وذلك بسبب أن الدخان الناتج عن حرق الجثة سوف ينتقل للأعلى ويحمل روح المتوفي نحو الآلهة بدلاً من النزول إلى إيركالا. وقد تطورت الطقوس الجنائزية والدفن للتأكد من أن روح المتوفي تذهب إلى حيث كان من المفترض أن تذهب ، حتى لا يكون لديها سبباً في العودة .
عندما يموت شخص ما، يقال إنه "فقد ريحه"، وكان التعبير الشائع عن موت الشخص هو "لقد هبّت ريحه " (فينكل،ص 29)؛ بمعنى أن روحه قد تحررت من جسدها، وذلك قبل أن يتجه اهتمام أسرته صوب الجثّة وإجراء الطقوس الكاملة لما قبل الدفن . ويصف البروفيسور ستيفن بيرتمان مشهد فراش الموت لشخص يحتضر في المنزل بسبب أمّا (الشيخوخة، أثناء الولادة، القتل ، المرض) وغيرها من أسباب الموت ، وكما في المقطع التالي :
"عندما تقترب ساعة وفاة الشخص في بلاد الرافدين، يستلقي على سرير بحضور عائلته واقربائه مع وجود كاهن في انتظار انطلاق روحه. وبجانب السرير على اليسار كان يوضع كرسي مصنوع من القصب فارغ مخصص للروح التي ستنهض بشكل غير مرئي من الجسد . وقرب الكرسي كانت توضع القرابين الروحية الأولى وهي؛ البيرة والخبز،وذلك لتقوية الروح في رحلتها الطويلة إلى العالم السفلي . وعندما يأتي الموت أخيراً، تُطهّرالجثّة بماء الفرات المقدّس، وتُمسح بالزيوت المعطرة ، ثم يتم تلبيس المتوفي رداء جديد غير ملبوس من قبل مع تزيينه بالحلي والمقتنيات الثمينة الأخرى ." (ص 281-282)
أحياناً كان يُقدّم الخبز والماء الى الجثة ، كما هو موضح في النّص الأدبي السومري (المسافر والعذراء) ؛ حيث تعتني فتاة بجسد حبيبها المتوفي . وهنا لا يتم وضع الطعام والشراب بجوار الكرسي ، بل يتم تقديمه مباشرة إلى الجثّة ، وسكب الماء على الأرض لتتمكن الروح من شربه أثناء نزولها إلى العالم السفلي :
"غَمسْت الخبز ومَسحْتهُ به من وعاء مغطى لم يُرفع قط .
من دلو حافته متدليّة .
سَكبْتُ الماء؛ فشربته الأرض .
ومَسحْت جسده بالزيت العائد لي ذي الرائحة الطيبة .
ولَففْتُ الكرسي بردائي الجديد.
ريح دخلته ، و ريح خرجت منه.
يا مسافري إلى الجبال
من الآن فصاعداً؛ يجب أن تبقى راقداً في جبال العالم السفلي ." (ص فينكل، 30)
كان "الجبل" مصطلحاً مرادف للحياة الآخرة ؛ حيث كان يُعتقد أن المدخل إلى العالم السفلي الشاسع يقع بعيداً تحت الجبال، وكانت الروح تحتاج إلى زاد خفيف لتلك الرحلة ، ثم المرور أسفلاً عبر النهر ومنه إلى الداخل حيث عالم الشفق لإريشكيگال. وكانت الطقوس المذكورة أعلاه مجرّد خطوة أولى في تحضير المتوفي لتلك الرحلة. و بمجرّد غسل الميّت ومسحه بالزيت؛ كان لا بد من دفنه بشكل صحيح .

مراسيم الدفن
كانت أولى المدافن في بلاد الرافدين تحت أرضيات المنازل ، واستمرت هذه الممارسة طوال التاريخ الطويل للمنطقة. ودفن الناس لذويهم في المنازل سهلاً لهم في تأدية الالتزامات الواجبة عليهم مثل تقديم طعام وشراب الغفران ؛ مما لو تم دفنهم في مقبرة خارج المدينة أو القرية. وتُحفر القبور في الأرض لتسهيل وصول الروح إلى إيركالا. بيد أنه يمكن أن تتخذ القبور أشكالاً مختلفة . ويستعرض البروفيسور إيرفينگ فينكل الأنواع المختلفة للدفن في بلاد الرافدين ، وكالتالي :
1ـ الدفن الجداري : تحديداً للرضّع والأطفال الصغار؛ حيث تُدفن الجثّة داخل جدار في المنزل .
2ـ الدفن الترابي : تُلف الجثّة بحصيرة من القصب ، وتوضع في حفرة تحت الأرض ثم تُغطّى بالتراب .
3ـ الدفن العمودي : غالباً ما يؤدي إلى قبر حفرة أو تابوت أو غرفة.
4ـ الدفن في جرّة أو جرّة مزدوجة: يمكن دفن جثة واحدة في جرة كبيرة مغطاة ومغلقة ؛ أمّا أن يتم صناعتها منزلياً ، أو مصنوعة خصيصاً . وقد عُثر على جرّتين متصلتين من فتحتيهما . وهنا يتبادر سؤال ؛ هل هذا يعني أن الشخصين قد ماتا معاً وتمّ دفنهما بهذه الطريقة ؟ّ!!
5ـ الدفن بالفخّار المكسور: تغطّى الجثّة بطبقة سميكة من قطع الفخار المكسّرة .
6ـ الدفن في تابوت حجري: عادة ما يكون تابوت بلاد الرافدين مصنوعاً من السيراميك ومغطّى ، وشكله المميز يشبه حوض الاستحمام .
7ـ الدفن في نموذج محدد : كأن تكون كتلة من الحجر أو الطوب تحت الأرض، أو تجويف مكشوف من الطوب. (ص44)

في بعض الحالات يُحتفظ بالكرسي الذي تم تخصيصه للشخص الذي كان على فراش الموت ، وفي حالة عودة روحه بهيئة شبح ، فإنها سوف تجد ترحيباً ومكاناً للاستراحة ، على أمل أن تعود بعد ذلك إلى عالمها بهدوء . كما يُحتفظ ببعض مقتنيات المتوفى في المنزل كرمز لتذكرّه . كما تُدفن مع الميّت بعض الأشياء المُفضّلة والضرورية التي قد يستفيد منها في العالم السفلي . ويصف البروفيسور فينكل الأشياء التي كان من المتوقع أن تقدمها العائلة للروح، حتى وهي في أشكالها البسيطة ، وكما في المقطع التالي :
"ـ تمثال من الطين للمتوفي ؛ حيث يكون مُزيّناً وملبّساً وممسوحاً بالزيت بإسم المتوفي ، ويمكن الاحتفاظ به رمزياً داخل مسكن العائلة بغية التركيز على تذكرّه والحفاظ على وجوده ضمن العائلة .
ـ الكرسي الخاص بالروح .
حاجات القبر ؛ وهي ما يحتاجه المتوفي في رحلته وعند وصوله. وينصب التركيز على توفير الطعام والشراب . وعند وصوله إلى العالم السفلي ؛ تجد روح المتوفي طعاماً وشراباً غير مستساغ ، مما يدعو ذوو المتوفي إلى الاستمرار في تقديم أطعمة الغفران في جميع المناسبات والأعياد . وليس هناك أدنى شك في أن التركيز المستمر على هذا المشهد؛ يعكس وعياً متعاطفاً لدى الناس ." (ص 30)
لم تُتبع جميع طرق الدفن حسب ما ذُكر أعلاه، ولم تتم مراعاة جميع الطقوس كما هو موصوف . بيد أن البروفيسور فينكل يرى ؛ "كانت الطريقة الأكثر شيوعاً للدفن هو دفن الجثة تحت الأرض في حفرة بسيطة وملفوفة في حصيرة من القصب ، ولكن أولئك الذين توفّوا بسبب المرض ؛ يُدفنون في مكان آخر" (ص 44-45) .
كان مفهوم المرض المعدي معروف لدى سكان بلاد الرافدين ، وطالما لم يعلموا عن مفهوم الجراثيم ؛ لذا فقد فسّروه روحياً : حيث سمحت الآلهة للشخص في أن يموت بسبب المرض لأسباب خاصة بهم ، وعادة ما يتعلق بارتكاب بعض الخطايا أو بسبب الإهمال . كما أن التقرّب من الجثّة المريضة قد يلوّث الأحياء .
أمّا أولئك الذين ماتوا بسبب المعارك ،أو الغرق، أو أثناء السفر، أو الوحيدون في مهمّة ما، أو قُتلوا غدراً ، أو وحيدون في منازلهم، أو ماتوا بأية طريقة أخرى ؛ يكون الأمر متروكاً للأحياء ليس فقط لإلقاء النظرة على الموتى في رحلتهم الأخيرة، بل أيضاً كيفية الحفاظ على ذكراهم وإلى الأبد .

العالم الآخر
على عكس مفهوم حياة الآخرة لحضارات مثل بلاد النيل ؛ لم تقدم بلاد الرافدين بمفهومها عن العالم السفلي أية مكافأة بسبب حياة فاضلة وتقيّة أو عقوبة على سلوك سيئ للمتوفين . حيث يرحل الملك والعبد، الصالح والشرير، جميعاً إلى نفس المكان ويعيشون نفس الحياة المظلمة والقاسية بعد الموت . وكانت روح الفرد الخالدة في العالم السفلي؛ مدركة تماماً لحالتها، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً لتحسينها. وإن ما يفصل الروح المتألمة الحزينة عن الروح المتنعمة ؛ هي الجهود التي تبذلها عائلته على الأرض .
في قصة (گلگامش وإنكيدو والعالم السفلي) ، يروي إنكيدو تجربته عن حياة الآخرة عندما يسأله گلگامش . وفي السطور (254-267)، يسأل گلگامش خادمه إنكيدو ( في هذه القصة هو خادم لگلگامش وليس صديقه) عن أرواح من كان له أبناء يذكرونهم ويهتمون بهم ؛ فيسأل: "هل رأيت من كان له ولداً واحداً؟" فيجيب إنكيدو: "لقد رأيته؛ وهو يبكي بمرارة على اللوح الخشبي الذي تم تثبيته في حائطه". وعندما يسأله عن الروح التي لديها سبعة أبناء، يرّد عليه إنكيدو؛ إنه مرتاح "مرافق للآلهة، يجلس على المنصّة ويسمع الأحكام ." والفرق بين الروحين هو أن الأول له ابن واحد فقط يتذكره ؛ وهو ابن سيموت أيضاً في النهاية وينضم إليه ؛ بينما الثاني له أبناء كثيرون وبالتالي سيستمر في تلقّيه المكارم لفترة أطول .
رغماً من ذلك ، فإن حتى تلك الأرواح التي ارتقت من خلال حجم عوائلها ؛ كانت لا تزال في نفس العالم المظلم مثل الآخرين؛ وكذلك الملوك العظماء. إذ بعد موت الملك السومري أورـ نمّو (عام 2047-2030 قبل الميلاد) ؛ وصل إلى العالم السفلي، وقدّم قرابينه للآلهة هناك . وتماشياً مع مكانته، أُقيمت له مأدبة كبيرة، ولكن " طعام العالم السفلي مُرّ، ومياه العالم السفلي آسنة " (السطور 83-84). وبعد أسبوع هناك، أخذ يبكي ندماً على حياته فوق الأرض . كما وُصفت نفس التجربة في موت گلگامش أيضاً ؛ حيث وجد ملك أوروك البطل نفسه في حالة من اليأس بعد وصوله إلى العالم السفلي،على الرغم من حياته المشرّفة وانجازاته العظيمة ، بيد أنه أفضل قليلاً من أي شخص آخر، حيث حصل على مراسم دفن مهيبة شبيهة بمراسم دفن الملك أور - نمّو .

السحر والأشباح
گلگامش ، وأورـ نمّو، بصفتهما ملكان حافظا على استقرار الحكم في حياتهما؛ قد قبِلا بمصيرهما وعلى مضض ، ولكن لم تكن جميع الأرواح تميل إلى هذا الاتجاه .بيد أنه إذا أتيحت أية فرصة للأرواح الغير راضية ؛ فانها قد تغتنمها في العودة الى سطح الأرض بقصد زيارة ذويها وإحياء مشاهد السماء وأشعة الشمس والأنهار والنسائم ، وذلك حسب الاعتقاد السائد قديماً . رغماً أنه لا يوجد دليل عن وجود شبح يفعل ذلك بصفاء نيّة . ولربما تعود الأشباح بشكل غير مرئي وتجلس بصمت على الكرسي المخصص لها، ولكن لا أحد يعلم إذا كانت قد فعلت ذلك حقّاً ! . وقد كُتبت قصص الأشباح على ألواح الطين من قبل كتّاب بلاد الرافدين القديمة؛ على أنها أرواح مزعجة ،ويجب إعادتها إلى حيث تنتمي . وكان من بين هؤلاء شبح "دعني أدخل"، الذي توسّل إلى الأحياء بغية الحصول على إحسانهم ، وكان بحاجة لإعادته إلى إيركالا من خلال تلاوة تعويذة مخصصة للأشباح . وكان الطبيب المعروف باسم أسيبو Asipu (معالج روحاني) الذي يعمل بهذه الصفة كطارد للأرواح الشريرة ؛ حيث يقرأ التعويذة المناسبة لنوع معين من المطاردة ، ويعيد الشبح إلى إيركالا بمناداة اسمه مع اسم والدته . وغالباً ما تبدأ هذه التعويذات بعبارة مثل"أنا أبعدك" متبوعة بنوع الروح :
فليكن "دعني أن أدخل، ودعني أن آكل معك" [شبح]
فليكن"دعني أن أدخل، ودعني أن أشرب معك" [شبح]
فليكن"أنا جائع، دعني أن آكل معك" أنت" [شبح]
فليكن"أنا عطشان، دعني أن أشرب البيرة / أسكب الماء معك" [شبح]
فليكن"أنا أشعر بالبرد، دعني أن أرتدي ملابسك" [شبح]. (فينكل، ص 36)
في حالة الأرواح التي تسللت من إيركالا دون إذن، فإن مثل هذه التعويذات ستعيدها مرة أخرى . ومع ذلك، فإذا تم دفن شخص ما بشكل غير لائق، أو لم تكن الأسرة تؤدي واجباتها في زيارة القبر وتقديم طعام وشراب الغفران المتوقع ، فإن إريشكيگال ستسمح للروح بملاحقة الأسرة حتى يعترفوا بخطئهم ويصلحون الأمر، ويتصرفون كما هو متوقع منهم .

وبنفس الطريقة التي فهم بها المرء حقيقة هبوب الرياح التي لا يمكن رؤيتها إلا من خلال ما تتركه له من تأثيرات ملموسة؛ تعرف سكان بلاد الرافدين القدماء على اليد الخفية للأشباح في حياتهم اليومية. وحتى تلك الأرواح التي لا يمكن رؤيتها ؛ كان من المفهوم أنها تتصرف بطرق معينة وتترك آثار مختلفة. وقد حددّ البروفيسور فينكل ثلاثة معتقدات متميزة لدى سكان بلاد الرافدين القدماء ، والتي مجتمعة تدعم رؤية أن ممارسة الدفن كانت في المقام الأول لغرض ضمان عدم عودة الموتى إلى عالم الأحياء ، وكما في المقطع التالي :
"[هذه المعتقدات] متشابكة ومترابطة إلى حد أنه من الصعب أن يطغي أحدهما على الآخر. والمعتقدات الثلاثة : 1. بقاء شيء من الإنسان بعد الموت. 2. أن يفلت شيء ما من قبضة الجثة ويذهب إلى مكان ما. 3. هذا الشيء إذا ذهب إلى مكان ما، فمن الممكن أن نتوقع بشكل معقول أن يكون قادراً على العودة ." (ص 5)
لقد كان الأمر متروكاً للأحياء للتأكد من أن الموتى كانوا مرتاحين في مثواهم الجديد قدر الإمكان . وكانت الخطوة الأولى في هذا الجهد هي طقوس الجنازة الصحيحة والدفن المناسب . حيث لم يتم ربط مصير المتوفي في العالم الآخر بما فعله في حياته على الأرض ، بل بمدى تذكرّه من قبل ذويه ، وإمدادههم المستمر له بطعام وشراب الغفران بعد وفاته .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ دليل الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
جيريمي بلاك ـ الأدب في بلاد سومر القديمة ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2006 .
ايرفينگ فينكل ـ الأشباح الأولى ـ هودر للنشر ـ 2023 .
صموئيل نوح كريمر ـ السومريون: تاريخهم وثقافتهم وشخصياتهم ـ مطبعة جامعة شيكاغو ـ 1971 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين مولد الحضارة ـ ثوماس دوني للنشر ـ 2014 .
أدولف. ليو أوبنهايم ـ صورة لحضارة ميتة ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1977.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة: مدينة منكوبة تاريخها عريق ومستقبلها غامض


.. ما أهم ردود الفعل في إسرائيل على خطاب حسن نصر الله وتهديداته




.. الولايات المتحدة.. بائعة قهوة تلقن زبونا درسا قاسيا! • فرانس


.. ممثلو الأحزاب الفرنسية يعرضون برامجهم أمام جمعية -أرباب العم




.. مراسلنا: قوة خاصة إسرائيلية تقتحم جنين وسط اشتباكات مع فلسطي