الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة الأولى

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2024 / 6 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
العودة المحزنة لبلاد اليونان
٨٣ - الفلسفة الأولى

الزمن يحل كل الإشكاليات و يجعلها قديمة .

أرسطو، أراد أن يحلل الكينونة من جانب آخر، وهو دراسة وتحليل ما سماه بالمقولات كما ترجمها العرب قديما أو نظرية الأصناف كما تترجم حديثا Categories، التي حددها في عشرة مقولات وهي الجوهر، الكمية، الكيفية، العلاقة أو النسبية، الزمانية، المكانية، الوضعية، الملكية، الفاعلية، الإنفعالية. أي تصنيف الأنواع الرئيسية البسيطة والغير مركبة لما قد يوجد من كائنات وأنّ هذه المقولات تشير لوجود كائنات حقيقية، أي أنّها أشياء خارج إطار علم اللغة، أوهي شاملة وغير قابلة للاختزال، فليس هنالك أشياء رئيسية تخرج عن هذه القائمة، وليس من الممكن إلغاء أيّ تصنيف منها لصالح تصنيف آخر.. ويرى أرسطو بأنّ بداية التفلسف هي من خلال عرض الظاهرات (phainomena)، وهي الأشياء التي تظهر ذات علاقة بما يجري، وفي الوقت نفسه تجميع ما يدعوه المسلّمات (endoxa)، أي الآراء الموثوقة التي حصل عليها في ما يتعلّق بالأمور التي تحيّره. ويطبّق أرسطو منهجه هذا الذي يسميه استكشاف الظاهرات وجمع المسلّمات، على نطاق واسع بشكل يكاد يشمل كلّ حقول فلسفته. وعلى سبيل المثال النمطي: نجد هذا المنهج مطبّقًا بوضوح في مناقشته للزمان في كتابه الطبيعة، إذ يبدأ بالظاهرة من شعورنا الأكيد بـ (وجود الزمان) أو (مضيّه) على الأقلّ، وذلك إلى الحدّ الذي تبدو فيه هذه الظاهرة في عالمنا بشكل لا ينكر، أي ما تخبرنا به خبرتنا مع الزمان بأنّه يمر، وأنّه وحيد الاتّجاه، وأنّه يستحيل استرجاعه بعد مروره؛ ومع ذلك فإنّنا عندما ننتقل لتقديم تفسير لماهية الزمان تنعقد ألسنتنا، فنطلب الإرشاد ممّا قيل حول الزمان على ألسنة من فكّروا حول طبيعته، ويتبيّن لنا فورًا أن الفلاسفة وعلماء الطبيعة كليهما قد أثاروا مشكلات حول الزمان دون أن يصلوا إلى نتيجة نهائية أو حتى تقريبية. وعندما يبدأ أرسطو بعرض هذه المشكلات فإنّها تأخذ شكل ألغاز أو أمور محيّرة (يدعوها المعضلات aporiai)، وذلك في ما يتعلّق بوجود الزمان أو عدم وجوده، وكيفية هذا الوجود في حالة وجوده.
ويقول على سبيل المثال بأن «الزمان هو مقياس الحركة في ما يتعلّق بما قبل وما بعد» وهذا التعريف يمكّن أرسطو من التأكيد بأنّ الزمان كائن حقيقي، وذلك لأنّه كيان يندرج ضمن تصنيف (الكمّية). فالزمان بالنسبة للحركة أو التغيّر هو كالطول بالنسبة للخطّ، ولهذا فالزمان كائن من الكائنات الموجودة، لكنّه، ككلّ مفردات أيّ تصنيف غير جوهري، موجود بشكل غير مستقلّ، فلو لم يكن ثمّة خطوط لما كان ثمّة طول، كذلك لو لم يكن ثمّة تغيّر لما كان ثمّة زمنية. غير أن هذه البحوث المنطقية قادت أرسطو إلى طريق فرعي أو طريق جديد مما جعله يغير جذريا نظرته للمشكلة المطروحة، فإنسياقه وراء هذه المقولات أدى إلى تحول الكينونة من كينونة الكائن إلى كينونة الجوهر، أي البحث عن العلة الأولى لما هو كائن، أو ما يجعل الكائن كائنا. وبذلك تتحول الميتافيزيقا إلى ثيولوجيا، ويتحول بحثه الأنطولوجي إلى بحث معرفي - إيبستيمولوجي.
أرسطو أراد البحث عن الأسس الأولية والقواعد المتينة لإمكانية أية معرفة تتمتع بصفة "الحقيقة"، وهذه الأسس تتجاوز حتما كل معرفة خصوصية ومتعينة، فإذا كان موضوع المعرفة هو كل ما يمكن إثباته، فلا شك أن المباديء التي من خلالها وبواسطتها يمكن إثبات وجودية وحقيقية أي موضوع أو ظاهرة، لايمكن في حد ذاتها أن تكون موضوع تحقيق وإثبات، وإلا فإن سلسلة الإثباتات ستكون لا نهائية، وبالتالي إستحالة إثبات أي شيء على الإطلاق، والمنهج الذي يعالج هذه المباديء وينظمها معتمدا على أسس تحتاج إلى إثبات سيكون منهجا يفتقد للعلمية والمصداقية نظرا لإستحالته منطقيا، وفي نفس الوقت، المنهج الذي يعتمد على مباديء بديهية يفتقد للعلمية بدوره، نظرا لنسبيته ولكونه خارج حدود النفي والإثبات.
إن اعتماد أرسطو على المسلّمات endoxa يكتسب أهمّية إضافية إذا أخذنا بعين الاعتبار ما تؤدّيه من دور في الجدل (الديالكتيك)، والذي يعتبره أرسطو شكلًا مهمًّا من أشكال الاستدلال غير العلمي. فالجدل، كما هو العلم (epistêmê) يتعامل بالاستنتاج المنطقي، لكنّ العلم يتطلّب مقدّمات منطقية تتجاوز نطاق الاستدلال الجدلي المعتاد؛ فبينما يعتمد العلم على مقدّمات ضرورية ومن المعلوم أنّها ضرورية، يمكن للنقاش الجدلي أن ينطلق بالاعتماد على المسلّمات، فلا يمكنه أن يزعم بموثوقيته إلّا وفقًا لمدى موثوقية المسلّمات التي يعتمد عليها.
ويرى أرسطو بأنّ هذا الأمر ليس من المشكلات المهمة، وذلك لأنّنا في كثير من الحالات نمارس الاستدلال على نحو مقبول في ظروف لا يمكننا أن نزعم فيها بوصولنا إلى فهم علمي دقيق موثوق. لكن يمكن القول على أدنى التقادير بأنّ كلّ أنواع الاستدلال، سواء كانت علمية أم جدلية، لا بدّ لها أن تعتمد مبادئ المنطق والاستنتاج.
هذه هي الإشكالية التي كان على الفلسفة أن تتجاوزها وذلك بأن تشرّع لنفسها، وتقرر ولو تعسفيا، بأن الميتافيزيقا هي العلم الأولي والفلسفة الأولى والتي تمتلك المنظومة الفكرية التي لا تحتاج إلى شرعية الإثبات ولا إلى أية عمليات برهانية. هذه الفلسفة الماورائية أتخذت في واقع الأمر إتجاهين أو طريقين متوازيين: الطريق الأول والمتعلق في تحليل أسس وقواعد الأشياء وكل الكائنات المتواجدة واقعيا والذي يهدف إلى بناء نظرية شاملة لتفسير الكون أو الكوزموس. أما الطريق والإتجاه الثاني فهو محاولة إكتشاف الأسس والقواعد الأولية للمعرفة، أي الوسائل العقلية التي تضمن صحة وحقيقة الأحكام والنتائج. وكما قلنا سابقا فإن هذه الفلسفة الأولى الأرسطية قد تحولت تدريجيا إلى ثيولوجيا في طريقها الأول، وتحولت إلى منطق في إتجاهها الثاني. وستستمر هذه الإزدواجية طوال تاريخ الفلسفة المتعرج حتى كانط الذي وضع الأمور في نصابها ووجه الفكر الفلسفي عموما تجاه المعرفة وتنظيم القواعد الأساسية التي تسمح بإمكانيتها.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد لهجة خطاب القادة الأوروبيين حيال إسرائيل في قمة بروكسل


.. شاهد كيف ستختلف المناظرة الرئاسية بين بايدن وترامب عن 2020




.. تدريبات إسرائيلية تحاكي حربا على أرض لبنان.. وأميركا تحذر مو


.. رغم تهديد بايدن.. شحنات سلاح أميركية في الطريق لإسرائيل




.. في ظل شبح ترامب.. صناديق الاقتراع في إيران تستعد لتقول كلمته