الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحليل النفسي وتطبيقاته المعرفية 70

طلال الربيعي

2024 / 6 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الأخلاق والحضارة والعصاب neurosis

كما ذكرت في الحلقة السابقة, يؤكد المحلل النفسي لاكان أن الفكر الأخلاقي هو جوهر التحليل النفسي، ويخصص عاما كاملا من ندواته لمناقشة صياغة الأخلاق والتحليل النفسي. ولكن هذا الكلام يعقّد ولا يبّسط معالجة موضوعة الأخلاق في التحليل النفسي.

الحلقة هذه تشكل تمهيدا او تعريفا لبعض المصطلحات الأساسية في التحليل النفسي ذات العلاقة بموضوعة الأخلاق والحضارة-الحضارة الغربية لدى فرويد.

الحلقة القادمة ستتضمن تفصيلا لكيفية خلق الحضارة لمشاعر الذنب المرتبطة بالرغبة وغريزة الجنس بعرف فرويد.
--------
العلاج بالتحليل النفسي
وتبسيطاً للأمور بعض الشيء، يمكن القول إن المشكلات الأخلاقية تجتمع في العلاج التحليلي النفسي من جهتين:
جانب التحليل و جانب المحلِل.

التحليل
من جهة المحلِل توجد مشكلة الشعور بالذنب feeling of guilt والطبيعة المرَضية للأخلاق الحضارية the pathogenic nature of civilized morality.

الأخلاق الحضارية
في أعماله السابقة، افترض فرويد صراعًا أساسيًا بين متطلبات "الأخلاق الحضارية" والدوافع الجنسية غير الأخلاقية للفرد amoral-الجنس ليس له أخلاقية لا تعني لا أخلاقية الجنس immoral.

عندما تكون للأخلاق اليد العليا في هذا الصراع، وتكون الدوافع أقوى من أن يتم تساميها-التعبير عنها بوسائل اخرى مثل الرياضة او الأدب والفن والعلم، يتم التعبير عن الحياة الجنسية بأشكال منحرفة (اجتماعيا!) أو يتم قمعها، مما يؤدي إلى العصاب: الحضارة تستدعي تأجيل اشباع الرغبة وهذا, بعرف فرويد, يؤدي الى العصاب. فرويد اتخذ لذلك موقفا متشائما من الحضارة لأنها عصابية وتعيق الشعور بالرضا او السعادة.

ومن وجهة نظر فرويد، فإن "الأخلاق الحضارية " هي السبب الجذري للأمراض العصابية.

الشعور بالذنب
الأنا العليا
كما طور فرويد أفكاره حول الطبيعة المرضية للأخلاق pathogenic nature of morality في نظريته عن الشعور اللاواعي بالذنب، والأنا العليا، وهي قوة أخلاقية داخلية تصبح أكثر قسوة إلى الحد الذي تُخضع فيه الأنا لمطالبها.

المحلِل
من جانب المحلل هناك مشكلة كيفية التعامل مع الأخلاق المسببة للأمراض والشعور بالذنب اللاواعي للمريض، وكذلك مع مجموعة كاملة من المشاكل الأخلاقية التي قد تنشأ في العلاج التحليلي النفسي.

الشعور بالذنب
أولاً، كيف يمكن للمحل أن يستجيب لشعور المريض بالذنب؟

بالتأكيد ليس من خلال إخبار المريض أنه ليس مذنبًا حقًا، أو من خلال محاولة "تخفيف" إحساسه بالذنب، أو من خلال فقط اعتباره وهمًا عصابيًا.

على العكس من ذلك، يرى لاكان أن المحلل يجب أن يأخذ إحساس المريض بالذنب على محمل الجد، لأنه في النهاية عندما يشعر المريض بالذنب يكون ذلك لأنه، في مرحلة ما، قد تخلى عن رغبته, اي أن القلق المصاحب للشعور بالذنب الذي
تنتجه الأنا العليا (أو الضمير على وجه التقريب) المتشددة او القاسية يكون غير محتملًا لدى الشخص ويثنيه عن إشباع الرغبة.

الأنا العليا
ثانيًا، كيف يمكن للمحلل أن يستجيب للأخلاق المسببة للأمراض التي تعمل من خلال الأنا العليا؟

قد تبدو وجهات نظر فرويد حول الأخلاق كقوة مسببة للأمراض تشير ضمنا إلى أنه على المحلل ببساطة أن يساعد المريض ويحرر نفسه من القيود الأخلاقية.

ومع ذلك، فإن مثل هذا التفسير قد يجد بعض الدعم في أعمال فرويد السابقة، يعارض لاكان بشدة وجهة النظر هذه لفرويد، ويفضل فرويد الأكثر تشاؤمًا حول الحضارة وسخطها-
Civilization and its Discontents
https://www.sas.upenn.edu/~cavitch/pdf-library/Freud_SE_Civ_and_Dis_complete.pdf
ويذكر بشكل قاطع أن "فرويد لم يكن في أي حال من الأحوال تقدميا".

التحليل النفسي، إذن، ليس مجرد روح متحررة.

العلاج بالتحليل النفسي
ويبدو أن هذا يعرض المحلل لمعضلة أخلاقية.
من ناحية، لا يستطيع المحلل ببساطة أن ينسجم مع الأخلاق المتحضرة، لأن هذه الأخلاق هي المسببة للعصاب.
ومن ناحية أخرى، لا يمكنه أن يتبنى ببساطة نهجًا متحررًا معارضًا، لأن هذا أيضًا يظل ضمن مجال الأخلاق.

قد تبدو قاعدة الحياد وكأنها توفر للمحلل مخرجا من هذه المعضلة، لكنها في الواقع ليست كذلك، إذ يشير لاكان إلى أنه لا يوجد شيء اسمه موقف محايد أخلاقيا.

لا يمكن للمحلل إذن أن يتجنب الاضطرار إلى مواجهة الأسئلة الأخلاقية.

موقف أخلاقي محايد
إن الموقف الأخلاقي موجود ضمنيًا في كل طريقة لتوجيه العلاج التحليلي النفسي، سواء اعترف المحلل بذلك أم لا.

يتجلى الموقف الأخلاقي للمحلل بشكل واضح في الطريقة التي يصوغ بها هدف العلاج.

على سبيل المثال، تتضمن صيغ علم نفس الأنا الذي اشرت اليه في الحلقة السابقة كيفية مساعدة ألأنا للتكيف مع الواقع وأخلاقياته المعيارية.

وفي مواجهة هذا الموقف الأخلاقي، شرع لاكان في صياغة أخلاقياته التحليلية الخاصة.

أخلاقيات التحليل النفسي
إن الأخلاق التحليلية التي صاغها لاكان هي أخلاق تربط الفعل بالرغبة.

ويلخصها لاكان في السؤال
Have you acted in conformity with the desire that is in you?"
"هل تصرفت حسب رغبتك؟"

وهو يقارن هذه الأخلاق مع "الأخلاق التقليدية" لأرسطو وكانط وغيرهم من الفلاسفة الأخلاقيين لعدة أسباب.

الأخلاق التقليدية
الخير
أولاً، تدور الأخلاق التقليدية حول مفهوم الخير، وتقترح "سلعًا" مختلفة تتنافس جميعها على موقع الخير السيادي.

لكن أخلاقيات التحليل النفسي ترى في الخير عقبة في طريق الرغبة؛ وهكذا في التحليل النفسي "من الضروري الرفض الجذري لمثال معين للخير".

ترفض أخلاقيات التحليل النفسي كل المُثُل، بما في ذلك مُثُل "السعادة" و"الصحة". وحقيقة أن علم نفس الأنا قد احتضن هذه المُثُل يمنعه من الادعاء بأنه شكل من أشكال التحليل النفسي. ولذلك رفضه لاكان لأن هدف هذا التحليل هو ليس مساعدة الشخص في البحث عن رغبته والسلوك بموجبها, بل الهدف هو الانصياع للمجتمع او للخطاب السائد فيه بالأحرى.

وبالتالي فإن رغبة المحلل لا يمكن أن تكون الرغبة في "فعل الخير" أو "الشفاء", لأن مفاهيما كهذه ستكون معيارية وبالتالي مرفوضة.

المتعة pleasure
ثانيًا، كانت الأخلاق التقليدية تميل دائمًا إلى ربط الخير بالمتعة؛ لقد تطور الفكر الأخلاقي على طول مسارات إشكالية المتعة بشكل أساسي.

ومع ذلك، فإن أخلاقيات التحليل النفسي لا تستطيع أن تأخذ مثل هذا النهج لأن تجربة التحليل النفسي كشفت عن ازدواجية المتعة؛ هناك حد للمتعة، وعندما يتم تجاوزها، تصبح المتعة ألمًا أو ما يسمى بالفرنسية jouissance وتستخدم هكذا بدون ترجمة.

"خدمة البضائع"
ثالثًا، تدور الأخلاق التقليدية حول "خدمة السلع" التي تضع العمل والوجود الآمن والمنظم قبل مسائل الرغبة؛ فهي تقول للناس أن يجعلوا رغباتهم تنتظر: الرأسمالية تفاقم هذه المشكلة والحضارة الشيوعية, النموذج الستاليني على الأقل, لا تحلها. في زمن ستالين كانت الانتاجية هدف المجتمع السامي وبخلافها يتم اتهام الشخص غير المنتج بالتسكع ويحكم عليه بالسجن.
المادة 209 من القانون الجنائي لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية (طبعة الثمانينات):
"المادة 209. التشرد أو التسول أو أي أسلوب حياة طفيلي آخر.
يعاقب على التشرد أو التسول أو الانخراط في أسلوب حياة طفيلي آخر بالسجن لمدة سنة إلى سنتين أو العمل الإصلاحي لنفس المدة."
أشهر المدانين "الطفيليين" السوفييتيين كان الشاعر السوفييتي جوزيف برودسكي. في عام 1964، حُكم علىه ب 5 سنوات من العمل الإصلاحي (كان القانون مختلفًا قليلاً في ذلك الوقت) وخدم 18 شهرًا. استندت التهم الرسمية الموجهة إليه إلى حقيقة أنه لم يكن يعمل بشكل قانوني في بعض الأحيان لعدة أشهر في كل مرة. في الواقع، كانت محاكمة برودسكي سياسية وسخيفة تمامًا. لم يكن برودسكي "طفيلياً" - بل كان يعمل شاعراً ومترجماً.
من أجل الهروب من الملاحقة القضائية وفقًا للمادة 209، استخدم السوفييت الذين لديهم مصادر دخل غير قانونية أو شبه قانونية وسائل مختلفة (غالبًا فاسدة) للحصول على وظيفة زائفة أو سهلة نسبيًا ومنخفضة الأجر. ولهذا السبب، يُعرف موسيقيو الروك السوفييت السريون بشكل جماعي باسم "جيل عمال النظافة". على سبيل المثال، عمل مغني الروك الكوري الروسي فيكتور تسوي في وقت ما كمنظف ليلي في مرافق صحية عمومية.
Was unemployment in the USSR illegal?
https://www.quora.com/Was-unemployment-in-the-USSR-illegal
من حسن حظ ماركس انه لم يعش في نظام ستاليني والا لحُكم عليه بالسجن لعدة سنوات بتهمة التسكع في أروقة مكتبة المتحف البريطاني. ونفس المصير بالطبع سيكون مصير Paul Lafargue الذي كتب كتابا يعنوان الحق في الكسل
The Right To Be Lazy
الحق في الكسل
(بول لافارج (1842-1911) كان اشتراكيًا ماركسيًا ثوريًا فرنسيًا كوبيًا المولد، وكاتبًا سياسيًا، واقتصاديًا، وصحفيًا، وناقدًا أدبيًا، وناشطًا؛ كان صهر كارل ماركس، بعد أن تزوج من ابنته الثانية، لورا. أشهر أعماله هو الحق في أن تكون كسولاً)
https://www.marxists.org/archive/lafargue/1883/lazy/

حسب علمي, ان مملكة بوتان هي الدولة الوحيدة في العالم التي يؤكد دستورها ان الهدف هو ليس الانتاجية بل سعادة الشعب.
وبدلا من استخدام الناتج الوطني الاجمالي المتعارف عليه gross domestic product,´-or-GDP كمؤشر للسعادة , تستخدم بوتان ما تسميه
Gross National Happiness
-السعادة الوطنية الإجمالية-
مركز بوتان ودراسات السعادة الوطنية الإجمالية هو المسؤول عن إدارة مسوحات السعادة الوطنية الإجمالية في بوتان. يسألون أسئلة مثل "ما مدى سعادتك بالأمس؟" و"كم مرة تمارس التأمل؟"
ويقومون بقياس تسعة مجالات رئيسية للسعادة كل خمس سنوات - الرفاهية النفسية، والصحة، والتعليم، والحكم الرشيد، والبيئة، واستخدام الوقت، وحيوية المجتمع، والثقافة، ومستويات المعيشة.-
Meet the smoking-free, carbon-negative country that passes no law unless it improves citizens’ well-being
https://edition.cnn.com/2019/09/13/health/bhutan-gross-national-happiness-wellness/index.html

فمقاييس السعادة العالمية للشعوب تعاني من مشاكل منهجية عديدة:
Seemingly straightforward survey questions in major studies of happiness and well-being are rife with unintended ambiguity. People repeatedly misinterpret what researchers are asking, and researchers repeatedly miscalculate what those answers mean. None of the standard research questions consistently prompt the kind of key information the scientists think they are collecting.
-ان أسئلة الاستطلاع التي تبدو واضحة ومباشرة في الدراسات الرئيسية للسعادة والرفاهية مليئة بالغموض غير المقصود. يخطئ الناس مرارًا وتكرارًا في تفسير ما يطرحه الباحثون، ويخطئ الباحثون مرارًا وتكرارًا في تقدير ما تعنيه تلك الإجابات. لا تحث أي من الأسئلة البحثية القياسية باستمرار على الحصول على نوع المعلومات الأساسية التي يعتقد الباحثون أنهم يجمعونها.-
The Unhappy Quest for a Happiness Index
https://anderson-review.ucla.edu/the-unhappy-quest-for-a-happiness-index/

والسعادة أمر مبالغ فيه:
"لا أعتقد أن الناس يعظمون السعادة بهذا المعنى. إنهم يريدون في الواقع تحقيق أقصى قدر من رضاهم عن أنفسهم وعن حياتهم. وهذا يؤدي إلى اتجاهات مختلفة تمامًا عن تعظيم السعادة " -
الحائز على جائزة نوبل دانييل كانيمان في مقابلة عام 2018 مع تايلر كوين، حول شرح سبب ابتعاده عن أبحاث السعادة
Daniel Kahneman on Cutting Through the Noise (Ep. 56 - Live at Mason)
https://conversationswithtyler.com/episodes/daniel-kahneman/

ومن ناحية أخرى، فإن أخلاقيات التحليل النفسي تجبر الذات على مواجهة العلاقة بين أفعالها ورغبتها في الوقت الحاضر.

نظرية التحليل النفسي
بعد ندوته حول الأخلاق في الفترة من 1959 إلى 1960، واصل لاكان تحديد المسائل الأخلاقية في قلب نظرية التحليل النفسي.

يفسر لاكان ال soll (يجب بالالمانية) في عبارة فرويد الشهيرة Wo es war, soll Ich werden ("حيثما كان الهو (الغريزة. ط.ا)، يجب أن تكون الأنا") كواجب أخلاقي، ويجادل بأن حالة اللاوعي ليست وجودية ولكنها أخلاقية-انها خيار ولذلك ان اعتراض الفيلسوف جان بول سارتر في أن التحليل النفسي عقيدة فاسدة, لانه يجعل الشخص عبدا لعقله الباطن ويسلبه حق الأختيار أو المسؤولية عن أفعاله
Divided Minds: Sartre’s “Bad Faith” Critique of Freud
https://academic.oup.com/book/6266/chapter-abstract/149921088?re-------dir-------ectedFrom=fulltext
هو بحد ذاته عقيدة فاسدة.

الخطاب
في السبعينيات، تحول تركيز أخلاقيات التحليل النفسي من مسألة التمثيل ("هل تصرفت وفقًا لرغبتك؟") إلى مسألة الكلام؛ لقد أصبحت الآن أخلاقيات "التحدث-الخطاب بشكل جيد" هي المسألة الأخلاقية.
ومع ذلك، فإن هذا يمثل اختلافًا في التركيز أكثر من كونه معارضة، لأن تحدث لاكان بشكل جيد هو في حد ذاته عمل.
وهذا , من وجهة نظر لاكان, ان الأطروحة ال 11 لماركس حول فيورباخ
Philosophers have hitherto only interpreted the world in various ways the point is to change it.
-قد قام الفلاسفة حتى الآن بتفسير العالم بطرق مختلفة فقط؛ النقطة المهمة هي تغييره.-
Theses On Feuerbach
https://www.marxists.org/archive/marx/works/1845/theses/index.htm
قد تعني اختلافًا في التركيز أكثر من كونه معارضة، لأن التفسير (بشكل جيد) هو في حد ذاته عمل. وفي أبجديات الطب الرسمي, يبدأ عمل الطبيب ليس بالعلاج بل بالتشخيص الذي يستوجب أيضا الحديث (الجيد او الهادف).
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدم المنازل الفلسطينية وتوسيع المستوطنات.. استراتيجية إسرائي


.. مجدي شطة وا?غانيه ضمن قاي?مة ا?سوء فيديو كليبات ????




.. قتلى واقتحام للبرلمان.. ما أسباب الغضب والاحتجاجات في كينيا؟


.. الجنائية الدولية تدين إسلامياً متشدداً بارتكاب فظائع في تمبك




.. فرنسا.. أتال لبارديلا حول مزدوجي الجنسية: -أنت تقول نعم لتما