الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من جسد السلطة إلى سلطة الأجساد: الجسد، الفرد والذات عند ميشال فوكو (الجزء الثامن والأخير)

أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)

2024 / 6 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ضد القراءة البتلرية لهذا المقتطف، يمكن مع ذلك أن نؤكد على أخذ فوكو في الاعتبار، وحتى عندما ينوي التفكير في المقاومة، للتنظيم الخطابي الأساسي للجسدية. إن الجسد الفردي، الجسد الذاتي، جسد السجن والمصحة ذاتها، هي في الواقع جاهزيات خطابية، ومن هنا فقط تصير جسدا. إن جسد هيركولين باربين نفسه، خاصة عندما لا يتم اختراقه من قبل ثنائية الجندر، هو مع ذلك، وفقا لفوكو، "ذات بلا هوية لرغبة كبيرة في النساء"، جسد مفرد (بفتح وتشديد الراء) وذاتي من قبل تنظيم خطابي - حتى لو كان آخر ويوحي بمتع أخرى. ما يزال اعتراض بتلر أقل حسما، من حيث أنه يشير أيضا إلى صعوبة لا يمكن لخطاب الجاهزيات الجسدية حلها، وهي: إمكانية افتراض وجود مادية ما قبل فردية وما قبل ذاتية للأجساد في ما وراء هذه الجاهزيات. في حقيقة الأمر: إذا كانت السلطة تنتج أجسادا فردية بشكل خطابي، فإن هذه العملية تفترض في الوقت نفسه استثمار ما هو "أكثر مادية، وأكثر حيوية فيها"، وترويض "التعدديات المتنقلة، الغامضة، غير المفيدة" التي تكون منها. على المستوى المادي للجسيمات، كما على المستوى الحيوي لعلاقات السلطة، هناك إذن غموض عند فوكو يؤثر على الأساس الأنطولوجي للأجساد.
هذا الغموض سمح لدولوز بشكل ملحوظ بأن يفترض في فوكو حيوية مستوحاة من نيتشه. بعد الإشارة، في مونوغرافياه عن فوكو، إلى أن “الحياة تصبح مقاومة للسلطة عندما تأخذ السلطة الحياة كموضوع لها”، يعلق دولوز على هذه الأطروحة من خلال توضيحها، ولكن أيضا من خلال الإضافة إليها لإمكانية فهم الحياة كقوة خارج السلطة والتي قادته إلى التساؤل: «أليست القوة القادمة من الخارج فكرة معينة عن الحياة، حيوية معينة يبلغ فيها فكر فوكو ذروته؟». هذا السؤال ليس بلاغيا: إنه يندرج في المنظور الإشكالي الذي يحكم التلقي الديلوزي لكتاب "إرادة المعرفة" ، ويفترض تصور قوة الأجساد كقوة “من الخارج” من شأنها أن تفلت من أجهزة السلطة. لكن مثل هذا التصور يعني أيضا تجاوز التأكيد الظرفي الصارم الذي بموجبه متى - وفقط متى - تأخذ السلطة الحياة كموضوع لها، عندها تصبح الحياة مقاومة للسلطة.
نتمثل إذن مشكلة القراءات التي تعارض مادية الأجساد مع خطابية السلطة في الفصل وجوديا بين مفهومين لا يستطيع فوكو أن يفكر فيهما إلا معا، أي حرفيا يوجد أحدهما داخل الآخر. في مقابل مثل هذه القراءة، من الممكن منذئذ التأكيد على عدم قابلية خطابية الأجساد للتجاوز؛ ولكن من الممكن أيضا التفكير في حيوية المعيار، وبالتالي السلطة نفسها. تم تطوير هذا الاحتمال الأخير، على وجه الخصوص، من قبل بيير ماشيري، الذي يقرأ في محايثة وإنتاجية السلطة الفوكوية علامة على معيارية، من خلالها لا ينتج المعيار مجال تطبيقه فحسب، بل ينتج نفسه أيضا وهو بصدد إنتاجه.
إن المعيارية التي يوضحها دولوز عند فوكو، مع إشارة هامة إلى كانغيلام وسبينوزا، تقترب من شكل من أشكال الحيوية، فيه، مع ذلك – التدقيق مهم – لا توجد القوة الحيوية مسبقا في التنظيم الاستعدادي الذي تنتج فيه. "قوة الحياة هي بالفعل ما يتعلق الأمر به هنا، طالما أن هذه القوة ليست ماهوية، أي مختزلة بشكل أسطوري إلى حالة قوة حيوية قد تكون قوتها موجودة سابقا قبل جميع التأثيرات التي تنتجها". من هذا المنظور، إذا كانت هناك بالفعل أولوية معيارية للسلطة، فلا ينبغي فهم هذه الأولوية بالمعنى الجوهري لقوة تعتبر بمثابة خزان طاقي، بل بالمعنى العلائقي لعلاقة معينة بين القوى، يتم بالفعل إنتاجها في جاهزية محددة، وتمنح السلطة فاعليتها. لهذا السبب، لا يمكن النظر إلى سلطة الأجساد وفق نموذج جسيمي، انطلاقا من فرادات ما قبل فردية، كما هو الحال مع دولوز: فهو يوظف بالأحرى تكوينا جديدا لهذه العلاقات، وطرقا أخرى في "التجسد".
هذه الطرق الأخرى في "التجسد" تعمل مرة أخرى على استدعاء الفرد والذات، لكن الأمر يتعلق بعد ذلك بالتفكير جديا في فكرة أنه "حيثما توجد السلطة، توجد المقاومة، وأنه مع ذلك، أو بالأحرى من هنا بالذات، لا تكون الأخيرة أبدا في وضع برانية بالنسبة إلى السلطة". تعني هذه القضية، قبل كل شيء، أن مقاومة السلطة تبلغ ذروتها في السلطة، وأن السلطة على نحو متبادل تتمثل بالكامل في ترابط نقاط المقاومة: إنها، باختصار، الاسم الذي يطلق على جاهزية محايثة، أي على استعداد معين للقوى في حقل استراتيجي معين. لكن السلطة تعني أيضا في الوقت نفسه العملية الإنتاجية التي تتصدر هذا التوزيع: أي لم تعد مجرد أجهزة فعالة، بل استعدادات تنجز. ولهذا السبب فإن المقاومات، باعتبارها مواجهات للسلطة التي تجانسها، هي نقاط كثيرة متنقلة وانتقالية، تدخل في المجتمع انقسامات، تحول، تفكك الوحدات وتؤدي إلى إعادة التجمع، وتتقاطع مع الأفراد أنفسهم، تقوم بتقطيعهم وإعادة تشكيلهم، ورسم مناطق غير قابلة للاختزال فيهم، في أجسادهم وفي روحهم. وبالتالي فإن صفحات " إرادة المعرفة " المخصصة للمقاومة هي إشارة إلى أن هذا ليس أكثر - ولكن ليس أقل أيضا - من تركيز استراتيجية أخرى، وترتيب آخر للسلطة يمكنه، بالتالي، أن يفرز بشكل إيجابي تنظيمات جسدية أخرى. علاوة على ذلك، يمكن لهذه التنظيمات الجسدية أن تكون فردية واجتماعية أيضًا: الشيء الأساسي، من وجهة نظر فعاليتها، هو أن نتيجتها الطبيعية هي فوق كل أشكال التذويت الأخرى. لأنه بقدر ما تقدم السلطة أخيرًا إمكانية إنتاج خطاب على جسد المرء، فإن الاستئناف الانعكاسي لأجهزتها يمكن أن يؤدي إلى خطابات مضادة بالإضافة إلى سلوك مضاد. وهكذا ينفتح، انطلاقا من التفكير في التعبير عن قوة الجسد، ولكن بما يتجاوز ذلك بالفعل، طريق ممارسة الذات التي سيعمقها فوكو أكثر في نهاية السبعينيات ثم في الثمانينيات.
في ضوء هذه الأبحاث الأخيرة، يجب اعتبار الأمر القاضي باتخاذ الأجساد والملذات كنقطة دعم للهجوم المضاد بمثابة دعوة لاستثمار علاقات القوة بشكل مختلف، دون الرغبة في ربطها بالوحدة، ولكن دون إهمال الرهان التكتيكي الذس يكشف عنه إنتاج أشكال أخرى من التذويت. إذا أمكننا أن نتحدث عن جسد سلطة، فذلك في الواقع بمعنى تقسيم هذه العلاقات إلى طبقات داخل جهاز له تأثير تجميدها، بحيث تأخذ جسدا في وحدة – سواء كانت هذه الوحدة جماعية في الجسد الاجتماعي أو فردية في الجسد التشريحي.
لا تتعارض جسدية السلطة مع التأكيد على أن “السلطة غير موجودة”: يشير هذا التعبير إلى وحدة الجاهزية العلائقية؛ ويتيح لنا أن نؤكد في الوقت نفسه على جسدية المواجهة المتحركة دوما لهذه العلاقة. إنما بهذا المعنى يؤكد فوكو بالمثل على قوة الأجساد، المؤسسة إما على عدم قابلية هذه المواجهة للاختزال أو على الإمكانية المتجددة دوما للتجسد بشكل مختلف: في هذا التكوين، تحلل الأجساد إلى أفراد ثم إلى ذوات.يمكن بدوره أن يكون بمثابة منفذ لتحويل السلطة تكتيكيًا ضد نفسها. لذلك يبدو أننا نرى هنا فرقًا مهمًا بين أنطولوجيا دولوز الحيوية وطريقة فوكو في النظر إلى المقاومة. إن الحل الذي قدمه فوكو للمشكلة العملية التي أردنا تحديدها يلقي الضوء، رجوعا، على الصعوبة الأنطولوجية: المقاومة، في هذا الإطار، وعلى النقيض من دولوز، تتمثل أولا في "التجسد" بشكل مختلف، بدلا من من "اختلاق جسد بلا أعضاء".
(انتهى)
المرجع:https://journals.openedition.org/philosophique/1782








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قرارات بتطبيق القانون الإسرائيلي على مناطق تديرها السلطة الف


.. الرباط وبرلين.. مرحلة جديدة من التعاون؟ | المسائية




.. الانتخابات التشريعية.. هل فرنسا على موعد مع التاريخ ؟ • فران


.. بعد 9 أشهر من الحرب.. الجيش الإسرائيلي يعلن عن خطة إدارة غزة




.. إهانات وشتائم.. 90 دقيقة شرسة بين بايدن وترامب! | #منصات