الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ثورة بغداد المنسية 1831- المحطة المبكرة في بزوغ العراق الحديث
فراس ناجي
باحث و ناشط مدني
(Firas Naji)
2024 / 6 / 24
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
مرّت علينا في 13 حزيران ذكرى ثورة بغداد في 1831، ذات الطابع الوطني التحرري المرتبط بمسار التحول نحو الدولة الوطنية الحديثة للعراق، لكن رغم ذلك ذكراها ظلت في الغالب منسية سواء من قبل الجمهور العام، أو جمهور المثقفين، أو حتى المؤرخين والمفكرين.
لقد كانت حقبة المماليك في العراق (1749-1831) متميزة عن باقي العهد العثماني بحكمهم الذاتي العراقي المتصاحب مع جهود نوعية أكثر من الحكام الجدد نحو نشر الأمن والنظام وخدمة الصالح العام. غير إن أكثر ما ميّز هذه الحقبة من منظور الاجتماع السياسي هو بدأ التفاعل السياسي للفواعل المجتمعية العراقية مع منظومة الحكم في العراق وتأثيرها على تداول السلطة بين الحكام المماليك بعيداً عن تأثير الباب العالي في إسطنبول. وكان هذا التفاعل مقروناً بتقوية مجتمعات المدن الحضرية على حساب المد العشائري الريفي، وبالتالي إلى تعاظم النشاط المدني؛ فقد تأسست العديد من مدن العراق المهمة في عهد المماليك مثل السليمانية وكويسنجق والديوانية والكوت والحي والسماوة وسوق الشيوخ، بالإضافة الى تصاعد قوة الحكومة في بغداد، وتوطد سلطة الحكومات المحلية في هذه الحقبة. فقد أسفر كل ذلك عن الشروع في تحول وعي العراقيين – خاصة النخب وفي الأوساط الحضرية - من النمط الجماعي الضيّق المستند على قوة التقاليد والنَسب والتماهي الجماعي والانفعالي مع الزعيم الكاريزمي، الى النمط المجتمعي الحديث بخصائصه الطوعية والاندماجية وبعلاقاته على أساس التراضي أو المصالح المشتركة.
كان التفاعل السياسي الغالب للفواعل المجتمعية العراقية في عهد المماليك نخبوياً، فعندما زحف الوزير (والي بغداد في زمن المماليك) سليمان الكبير من البصرة الى بغداد لتوطيد سلطته في 1780، سانده ثويني السعدون شيخ المنتفق، وشيخ العبيد سليمان الشاوي، وسليمان باشا الجليلي والي الموصل، وعثمان بك ابن محمود باشا أمير بابان. لكن ثويني وسليمان الشاوي اختلفا مع الوزير سليمان الكبير وشكّلا جبهة عشائرية واسعة ضمت شيخ الخزاعل حمد الحمود في 1787، فهاجموا البصرة واحتلوها وشكلوا فيها حكومة عربية، وأعلنوا استقلالهم عن حكومة بغداد؛ غير إنهم انهزموا بعدها.
لكن، كان هناك أيضا تفاعل سياسي لعامة الأهالي في بغداد مثل اضطرابات عام 1778 بعد وفاة الوزير عبد الله باشا، حيث انقسم الأهالي الى جماعة تؤيد قائد المماليك الكتخدا السابق اسماعيل كهية ضمت محلات باب الشيخ ورأس القرية والشورجة، ضد مجموعة أخرى ضمت محلات الميدان والمهدية والقره غول دعمت محمد العجمي بتأثير ممثل الباب العالي سليم أفندي، ثم تفاقمت الاضطرابات بانضمام العشائر والقوات المحلية الى هذا النزاع فاستمرت هذه الحرب الأهلية خمسة أشهر.
لقد كان داود باشا آخر حكام المماليك (1817-1831)، معروفاً باهتمامه بالعدل والنظام، ورعاية العلماء ودور العلم فبلغت المدارس في عهده ثمانية وعشرين معهداً كبيرا للتدريس، وأسس مطبعة وأصدر جريدة، مع بناء وتعمير المساجد والجوامع مثل جامعي الحيدرخانة والأزبك الحاضرين لحد اليوم؛ كما بنى جيشاً متعدد القوات بتسليح حديث حافظ به على حكمه شبه المستقل عن الدولة العثمانية، ونجح في الحد من الطموحات الإيرانية التوسعية. كما كان للعراق حينها موقعه الجيوسياسي المتميز، فكانت له علاقات قوية بدول أوروبا بحيث كانت "شخصية المقيم البريطاني في بغداد أبرز نسبياً من شخصية السفير البريطاني في إسطنبول" (حسب ستيفن لونكريك في كتابه أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث)، كما كان الأوربيون يعدّون ديوان داود باشا يفوق بلاط السلطان العثماني في إمارات الثروة والثقافة والترف.
لكن الأقدار تلاعبت بكل خطط داود باشا للدفاع عن حكمه الذاتي للعراق، ففي حين كان جيش السلطان العثماني بقيادة علي رضا باشا يتقدم نحو بغداد لعزل داود باشا وإنهاء حكم المماليك، تفشى الطاعون في بغداد وفتك بالناس بدون تمييز بمن فيهم جيش المماليك، كما أُصيب به داود باشا الذي لازم الفراش وظل عليلاً طوال مدة حصار بغداد. كذلك فاض نهر دجلة ودخلت المياه البيوت وهدمت الكثير منها.
أمّا البغداديون فقد حسموا أمرهم على المقاومة وعدم التنازل عن الامتيازات والحصانات التي اكتسبوها خلال مدة حكمهم الذاتي وخاصة الأمن والعدل والرفعة. فبدأت الأحداث عندما تظاهر بضع مئات من البغداديين بقيادة نقيب الحضرة الكيلانية محمود أفندي بكامل أسلحتهم رفضا لتسليم داود باشا الى جيش السلطان. فانظّم إليهم الأهالي حتى بلغوا بضعة آلاف، ثم التحق بهم المماليك بضمنهم أحمد أغا رئيس القوات النظامية، والقائد العسكري الفرنسي ديفو وكذلك الملا حسين قائد قوات القلعة وجميع أفراد عشيرة العقيل الذين كانوا يمثلون الجنود المشاة غير النظاميين لجيش داود باشا، مع العديد من علماء ووجهاء بغداد مثل أبو الثناء الآلوسي الذي أصبح فيما بعد مفتي بغداد. وبذلك تعاضد البغداديون بمختلف فئاتهم الاجتماعية من أجل هدف سياسي مشترك هو الدفاع عن بغداد ضد جيش السلطان وقرروا بعد المداولة أن يكتبوا الى الباب العالي بأن يتولى صالح بك (ابن الوزير سليمان الكبير) الولاية وبأنهم يتعهدون بالصرف على جنود الحكومة العراقية وأن يقدموا ما استحق عليهم من الديون السابقة مع بدل نقدي عن العفو السلطاني لتمردهم هذا. وكان من اللافت هو انضمام مقاتلين من عشيرة عقيل إلى قوات الدفاع عن بغداد ضد مقاتلين آخرين من نفس العشيرة كانوا تحت قيادة سليمان الغنام مع جيش السلطان، وهذا يشير الى تجاوز العصبية القبلية التقليدية إلى هوية اجتماعية-سياسية أوسع، مع صعود الوعي المجتمعي على أساس التوافقية والتضامن وليس الانفعال الجماعي.
ورغم احراز معسكر المدافعين عن بغداد لبعض الانتصارات الأولية، لكن انخراط العامة في القتال بصورة انفعالية وغير منضبطة، بالإضافة الى طول الحصار الذي تجاوز الثلاثة أشهر مع الإنهاك وقلة التموين الذي أصاب البغداديين؛ أدّى الى اضعاف معنويات البعض الذين تعاونوا مع جيش السلطان وفتحوا أبواب بغداد ليدخلها المهاجمون بدون مقاومة تذكر، ويتم القضاء على الثورة وعلى تجربة الحكم الذاتي العراقي.
لقد عدّ سليمان فائق – من مؤرخي النصف الثاني من القرن التاسع عشر - حكم المماليك في العراق كحكم ذاتي للعراقيين، وأشار في كتابه "تاريخ بغداد" الى عراقية سليمان باشا مؤسس حكم المماليك بأنه "نشأ وترعرع في العراق"، كما عدّ زوال حكمهم انتزاع "المُلك من أيدي العراقيين" وحرمانهم "من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها قبل ذلك". كما أشار الى سعي العراقيين الى الانفصال والاستقلال بعد زوال حكم المماليك، عازياً ذلك الى سياسة التعسف والظلم لمن بعدهم. ولعل تحليل سليمان فائق كان قريباً الى الصواب اذا أخذنا في الاعتبار الانتفاضات التي قام بها العراقيون بعد سقوط حكم المماليك رفضاً للحكم العثماني المباشر، مثل ثورة عبد الغني آل جميل – مفتي بغداد في عهد علي رضا باشا والي بغداد الذي قضى على حكم المماليك - في بغداد 1832، ومحاولة عزيز أغا – متسلم البصرة السابق – الزحف الى بغداد وازاحة علي رضا باشا في 1833، واستيلاء يحيى باشا الجليلي على الموصل في 1834-1835 وثورة الموصل في 1839 بقيادة أعيان المدينة وعلماءها.
لكن سلطة الاحتلال البريطاني – التي أصدرت جريدة العرب في1917 في بغداد - بالتشارك مع ناشطي النزعة القومية العربية الذين سعوا الى استقلال الولايات العربية عبر التعاون مع الإنكليز، عملوا على نشر فكرة إن تاريخ العراق العثماني – ومن ضمنه فترة المماليك – كان عبارة عن احتلال تركي جابهه العراقيون باستمرار بالثورات والعصيان. فكانت المفارقة إن ثورة بغداد هذه، تم تجاهلها في كتابات معظم مختصرات تاريخ العراق بعد تأسيس الدولة العراقية مثل "خلاصة تاريخ العراق" لأنستاس الكرملي في 1919 و"موجز تاريخ البلدان العراقية" لعبد الرزاق الحسني في 1933 و"العراق في التاريخ" (جزء من كتاب جغرافية العراق لطه الهاشمي في 1930).
في المقابل، اهتم بعض المؤرخين العراقيين بهذا الحدث وتوسعوا فيه مثل عباس العزاوي في كتابه "تاريخ العراق بين احتلالين" 1934، الذي رأى في عصر المماليك حكماً مختلفاً عن بقية العهد العثماني برز فيه العراق بوجه سياسي وثقافي مميز مع دور معين للأهالي ونوع من الإنجازات الإيجابية من خلال "جهود للنفع العام من احياء الحضارة والثقافة ومراعاة وسائل العمارة، فنال القطر رفاها واكتسب نظاما". أما علي الوردي في كتابه "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" (الجزء الأول 1969)، فعلى الرغم من اهتمامه بحقبة حكم المماليك لاعتبارهم لأنفسهم "بغادّة" أصليين وانخراط فئات مختلفة من المجتمع البغدادي في الصراع بينهم على السلطة، لكن الوردي ركّز على الجوانب الاجتماعية لحكمهم وفق منظوره المستند على الصراع بين البداوة والحضارة (أو القديم والجديد) في تحليله المعروف للمجتمع العراقي. فبالنسبة للوردي، كان تفسيره الاجتماعي لجميع العراقيين في حقبة حكم المماليك – سواء كانوا من الحضر أو الريف الزراعي أو البدو، نخبة أو من العامة – انهم متأثرين بالروح العشائرية والقيم البدوية ولا يعرفون الوطنية أو التكافل المجتمعي العابر للفئوية. فكان رأيه ان أهالي بغداد انما حاربوا جيش السلطان العثماني لإتبّاعهم لرؤساء المحلات وأشقيائهم بعاطفتهم وليس بالضرورة لوعيهم بالدافع السياسي أو الوطني، ما جعله يتعارض في تقييمه هذا حتى مع تقييم المؤرخ سليمان فائق مع ان هذا الأخير كتب "تاريخ بغداد" قبل حوالي قرن من كتاب علي الوردي، وكان قد عاصر حكم المماليك وثورة بغداد في 1831 وما جرى بعدها من أحداث.
ان الرؤية التحليلية لحقبة حكم المماليك في العراق هي جزء مهم من السردية التاريخية للعراق الحديث والتي يتم توظيفها لخدمة الأهداف السياسية لمختلف الأطراف. فمساندو نظام المحاصصة المكوناتية بعد 2003 ينظرون الى هذه الحقبة كجزء من عهد الاحتلال التركي، إما من منظور طائفي يركز على ثورات القبائل الشيعية ضد هذا الاحتلال ومناصريه من العراقيين السنّة، متناسين ان زعماء هذه القبائل كانوا من السنّة أيضا وساند الكثير منهم الحكام المماليك؛ أو من منظور قومي كردي يركز على ثورات الإمارات الكردية ضد الدولة العثمانية متناسين أيضاً ارتباط هذه الإمارات ببغداد في هذه الحقبة ومساندة الكثير من الزعماء الكرد للحكام المماليك.
لقد كانت حقبة المماليك بمثابة حكم ذاتي للعراقيين تشكل خلاله إقليم العراق العثماني الذي ربط جغرافية العراق كما نعرفه اليوم بالعاصمة بغداد سياسياً واجتماعياً، كما شكّلت ثورة بغداد في 1831 حدثاً فارقاً تفاعل فيه العراقيون بمختلف فئاتهم مع الأحداث السياسية ودافعوا عن حكمهم الذاتي، بما يشير الى بوادر نشوء وعي وانتماء وطني لهذا الإقليم. وهذا كلّه يعمل على تعضيد السردية التاريخية الوطنية للعراق الحديث على اعتبار إن إقليم العراق العثماني يمثل العمق الجغرافي والتاريخي لمفهوم العراق الحديث الذي شكّل الأساس للدولة العراقية في 1921؛ خاصة عند الإخذ بالحسبان إن الحكم العثماني المباشر كان قد أبقى هيكلية إقليم العراق التي كانت في حقبة المماليك، لكن كإطار إداري جامع شبه مندمج يدعى "خطة العراق" ووحدة أمنية عسكرية بعنوان "جيش العراق" تحت قيادة والي بغداد.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. محمد نبيل بنعبد الله يستقبل السيد لي يونزي “Li Yunze”
.. الشيوعيون الروس يحيون ذكرى ضحايا -انقلاب أكتوبر 1993-
.. نشرة إيجاز - حزب الله يطلق صواريخ باتجاه مدينة قيساريا حيث م
.. يديعوت أحرونوت: تحقيق إسرائيلي في الصواريخ التي أطلقت باتجاه
.. موقع واللا الإسرائيلي: صفارات الإنذار دوت في قيساريا أثناء و