الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من جسد السلطة إلى سلطة الأجساد: الجسد، الفرد والذات عند فوكو (الجزء الثالث)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 6 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


التأكيد الأول عبارة عن اتخاذ موقف مفاهيمي به انخرط فوكو عن خطإ ضد تمثل مشترك للجسد السياسي، وضد مفهمة مزدوجة للسلطة ساهم هو نفسه أولا في دعمها. وعلى النقيض من الفكرة الاستعارية عن "جسد اجتماعي قد يتشكل من عالمية الإرادات"، يؤكد فوكو بالتالي أنه "ليس الإجماع هو الذي يجعل الجسد الاجتماعي يظهر"، بل "مادية السلطة على أجساد الأفراد انفسهم". إن الخيال التصالحي لجسد اجتماعي الناتج عن الاتحاد الحر للإرادات يرتكز بالفعل على التعارض الضمني بين قوة مادية عنيفة بالضرورة، وسلطة سياسية أكثر شرعية بحيث لا تكون مادية. لكن، في مواجهة هذه المعارضة، يقصد فوكو التأكيد، من ناحية، على مادية كل سلطة، ومن ناحية أخرى، على إدراج العنف نفسه ضمن الإطار العقلاني لاستراتيجية منظمة. ومن خلال القيام بذلك، فإن التحول المفاهيمي الذي قام به فوكو يشكل أيضا فرصة للعودة النقدية إلى كتاباته الأولى.
افترض "تاريخ الجنون"، على وجه الخصوص، تأويلا قمعيا للسلطة، حيث لعب مفهوم العنف دور عامل استمرارية بين المستشفى العام وولادة المصحة. ومن ثم، فمن خلال تصحيح هذه الفرضية الضمنية، تتبع فوكو، في بداية دراسته حول "السلطة النفسية"، الخطوط العريضة لمفهوم السلطة الذي تطور في كتابه "المراقبة والمعاقبة". إن تحليل "الاستثمار السياسي للأجسام" و"ميكرو-فيزياء السلطة"، وفقا للاتجاه المزدوج الذي يعطيه فوكو لهذا التصور، يفترض في الواقع، على التوالي، أن "ما هو جوهري في كل سلطة هو أن نقطة تطبيقه هي دائما، في نهاية المطاف، الجسد”؛ وأن "السلطة مادية، وهي تبعا لذلك عنيفة، بمعنى [...] أنها تخضع لجميع مقتضيات نوع من ميكرو-فيزياء الأجساد". وإذا كان بوسعنا أن نتحدث مع فوكو عن "جسد السلطة"، فهذا يعني أولاً وقبل كل شيء أن نتصور هذه الهيئة بالمعنى المادي لعلاقات القوة التي تشكل حقلا استراتيجيا للمواجهات والصراعات، بصرف النظر عن أي نموذج دولتي.
ولكن الأكثر من ذلك أن ميكرو-فيزياء السلطة ترتبط أيضا بـ "سياسة تشريح الأفراد". هذا هو معنى التأكيد الثاني لفوكو، والذي بموجبه أفسح الشكل الأساسي (capitale) للسلطة المجال للاستثمار الزغبي (capilaire) للأحساد الفردية. المعاينة هنا تاريخية: للم يعد الأمر يتعلق بالعودة إلى تصور خاطئ عن السلطة، بل بالتساؤل عن الطفرة الانضباطية التي تميل من خلالها الأجساد الفردية إلى أن تصبح هدفًا ونتيجة لسلطة مدمجة. وإذا كان مفهوما أن السلطة، على أية حال، هي واقع مادي، وأن جسد الملك نفسه "ليس استعارة، بل واقعا سياسيا"، فإنه يبقى مع ذلك أنه "جسد المجتمع هو الذي أصبح، في القرن التاسع عشر ، المبدأ الجديد”. إن الإصرار على محايثة السلطة للجسم الاجتماعي لم يعد يعتمد فقط على القيمة الإجرائية التي يضفيها فوكو على الجسد في تحليل السلطة: إنه يرتكز أيضا على طفرة في طرق ممارسة هذه السلطة. لكن، خلال هذه الطفرة، يكتسب الجسد أهمية إضافية من وجهة نظر موضوعاتية هذه المرة: جسم اجتماعي يجب الدفاع عنه، وجسد فردي يجب ترويضه.
في الممارسة السيادية للسلطة، يشرح فوكو، " تسود الصورة المطلقة للرأس الذي يتحكم في الجسد". إنه "الشكل الأساسي للسلطة"، كما يتضح من مقدمة كتاب "اللفياثان" لهوبز، حيث يكون الجسد الوحيد الذي يجب الدفاع عنه وحمايته، والجسد الوحيد الذي من المحتمل أيضا أن يتعرض للإساءة بسبب الجريمة، هو الملك. في مثل هذا النموذج، تهدف العقوبات نفسها إلى استعادة سيادة جسد الملك المهان، بدلاً من إعادة إرساء النظام داخل الجسم الاجتماعي. "إنها، كما كتب فوكو، طريقة للسعي إلى الانتقام الشخصي والعام في نفس الوقت، حيث أن القوة الفيزيكو-سياسية للعاهل حاضرة بطريقة ما": من خلالها يكتسب التعذيب الوظيفة الشرعية-سياسية. احتفالية تهدف إلى "استعادة السيادة الجريحة في إحدى اللحظات".
من هنا، ورغم ذلك، بمجرد النظر إلى الجسم الاجتماعي من حيث فائدته، باعتباره مجموعة من القوى الإنتاجية التي من شأنها أن تستخدم بشكل جيد، تتغير نقطة ارتكاز السلطة جملة وتفصيلا. إن اعتبار المجتمع نفسه كجسم يجب تحسينه والدفاع عنه يعني في نفس الوقت تشكيل الأفراد كأجساد يجب مراقبتها ودمجها. إذا أصبح المجتمع، في القرن التاسع عشر، جسما يجب حمايته "بطريقة شبه طبية"، يترتب على ذلك بالتالي، من وجهة نظر الوسائل المستخدمة لهذا الغرض، أنه "بدلاً من الطقوس التي سنستعيد بها سلامة جسد الملك، سنطبق وصفات وعلاجات مثل القضاء على المرضى، مراقبة المصابين، واستبعاد الجانحين”. لكن، في هذا النموذج الجديد، فإن تحديد المخاطر التي تفجر المجتمع من الداخل والقضاء عليها لا يتخذان شكلاً قمعيا: بل يتمثلان في محاصرة ممنهجة للجسم الاجتماعي، ما يجعل من الممكن فردنة قواه التخريبية من أجل دمجها بشكل أفضل.
(يتبع)
المرجع:https://journals.openedition.org/philosophique/1782








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع صلاح شرارة:


.. السودان الآن مع صلاح شرارة: جهود أفريقية لجمع البرهان وحميدت




.. اليمن.. عارضة أزياء في السجن بسبب الحجاب! • فرانس 24


.. سيناريوهات للحرب العالمية الثالثة فات الأوان على وقفها.. فأي




.. ارتفاع عدد ضحايا استهدف منزل في بيت لاهيا إلى 15 قتيلا| #الظ